جريدة الرؤية العمانية:
2025-07-12@14:59:07 GMT

"وأنَّ الحرب آخرُها سلام"

تاريخ النشر: 19th, May 2024 GMT

'وأنَّ الحرب آخرُها سلام'

 

 

د. سليمان بن خليفة المعمري

يُقال إنَّ "الحياة مُصمَّمة بحيث لا يكون آدم لوحده"؛ لذلك لا بُد من وجود الآخر، ولابد من التفاعل مع هذا الآخر؛ فالإنسان "اجتماعي بطبعه"، ولا يمكنه العيش منعزلًا عن الناس، مُنكفئا على ذاته، بعيدا عن أحداث الحياة وتفاعلاتها؛ فالإنسان يخسر الكثير من الفضائل والميزات حينما يُوْصِد على نفسه الأبواب ويحشر نفسه في قالب من الجمود والانغلاق عن الآخر.

وقد نوَّه الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وأشاد بمن يعيش بين الناس ويتفاعل معهم، ويتلقى مختلف سلوكياتهم وأحوالهم بالقبول والتفهم والرِّضا، فعن عبدالله بن عمر، قال عليه الصلاة والسلام: "المؤمنُ الذي يُخَالِطُ الناسَ ويَصْبِرُ على أَذَاهُمْ، خيرٌ مِنَ الذي لا يُخَالِطُ الناسَ، ولا يَصْبِرُ على أَذَاهُمْ" (رواه ابن ماجه)، وقد أشارتْ الدراسات إلى أنَّ اعتزالَ الناس والاحتجاب عنهم مدعاة للاضطراب النفسي والاعتلال الصحي، وكم أصاب الكاتب القدير أحمد خالد توفيق حينما قال: "الحل الوحيد للمشاكل النفسية هو: لا تكن عاطلا.. لا تكن وحيدا"، لكل ذلك فإنه لابد من بناء علاقات اجتماعية راشدة مع الناس تَضْمَن الاستفادة القصوى والاستثمار الأفضل لعلاقاتنا معهم.

ولعلَّ من أهم أسس العلاقات الاجتماعية الناجحة هو العمل بمبدأ "أنا لست أنت"؛ فنسمح بمساحة من الاختلاف، ونتقبل وجود التنوع في الرؤى والممارسات والتوجهات الحياتية الفكرية والثقافية والسلوكية؛ إذ إنَّ ما تشهده البشرية في الواقع من تقدُّم وتطور حضاري، وما نلمحه في عالمنا من إبداع وجمال أخَّاذ في ثقافات وحضارات الأمم والشعوب، ما كان ليحدث لولا تعدُّد الأذواق وتباين الثقافات؛ فالاختلاف ثراء، والتنوع قوة، وصدق الله العظيم إذ يقول في محكم التنزيل: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ" (هود:118و119)؛ أي خلقهم للاختلاف؛ لذا فحتى تكون علاقتنا بالآخر متزنة راشدة، فإنه يجب ألا يؤدي الاختلاف إلى الخلاف والتنازع والضغينة والخصام، وليكن "الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية" شعارنا الذي لا نحيد عنه.

وإنَّ من أسس العلاقات الاجتماعية الراشدة أيضا: ألا ننسى ما حيينا معروفا قُدِّم إلينا وإحسانا أسداه الآخرون لنا، فنعبِّر لهم عن الشكر والامتنان، ونحفظ لهم عشرتهم الجميلة وصحبتهم الطويلة معنا، يقول الإمام الشافعي -رحمه الله: "الحر من راعى وداد لحظة، أو تمسك بمن أفاده لفظة"، فهذا السلوك مما تستدام به الصحبة والأخوة وتحفظ به العلاقة مع من نحب، إلا أنه وللأسف هناك من ينطبق عليهم ما قاله أحدهم: "إن بعض الأشخاص يصعدون درجات السلم، فما إن يصلوا أعلاه، حتى يزدروا هذه الدرجات التي صعدت بهم إلى القمة"، فتراهم يتنكرون لكل جميل وفضل قدمه الآخرون وينسبون ما حازوه من تقدم وإنجاز لذواتهم فقط دون إشارة أو ذكر للآخر، فما أقبحه من جحود، وما أسوأه من نكران جدير بأن يقوِّض كل علاقة وود مع الآخر.

ومن الركائز المهمة والقواعد المتينة في بناء العلاقات الاجتماعية: أن نجعل خطابنا وحديثنا مع الآخر يفيض بالحكمة والرصانة والعقلانية؛ فتكون كلماتنا مغلفة بالود، مكسوة باللطف، حتى تلقى القبول والترحاب من قبله؛ إذ إنَّ الكلمات هي أقوى العقاقير التي تستخدمها البشرية، وبإمكانها أن تكون دواءً وبلسما للجراح، أو أن تُخلِّف جروحا غائرة وشروخا وندوبا عميقة في العلاقات الاجتماعية والشخصية، وقد أوصانا البارئ جل شأنه بانتقاء أعذب الكلام وأحسنه، فقال عز من قائل: "وَقُل لِّعِبَادِى يَقُولُواْ ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ كَانَ لِلْإِنسَنِ عَدُوًّا مُّبِينًا" (الإسراء:53)، فلننتقِ كلماتنا ولنختَر أطايب الحديث لتنفتح لنا قلوب وعقول الآخرين ونفوز بمودتهم ورضاهم، وحتى لا تصاب علاقاتنا بالجفاف وتخلو من الدفء الإنساني، فالواقع أنّ "من يجد الحب لا يرحل".

كما أن من قواعد العلاقات الاجتماعية الناجحة التغافل عن الزلات والبعد عن الضغائن والخصومات والمشاحنات، وفي الحديث الشريف: "تجافوا عن عثرات الكريم"، وقد صدق الشاعر حين قال:

نسيانك الجاني المسيء فضيلة

وخمود نار جدّ في إشعالها

فاربأ بنفسك والحياة قصيرة

أن تجعل الأضغان من أحمالها

وإنَّ التشفِّي من الآخرين حينما يُخطؤون في حقنا هو "طرف من العجز"، والأجدر بنا أن نقدر الضعف البشري، وأن نلتمس العذر لمن قصر في حقنا، وعلى رأي المفكر الفرنسي أندريه مالرو: "الإنسان هو ما يفعله وليس ما يفعله به الآخرون"، والحق أنَّ الجميع خاسر في معارك الحياة الهامشية، وقد صدق من قال: "إنَّ المنتصر في المعركة ليس رابحا، لكنه أقل هزيمة من خصمه".

وختامًا.. لنتذكَّر على الدوام أنَّ الإنسان ما هو إلا ذكرى طيبة وسيرة حسنة، فهناك من رحل عن دنيانا وترك ميراثا من السيرة الطيبة وسجلا حافلا من الذكريات الجميلة والعكس، وقد كان من دعاء أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام: "وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ" (الشعراء:84)، وأنه حتى يعيش الإنسان في سلام نفسي وهناء وراحة بال وألا يكتوي بنيران الخصومة والشقاق، فعليه أن يحافظ على علاقة اجتماعية ناضجة مع الآخر، وأن يجعل نُصب عينه الوعد الرباني الكريم: "عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ۚ وَٱللَّهُ قَدِيرٌ ۚ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"(الممتحنة:7)، وكم أصاب شاعر الطلاسم إيليا أبو ماضي حين قال: "وأن الحرب آخرها سلام".

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

انطلاق منتدى «الرعاية الاجتماعية» بأبوظبي 24 سبتمبر

أبوظبي (الاتحاد)

أخبار ذات صلة حاكم عجمان: المجالس بيئة مثالية تعزز الروابط الاجتماعية سعود بن صقر يستقبل قنصل عام نيوزيلندا

أعلنت دائرة تنمية المجتمعأبوظبي عن موعد انعقاد النسخة الثانية من منتدى الرعاية الاجتماعية، الذي يأتي تحت شعار «الجاهزية المستقبلية في الرعاية الاجتماعية.. الإنسان والممارسة والسياسة» والمقرر تنظيمه يومي 25-24 سبتمبر المقبل في فندق هيلتون ياس أبوظبي.
ويُعد المنتدى الأكبر من نوعه في مجال الرعاية الاجتماعية على مستوى الإمارة، حيث يستقطب نخبة من الخبراء وصنّاع القرار والمختصين المحليين والدوليين في القطاع الاجتماعي، لمناقشة أبرز التوجهات والمستجدات في هذا القطاع الحيوي، وذلك انسجاماً مع مستهدفات عام المجتمع 2025.
وقال مبارك العامري، المدير التنفيذي لقطاع الترخيص والرقابة الاجتماعية في دائرة تنمية المجتمع: مثّلت النسخة الأولى من منتدى الرعاية الاجتماعية منصة رائدة على مستوى المنطقة، جمعت تحت مظلتها نخبة من المختصين المحليين والدوليين، وأسهمت في تعزيز الحوار الاستراتيجي القائم على المعرفة والتجربة العملية. وفي النسخة الثانية، نواصل البناء على هذا الزخم، من خلال تعميق النقاشات وتوسيع دائرة المشاركة حول مستقبل منظومة الرعاية الاجتماعية.
وأضاف: يركّز المنتدى هذا العام على محاور رئيسية تشمل: استشراف مستقبل السياسات الاجتماعية، وتمكين القوى العاملة، وتعزيز الممارسات القائمة على البيانات، إلى جانب مناقشة دور الشراكات، والتكنولوجيا، والابتكار في بناء حلول اجتماعية مستدامة. كما يتقاطع المنتدى مع مستهدفات عام المجتمع 2025، من خلال دعم الأسرة والمجتمع، وتعزيز التماسك والرفاه الاجتماعي.
ويستعرض المنتدى في نسخته الثانية مجموعة من المحاور الحيوية التي تواكب التوجهات المستقبلية في قطاع الرعاية الاجتماعية، وتشمل: دور الحكومات في تشكيل مستقبل الرعاية الاجتماعية، والتحول الرقمي والذكاء الاصطناعي في تقديم الخدمات ومدى تأثيره على عاملين ومنشآت الرعاية الاجتماعية، وتمكين القوى العاملة المتخصصة، وتعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص، إلى جانب قضايا مجتمعية ناشئة مثل حماية الطفل، والترابط الأسري، كما يُسلّط المنتدى الضوء على أهمية تبنّي نماذج رعاية مجتمعية شاملة قائمة على الأدلة، تستجيب لاحتياجات الفئات المختلفة في المجتمع، بما في ذلك الأطفال، والشباب، وكبار المواطنين، والأسر.
كما يُركّز المنتدى على موضوعات متعددة مثل استقطاب الكفاءات الشابة، وتعزيز بيئات العمل الداعمة للعاملين، وتطوير برامج دعم استباقية تغطّي مختلف مراحل الحياة. كذلك يُناقش المنتدى التجارب الدولية الناجحة في السياسات الاجتماعية، ويُخصص مساحة مهمة لاستعراض تجارب العاملين في الميدان وتسليط الضوء على النماذج المبتكرة القابلة للتطبيق.
وتشمل الجلسات التفاعلية عروضاً تطبيقية ونقاشات مباشرة من الجمهور، تتناول محاور متنوعة مثل رعاية كبار المواطنين، وتمكين الأسر، وتنمية الشباب، وقياس أثر السياسات الاجتماعية. 
ويقدم المنتدى برنامجاً تدريبياً متخصصاً عبر مسارات معتمدة، يشمل مواضيع حيوية أبرزها: توظيف الذكاء الاصطناعي في خدمات الرعاية الاجتماعية، حماية الطفل والكشف المبكر عن المخاطر، إدارة الحالات من منظور الوعي بالصدمات، والرعاية الأسرية المتمركزة حول الطفل والوالدين.
وتمثّل هذه البرامج فرصة نوعية لتعزيز كفاءة المشاركين وبالأخص مهنيو الرعاية الاجتماعية، وصقل مهاراتهم العملية ضمن مسار تطوير مهني يمتد إلى ما بعد أيام المنتدى.

مقالات مشابهة

  • تحقيق أولي يكشف عن أسباب تحطم الطائرة الهندية
  • بين الاستشراق والاستغراب: حين نكون موضوعًا بلا أدوات
  • أردوغان: العالم الذي صمت مع سربرنيتسا يكتفي بمشاهدة الفظائع في فلسطين
  • أردوغان: العالم الذي صمت مع سربرنيتسا ويكتفي بمشاهدة الفظائع في فلسطين
  • التحول الكامل.. قصة الفنان الذي يعيش حياة المشاهير في باريس
  • حاكم عجمان: المجالس بيئة مثالية تعزز الروابط الاجتماعية
  • انطلاق منتدى «الرعاية الاجتماعية» بأبوظبي 24 سبتمبر
  • اليوم حرب وغدا خوف.. ما الذي يعنيه أن تقصف تل أبيب؟
  • سلام شامل أو حرب شاملة
  • والي ولاية الخرطوم يُعزي أسرة الشهيد حامد نبيل حامد الذي راح ضحية غدر بدافع السرقة