العراق يتقاعس عن تعيين ذوي الاعاقة.. هيومن رايتس ووتش "تتحرى" مصيرهم
تاريخ النشر: 4th, June 2024 GMT
الاقتصاد نيوز - بغداد
قالت "هيومن رايتس ووتش" اليوم إن العراق يتقاعس عن تنفيذ قوانينه الوطنية التي تضمن حقوق العمل للأشخاص ذوي الإعاقة، ما يجعل حصص الوظائف المخصصة للعراقيين ذوي الإعاقة غير مستغلة ويترك مئات الآلاف عاطلين عن العمل.
لدى كل من العراق الاتحادي وحكومة إقليم كردستان قوانين تحدد حصة دنيا قدرها 5% من وظائف القطاع العام للأشخاص ذوي الإعاقة.
قالت سارة صنبر، باحثة العراق في هيومن رايتس ووتش: "الوعود القانونية بتوظيف الأشخاص ذوي الإعاقة في العراق لا تُترجم إلى فرص عمل حقيقية. الفجوة بين القانون والممارسة تجعل مئات آلاف العراقيين ذوي الإعاقة يكافحون من أجل كسب لقمة العيش."
بين ديسمبر/كانون الأول 2023 ومارس/آذار 2024، قابلت هيومن رايتس ووتش ثلاثة نشطاء في مجال حقوق ذوي الإعاقة، وستة عراقيين من ذوي الإعاقة، ومترجمة لغة إشارة، وصاحب عمل يُوظّف أشخاصا ذوي إعاقة، وثلاثة موظفين حكوميين حول حق العراقيين ذوي الإعاقة في العمل.
في 2019، قدّرت "لجنة حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة"، التي تُراقب المعاهدة الدولية ذات الصلة، أن في العراق أحد أكبر أعداد الأشخاص ذوي الإعاقة في العالم، نحو 3 ملايين شخص، نتيجة عقود من النزاعات المسلحة. خلفت احتجاجات 2019 أيضا نحو 25 ألف جريح، منهم نحو 5 آلاف لديهم إعاقات دائمة.
في العراق الاتحادي، يخصص القانون رقم 38 لسنة 2013 5% من وظائف القطاع العام و3% من وظائف القطاع الخاص للأشخاص ذوي الإعاقة. في إقليم كردستان العراق، يخصص القانون رقم 22 لسنة 2011 أيضا 5% من وظائف القطاع العام للأشخاص ذوي الإعاقة ويُشجّع توظيف الأشخاص ذوي الإعاقة في القطاع الخاص من خلال تغطية نصف رواتب الموظفين لمدة ثلاثة أشهر. لا تُحصي الحكومة العراقية عدد الأشخاص ذوي الإعاقة الذين يعيشون في البلاد أو معدلات توظيفهم.
قالت منظمات حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في العراق الاتحادي لـ هيومن رايتس ووتش إنها تعزي عدم تنفيذ القانون رقم 38 لسنة 2013 إلى تقاعس "هيئة رعاية ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة"، وهي مؤسسة تابعة لـ "وزارة العمل والشؤون الاجتماعية" مكلفة بضمان تنفيذ القانون. بينما تتحمل الهيئة المسؤولية الأساسية عن تطبيق القانون رقم 38، إلا أنها غير قادرة على القيام بذلك بمفردها.
ذكرت مديرة الهيئة ذكرى عبد الرحيم لـ هيومن رايتس ووتش إن الهيئة ومجلس الخدمة العامة الاتحادي يفتقران إلى السلطة لإنفاذ القانون، ويعتمدان على الوزارات الحكومية في تخصيص وتعيين العدد المطلوب من الوظائف للعراقيين ذوي الإعاقة. قالت إن بعض الوزارات لا تُنفذ التزاماتها أو تجعلها أولوية، رغم أن الهيئة تدرس اتخاذ إجراءات قانونية ضد الوزارات التي لا تلتزم بهذه الحصص.
في القطاع الخاص، يُعاقَب أصحاب العمل الذين لا يلتزمون بحصة التوظيف البالغة 3% بغرامة قدرها 500 ألف دينار عراقي (حوالي 382 دولار أمريكي)، بموجب المادة 20 من القانون رقم 38. إلا أنه لم تُفرض قط أي غرامات على أي جهة، بحسب عبد الرحيم.
يوجد في إقليم كردستان العراق 77,065 شخصا مسجلين على أنهم من ذوي الإعاقة، كان 13,249 منهم يعملون في القطاع العام حتى نهاية 2022، وفقا لوثيقة قدمها منسق التواصل مع الجهات الدولية في حكومة إقليم كردستان ديندار زيباري إلى هيومن رايتس ووتش. وهذا يمثل ما نسبته 2% فقط من إجمالي عدد موظفي الحكومة البالغ 658,189، وهو أقل بكثير من الحصة المقررة البالغة 5% التي ينص عليها القانون رقم 22 لسنة 2011.
في القطاع الخاص في إقليم كردستان العراق أيضا، يعتبر الامتثال للقانون رقم 22 غير كافٍ. قال المدافع عن حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في الإقليم ديلير كوي لـ هيومن رايتس ووتش إنه يحاول إقناع الشركات ومديري المشاريع الخاصة بتوظيف الأشخاص ذوي الإعاقة لكن دون جدوى في كثير من الأحيان.
قال كوي: "غالبا ما يتردد أصحاب العمل في دمج الأشخاص ذوي الإعاقة في القوى العاملة لديهم بسبب تصورهم للتكاليف العالية لخلق بيئات عمل ملائمة. بالإضافة إلى ذلك، هناك نقص في الضغوط الحكومية لإجبار هذه الشركات على توظيف الأشخاص ذوي الإعاقة".
لم يُطلع زيباري هيومن رايتس ووتش على أعداد الأشخاص ذوي الإعاقة العاملين في القطاع الخاص.
يتعين على الحكومة العراقية اتخاذ الخطوات المناسبة لتوظيف الأشخاص ذوي الإعاقة في القطاع العام وتعزيز توظيفهم في القطاع الخاص، مثلا من خلال برامج العمل الإيجابي، والحوافز، والمبادرات لتعزيز فرص العمل الهادفة للأشخاص ذوي الإعاقة. ينبغي للحكومة إنشاء آليات مراقبة للوزارات لتقديم تقارير دورية عن أدائها في الوفاء بحصة التوظيف والتزاماتها الأخرى بموجب القانون رقم 38 والقانون رقم 22.
قالت هيومن رايتس ووتش إن الحصص في حد ذاتها غالبا ما تكون غير كافية لتفكيك أو معالجة عوائق التوظيف التي يواجهها الأشخاص ذوو الإعاقة، وبالتالي ينبغي أن تقترن بإنفاذ التشريعات الأخرى المتعلقة بعدم التمييز والمساواة، فضلا عن الدعم والتمويل لخلق بيئات عمل ملائمة.
قالت صنبر: "رغم أن العراق لديه أكبر عدد من الأشخاص ذوي الإعاقة في العالم، إلا أن السلطات العراقية لا تلبي احتياجاتهم. ينبغي للحكومة ضمان ألا يكون التزامها بتوفير فرص العمل للعراقيين ذوي الإعاقة وعدا فارغا".
القانون رقم 38 في العراق الاتحاديقالت هيومن رايتس ووتش إن العديد من الوزارات تقاعست عن الوفاء بالتزاماتها بموجب القانون رقم 38. مثلا، لا تجمع وزارة التخطيط العراقية بانتظام بيانات حول عدد الأشخاص ذوي الإعاقة الذين يعيشون في البلاد، رغم أن هذا الإجراء منصوص عليه في المادة 15 (9) من القانون رقم 38، ورغم الطلبات المتكررة من الهيئة للقيام بذلك، بحسب عبد الرحيم.
لا تجمع وزارة العمل والشؤون الاجتماعية بيانات حول معدلات توظيف العراقيين ذوي الإعاقة في القطاع العام أو الخاص. يعمل نحو 5 ملايين عراقي، أو 39% من القوى العاملة في العراق، في القطاع العام. للوفاء بحصة الـ 5% المقررة قانونا، يجب أن يشغل الأشخاص ذوو الإعاقة ما لا يقل عن 250 ألف وظيفة من هذه الوظائف.
رغم غياب رقم دقيق لعدد العراقيين ذوي الإعاقة الذين يشغلون وظائف في القطاع العام بشكل إجمالي، لم تستوفِ أي وزارة حصة الـ 5%، وفقا لوثيقة أطلع عليها ممثل عن مجلس الخدمة العامة الاتحادي هيومن رايتس ووتش. قالت عبد الرحيم لـ هيومن رايتس ووتش إن هيئة رعاية ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة بدأت تتتبّع التعيينات في 2019، ومنذ ذلك الحين عُيِّن 1,434 شخصا فقط من ذوي الإعاقة في وظائف في القطاع العام.
قال موفق الخفاجي، رئيس "تجمع المعوقين في العراق" لـ هيومن رايتس ووتش: "عندما نطلب من مجلس الخدمة العامة الاتحادي توظيف المزيد من الأشخاص ذوي الإعاقة، غالبا ما يجيبون بأنه لا توجد فرص عمل كافية".
في سبتمبر/أيلول 2023 افتتحت الهيئة منصة التوظيف المباشر بالتعاون مع المجلس لتسهيل توظيف خريجي الجامعات من ذوي الإعاقة. خصص المجلس أيضا حقلا في استمارة التقديم الإلكترونية للقطاع العام حيث يمكن للمرشحين الإشارة إلى حالة الإعاقة لديهم.
قالت عبد الرحيم إنه لم يتم توظيف أحد حتى الآن من خلال هذه المنصة.
دور النشطاء: قصة نجاحفي غياب إجراءات حكومية قوية، أخذ النشطاء المحليون في مجال حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة على عاتقهم الضغط من أجل توفير المزيد من فرص العمل للعراقيين ذوي الإعاقة في القطاعين العام والخاص.
يدير موفق الخفاجي، رئيس تجمع المعوقين في العراق، ورش عمل لتثقيف أصحاب العمل في القطاعين العام والخاص حول حقوق التوظيف للأشخاص ذوي الإعاقة، وتشجيعهم على توظيف الأشخاص ذوي الإعاقة.
بعد إحدى ورش العمل هذه، قرر محمد علي المياحي، الرئيس التنفيذي لشركة "مخابز باب الآغا" في بغداد، الاستجابة لدعوة الخفاجي إلى التحرك بهذا الخصوص. قال المياحي لـ هيومن رايتس ووتش: "في البداية، قمنا بتعيين خمسة موظفين صم، ولم ينقطعوا عن العمل. رأينا أنهم يعملون بشكل جيد للغاية، لذلك قمنا بتعيين خمسة موظفين آخرين ليصبح العدد عشرة. والآن وصلنا إلى 30 موظفا أصما تقريبا، وما زال بابنا مفتوح للتوظيف. كفاءتهم وطاقتهم عالية جدا. يجب علينا أن نضمن أن هؤلاء الناس يمكنهم أن يعيشوا حياتهم مثل أي شخص آخر هنا في العراق. آمل أن تحذو جميع الشركات حذونا".
عيّن المياحي أيضا فاطمة محمد (22 عاما) للعمل كمترجمة لغة إشارة للموظفين. تعلمت فاطمة لغة الإشارة من والديها الصم، ما ألهمها للدفاع عن حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة. قالت فاطمة: "في البداية، كانت هناك تحديات في التواصل بين الموظفين الصم والموظفين الذين يسمعون. لكنهم [الأشخاص الذين يسمعون] بدأوا في تعلم لغة الإشارة، والآن يتواصلون مع الموظفين الصم حتى عندما لا أكون موجودة!"
قال موظفون صم لدى باب الآغا لـ هيومن رايتس ووتش إن عملهم كان له تأثير إيجابي هائل على حياتهم. قالت شيماء (24 عاما) لـ هيومن رايتس ووتش: "منذ أن تم تعييني هنا، تغيرت حياتي. اليوم، أستطيع التواصل مع الناس وكسب العيش والاعتماد على نفسي".
قالت شمس (28 عاما): "نأمل أن نكسر كل الحواجز أمامنا. نحن نعلم أننا أذكياء ويمكننا القيام بجميع أنواع العمل، لكن الكثير من الناس يعتقدون أننا غير قادرين على العمل. نحن ممتنون لباب الآغا لأنه رأى أننا مجتهدون وقادرون على العمل وتحقيق أهدافنا".
لتشجيع المزيد من امتثال القطاع الخاص لهذا القانون، اقترح الخفاجي فرض غرامات على أصحاب العمل الذين لا يستوفون الحصة، وربط إصدار تراخيص الأعمال أو تجديدها بالامتثال لحصة التوظيف البالغة 3%، ومنح مزايا وحوافز للقطاع الخاص مقابل توظيف الأشخاص ذوي الإعاقة، مثل الإعفاءات الضريبية.
القانون رقم 22 في إقليم كردستان العراقتتولى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية تسجيل الأشخاص ذوي الإعاقة في إقليم كردستان العراق وإصدار بطاقة هوية تسمح لهم بالتقدم بطلب للحصول على دفعة شهرية قدرها 100 ألف دينار(حوالي 76 دولار) إذا كانوا يعملون أو 150 ألف دينار (115 دولار) إذا كانوا عاطلين عن العمل. نتيجة للخلافات المستمرة بشأن الميزانية مع بغداد والتي أعاقت قدرة حكومة إقليم كردستان على دفع الرواتب والمزايا الاجتماعية، فإن الأشخاص ذوي الإعاقة في الإقليم لا يتلقون هذه الدفعة الشهرية باستمرار.
خلال مبادرة توظيف حكومية كبيرة في 2013، حثّ كوي وزارة التخطيط على احترام الالتزام بنسبة الـ 5%، وهو ما كان يعني تخصيص حوالي 250 من هذه الوظائف الجديدة للأشخاص ذوي الإعاقة.
قال كوي إن وزارة التخطيط أخبرته أنه تم توظيف أقل من عشرة أشخاص من ذوي الإعاقة في نهاية المطاف. قال إنه في غياب إجراءات التنفيذ، لا يمكن فعل أي شيء لإلزام وزارة التخطيط بالامتثال للحصص.
قال فرحان شمو (34 عاما)، الذي لديه إعاقة جسدية ويعيش في مخيم للنازحين في دهوك، لـ هيومن رايتس ووتش إنه بعد أن أنهى دراسته الثانوية في 2007 التحق بكلية العلوم السياسية في "جامعة الموصل"، لكنه لم يتمكن من إكمال دراسته بسبب التحديات، منها التمكن من استخدام المباني الجامعية.
رغم تقدّمه لوظائف عدة في القطاعين العام والخاص منذ ذلك الحين، إلا أن شمو لم ينجح في الحصول على وظيفة. وقال شمو: "أعلم أن هناك قانونا يضمن حصول الأشخاص ذوي الإعاقة على فرص العمل. لكن عندما تكون هناك وظائف شاغرة في القطاع العام، فإنني أتقدم بطلب مثل أي شخص آخر".
التقاعس عن استيفاء حصص التوظيف يعني أن مئات آلاف العراقيين ذوي الإعاقة، مثل شمو، يعانون من البطالة.
إنفاذ حصص التوظيفينص الدستور العراقي على أن جميع المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات، ويضمن لكل شخص من ذوي الإعاقة الحق في التحرر من كافة أشكال التمييز، ويتيح لهم فرص تطوير قدراتهم والانخراط في تنمية المجتمع.
تُلزم المادة 27 من "اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة"، التي صادق عليها العراق في 2013، الدول الأطراف بالاعتراف بحق الأشخاص ذوي الإعاقة في العمل على قدم المساواة مع الآخرين، ويشمل هذا الحق إتاحة الفرصة لهم لكسب الرزق في عمل يختارونه أو يقبلونه بحرية في سوق عمل وبيئة عمل منفتحتين أمام الأشخاص ذوي الإعاقة وشاملتين لهم وميسّرة لاحتياجاتهم. لتحقيق ذلك، ينبغي للحكومات اتخاذ الخطوات المناسبة لتوظيف الأشخاص ذوي الإعاقة في القطاع العام وتعزيز توظيفهم في القطاع الخاص. قد تشمل هذه البرامج برامج العمل الإيجابي والحوافز والمبادرات المختلفة لتعزيز فرص العمل الهادفة للأشخاص ذوي الإعاقة.
يمكن استخدام حصص التوظيف كشكل من أشكال العمل الإيجابي لتعزيز تكافؤ الفرص للأشخاص ذوي الإعاقة وحقهم في العمل. مع ذلك، غالبا ما تكون الحصص في حد ذاتها غير كافية لتفكيك أو معالجة العوائق التي يواجهها الأشخاص ذوو الإعاقة في التوظيف، وينبغي أن تقترن بإنفاذ تشريعات أخرى تتعلق بعدم التمييز والمساواة، لتجنب توظيف الأشخاص ذوي الإعاقة كمجرد إجراء شكلي وفصلهم عن الآخرين في مكان العمل.
المصدر: وكالة الإقتصاد نيوز
كلمات دلالية: كل الأخبار كل الأخبار آخر الأخـبـار حقوق الأشخاص ذوی الإعاقة فی إقلیم کردستان العراق الخدمة العامة الاتحادی لـ هیومن رایتس ووتش إن للأشخاص ذوی الإعاقة العراق الاتحادی من وظائف القطاع فی القطاع الخاص من ذوی الإعاقة وزارة التخطیط أصحاب العمل عبد الرحیم فی العراق فرص العمل غالبا ما إلا أن
إقرأ أيضاً:
تدشين الاستراتيجية الوطنية للمعايير المهنية: خطوة نحو سوق عمل أكثر كفاءة
د. منصور القاسمي **
شهدنا مؤخرًا حفل تدشين الاستراتيجية الوطنية للمعايير المهنية، الذي نظمته مشكورةً وزارة العمل في إطار جهودها الحثيثة لبناء نظام وطني موحد للكفاءات، بالتعاون مع الجهات المعنية الأخرى في سلطنة عُمان. ويُعد هذا الحدث انطلاقة حقيقية نحو التميز، ودفعة مهمة لتعزيز سوق العمل بكفاءات ومهارات مهنية تخصصية تتماشى مع متطلبات رؤية عُمان 2040.
ومن المهم أن نُدرك أن المعيار الوطني المهني هو وثيقة مرجعية تُحدد المعارف والمهارات والسلوكيات المطلوبة لأداء وظيفة أو مهنة معينة ضمن سوق العمل. وبالتالي، فإن بناء معايير مهنية وطنية متكاملة لا يُعد ترفًا تنظيميًا، بل هو ضرورة استراتيجية واقتصادية تساهم في توحيد التوصيف الوظيفي، تسهيل فهم مؤهلات الكوادر لدى الشركات والمؤسسات، تمكين مؤسسات التعليم والتدريب من تطوير برامج تتماشى مع متطلبات السوق، رفع جودة الأداء المهني من خلال تحديد الحد الأدنى المقبول من الكفاءة، زيادة الإنتاجية وتقليل الأخطاء التشغيلية،
فعلى سبيل المثال، في القطاع اللوجستي بدولة مثل سنغافورة، أسهم تطبيق نظام المعايير المهنية في رفع نسبة التوظيف المحلي بأكثر من 25% خلال خمس سنوات، إلى جانب تقليل الاعتماد على العمالة الوافدة في الوظائف التشغيلية.
ويُعد القطاع اللوجستي في السلطنة من أكثر القطاعات نموًا وأهمية، وينبغي أن يُشكّل نموذجًا يُحتذى به في التكامل بين الجهات الحكومية والقطاع الخاص والمؤسسات المهنية. ولا شك أن مشاركة كل من المركز المعني باللوجستيات التابع لوزارة النقل والاتصالات وتقنية المعلومات، والجمعية العُمانية للخدمات اللوجستية، في حفل التدشين، تعكس مدى أهمية هذا القطاع الذي نعوّل عليه كثيرًا ليكون ثاني أكبر مصدر للناتج المحلي بعد قطاعي النفط والغاز.
ويبقى السؤال: ما الخطوة التالية بعد تدشين الاستراتيجية؟
هل سنكتفي بما تحقق ونركن إلى الظروف والتحديات؟ أم أننا سنشهد تحركًا واسعًا لتسريع توظيف الباحثين عن عمل في جميع القطاعات؟
بعيدًا عن التعقيد والبيروقراطية، يمكننا تطبيق حلول عملية وسريعة من خلال إطلاق برامج تدريبية قصيرة مقرونة بالتشغيل، تمتد من 3 إلى 9 أشهر، مبنية على المعايير المهنية، وتركز على القطاعات التي ترى وزارة العمل إمكانية سريعة في تعمين وظائفها. فعلى سبيل المثال في القطاع اللوجستي، تتوفر فرص متعددة في تخصصات مثل، إدارة المخازن، إدارة أسطول النقل، تحليل البيانات اللوجستية، تشغيل أنظمة التتبع، والإدارة الجمركية وغيرها الكثير. كما يمكن تبسيط إجراءات الاعتراف بالخبرات السابقة للعاملين في هذا القطاع الذين لم يحصلوا على شهادات مهنية رسمية، عبر مسار "الاعتراف بالمهارات المكتسبة من الخبرة". والأهم من ذلك، يجب على الحكومة دعم الشركات العُمانية المملوكة بنسبة 100% للمواطنين، سواء فنيًا أو ماليًا، بشرط التزامها بتشغيل الكوادر الوطنية بالكامل في مواقعها التشغيلية.
ووفقًا للمعطيات الحالية، يُقدّر أن القطاع اللوجستي في السلطنة قد يوفر أكثر من 15,000 فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة خلال العامين المقبلين، لاسيما مع توسع الموانئ، والمناطق الحرة، والنشاط السياحي والعمراني المتزايد.
ومع ذلك، لا تزال نسبة التعمين في بعض الأنشطة اللوجستية أقل من 30%، وهو ما يكشف عن وجود فجوة حقيقية في التأهيل والتدريب والتشغيل.
إن الاستراتيجية الوطنية للمعايير المهنية تُعد فرصة ذهبية لإعادة ترتيب المشهد المهني في السلطنة، وتوحيد الجهود لبناء منظومة مهنية متماسكة تستند إلى أسس علمية متينة وتخدم مستهدفات رؤية "عُمان 2040". لكن تحقيق هذه الأهداف يتطلب تنسيقًا فعالًا بين جميع الجهات المعنية، إلى جانب تفعيل أدوات الحوكمة، والرقابة، والتعمين، وتوفير الدعم المستمر. ونأمل أن يكون هذا الحدث نقطة انطلاق نحو مزيد من التكامل بين وزارة العمل وكافة الجهات في القطاعين العام والخاص، لضمان أن تكون هذه الاستراتيجية شاملة ومتكاملة، تعكس الواقع المهني للقطاعات المختلفة، وتُلبّي طموحات الكوادر الوطنية في وطننا العزيز.
** أكاديمي في علم اللوجستيات وسلاسل التوريد