فوز اليسار.. هل يتحالف ماكرون مع الفائز أم يناور سياسيا؟
تاريخ النشر: 9th, July 2024 GMT
باريس- بعد إعلان نتائج الجولة الثانية النهائية من الانتخابات التشريعية الفرنسية المبكرة، مساء الأحد، بفوز الجبهة الشعبية الجديدة بالمركز الأول وبـ182 مقعدا في الجمعية الوطنية، ساد شعور ممزوج بالمفاجأة والارتياح بين الفرنسيين، وبمخاوف مما ستؤول إليه الأوضاع السياسية.
وعلى عكس التوقعات السابقة، كانت النتائج أقل بكثير من طموح التجمع الوطني اليميني وحلفائه، ووجد نفسه في القوة السياسية الثالثة بـ143 مقعدا فقط داخل مجلس الأمة.
وبينما تسبب حل الجمعية الوطنية في خسارة "الماكرونية" للأغلبية النسبية التي كانت تتمتع بها، إلا أن الائتلاف الرئاسي تمكن من الاحتفاظ بـ168 مقعدا وتجنب وصول أقصى اليمين إلى السلطة.
فهل سيسعى رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون إلى إنشاء تحالف مع اليسار الفائز أم أن لديه خططا أخرى؟
ديناميكية اليسارعلى الرغم من أن أقصى اليمين استطاع تلميع صورته وإثبات امتلاكه قاعدة انتخابية صلبة تمثل ثلث الفرنسيين، سواء خلال الانتخابات الأوروبية أو التشريعية، فإن هذه النسبة لا تكفي أمام التحالفات السياسية الأخرى.
وبعد هبوط التجمع الوطني إلى المركز الثالث وصعود التحالف اليساري إلى قمة الانتخابات التشريعية، قدمت الجبهة الشعبية الجديدة نفسها للرئيس ماكرون باعتبارها البديل الوحيد للحكم.
وفي هذا السياق، يرى الخبير في الشأن الفرنسي عمر المرابط، أن المشهد السياسي تغيّر بالفعل في فرنسا منذ إعلان الرئيس حل البرلمان. وقال للجزيرة نت، إن فوز تحالف اليسار كان من السيناريوهات المطروحة لأنه استطاع الاتحاد في فترة وجيزة جدا وانتهج ديناميكية جعلته يتحرك بفعالية، وأظهر أنه يعمل وفق مبادئ جمهورية وسياسية.
وأضاف المرابط أنه في حال وصول اليسار، كانت التوقعات أن يأتي أقصى اليمين ثانيا، لكن النتائج وضعت المعسكر الرئاسي في المركز الثاني لأنه استفاد مما يسمى بالجبهة الجمهورية، فضلا عن التعبئة التي تمت داخل المجتمع الفرنسي عامة وداخل الجاليات المسلمة والعربية على وجه التحديد.
وتابع أن اليسار حصل على معظم التصويت من الناخبين في التجمعات السكنية والمدن الكبرى مثل باريس ومارسيليا، في حين أن "فرنسا العميقة" صوتت لصالح التجمع الوطني، مما يعني أن تصويت الجالية العربية والمسلمة كان السبب الرئيسي لتحقيق هذه المفاجأة وفوز التحالف اليساري.
من ناحيته، يفسّر أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية بباريس زياد ماجد، صعود تحالف اليسار الذي فاجأ كل الذين رجحوا فوز اليمين المتطرف بأكثرية نسبية، بعدة أمور منها: التعبئة في أوساط الجيل الشاب الذي لا يريد يمينا متطرفا في السلطة، وكذلك التحالفات التي جرت "انتخابيا وليس سياسيا" بين اليساريين و"الماكرونيين"؛ إذ انسحب كل طرف للآخر حين أصبح في مواجهة اليمين المتطرف في الدور الثاني.
وفسّر ماجد، في حديث للجزيرة نت، هذا الصعود أيضا بالحملات السياسية "الناجحة" لليسار التي انجذبت لها شرائح انفضّت عنه في الماضي. لكن برأيه، هذا الصعود ليس كافيا لبلوغ السلطة بشكل مريح لأن الأكثرية النسبية التي حصل عليها اليسار تبقى ضئيلة، ولذلك سيكون هذا التيار مضطرا لنوع من المفاوضات مع "الماكرونيين" حول ملفات يمكن الاتفاق عليها أو تأجيل الخلاف حولها.
مناورة سياسيةوبعد لحظات قليلة من إعلان نتائج الانتخابات، أكد زعيم حزب "فرنسا الأبية" جان لوك ميلانشون أن الحزب الوطني الجديد "مستعد للحكم" بناء على "برامجه ولا شيء سوى برامجه". ورفض الدخول في مفاوضات مع الحزب الرئاسي، معتبرا أن "مكونات برامجه ارتقت إلى مستوى الحدث وأفشلت الفخ المنصوب للبلاد. وبطريقته الخاصة، أنقذ اليسار الموحد الجمهورية مرة أخرى".
وباعتقاد المحلل المرابط، فبإمكان اليسار الوصول إلى الحكم إذا حافظ على وحدته، مما يعني ضرورة تصرف ميلانشون بنوع من المرونة والتوافق لأن حزبه حصل على المركز الأول داخل التحالف وقد يحاول فرض مرشحه. وإلا -برأيه- سيكون التحالف مضطرا إلى اختيار شخصية من حزب "الخضر" لأن "فرنسا الأبية" لن تقبل ممثلا عن الحزب الاشتراكي.
ولفت الخبير السياسي إلى أن "الماكرونية" انتهت وأنه حتى لو أحيا المركز الثاني الحزب الرئاسي نسبيا، إلا أن ماكرون سيحاول المناورة من جديد من خلال تقسيم تحالف اليسار وتفكيكه، وتوقع أن يقترح تحالفا يقصي أقصى اليمين وحزب "فرنسا الأبية".
فخ المنافسةوقبل الجولة الأولى من الانتخابات، أشار مسؤولون داخل حزب "فرنسا الأبية" -أكبر أحزاب التحالف- إلى أنه في حال فوز تحالف اليسار بالانتخابات، سيتعين اختيار المرشح إلى قصر "ماتينيون" من المجموعة البرلمانية الأكثر أهمية، مما يثير مزيدا من التساؤلات بشأن "على من سيقع الاختيار ضمن الجبهة الشعبية الجديدة لاحقا؟".
ولهذا السبب، يتوقع الخبير في الشأن الفرنسي المرابط، وقوع مشاكل داخل اليسار بسبب المنافسة على أهم المناصب، موضحا أن "ماكرون لن يضيع الفرصة وسيعمل على إغراء الكثير منهم بهذه المناصب".
وقد تعهدت رئيسة الكتلة النيابية لحزب "فرنسا الأبية" ماتيلد بانو، بالاعتراف بفلسطين كدولة خلال الأسبوعين المقبلين.
ويأتي ذلك بعد تصريحات سابقة لماكرون ووزير خارجيته ستيفان سيجورنيه أوضحا فيها أن هذا الاعتراف "ليس من المحرمات بالنسبة لفرنسا، لكن باريس تعتبر أن الظروف غير متوافرة الآن ليكون لهذا القرار تأثير فعليٌّ على العملية الهادفة إلى قيام دولتين".
وبالتالي، يرى المرابط، أن هذه المسألة قد تكون من بين أهم الاختلافات المنتظرة بين معسكر ماكرون والتحالف اليساري في المستقبل، خاصة مع وجود توافق كبير بين أعضاء التحالف حول ضرورة قيام فرنسا بهذه الخطوة. وفي هذه الحالة، قد تشهد نوعا من التفاوض.
وفي هذه اللحظة السياسية، يتحدث أستاذ العلوم السياسية زياد ماجد عن عدة سيناريوهات أو مشاريع تحالف قد يلجأ إليها ماكرون، وأبرزها:
السيناريو الأول: هو إقناع الاشتراكيين وربما "الخضر" بالانضمام لتحالف معه، وفي الوقت نفسه إقناع اليمين التقليدي بالانضمام لنفس التحالف، الذي ستتضمن عناوين برنامجه العريضة تسويات كثيرة للفترة المقبلة والتي قد تمتد لعام أو عامين ريثما تتهيّأ الأمور لانتخابات رئاسية جديدة. وهنا، يستثني ماكرون حزب "فرنسا الأبية" الذي يقوده ميلانشون، وبالطبع يستثني أيضا اليمين المتطرف بقيادة لوبان وبارديلا. السيناريو الثاني: تشكيل حكومة تكنوقراط من دون لون سياسي لا تطلب الثقة من البرلمان، وتتبنى سياسات لا تستفز أي جهة على نحو يؤدي الى حجب الثقة عنها. السيناريو الثالث: الإبقاء على حكومة تصريف الأعمال حتى انتهاء الألعاب الأولمبية، وبعدها يبدأ ماكرون جولة نقاشات ومفاوضات جديدة بهدف رسم معالم المرحلة المقبلة ومفاوضة اليسار تحديدا على شكل الحكومة التي يمكن تشكيلها.ولكن، يعتقد ماجد أن كل السيناريوهات فيها صعوبات دستورية واحتمالات تعايش صعبة بين ماكرون وبين البرلمان الذي أعيدت إليه بعض الأهمية التي افتقدها حين كانت الأكثرية موالية للرئيس. "وحتى لو نجح ماكرون في إقامة تحالفات فإنها ستبقى مؤقتة ومحدودة، وقد تنفجر في أية لحظة".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات تحالف الیسار فرنسا الأبیة أقصى الیمین
إقرأ أيضاً:
أفكار حول الجذور العميقة للأزمة السياسية البنيوية
كثيرا ما تُتّهم السلطات في العالم العربي بأنها ترفض التعددية والقبول بالاختلاف وبالتضييق على الأجسام الوسيطة الممثلة للإرادة الشعبية والتي ترفض القبول بدور الأجسام الوظيفية، بل إنها لا تعترف بشرعية تلك الأجسام فتتعامل معها باعتبارها خطرا على "الوطن/الأمة" لا على النظام فحسب. وهو اتهام يجد في الوقائع التاريخية والمعيشة ما يمنح القائلين به حججا صلبة سواء قبل "الربيع العربي" أو بعد انتكاسته.
وليس يعنينا في هذا المقال تحليل الفلسفة السياسية "المُهجّنة" لتلك السلطات -بالمعنى السلبي للهجنة وليس بمعناها الإيجابي في الدراسات ما بعد الاستعمارية- بل مقصدنا هو المحاججة على أنّ الأزمة ليست سياسية في جوهرها، بل هي أزمة ثقافية/قيمية، وهي بالتالي ليست مجرد أزمة عرضية في ثقافة السلطة/الحكم، بل هي أزمة في بنية الثقافة التراثية ذاتها وفي كل السرديات التي علمنتها دون أن تنجح في تجاوزها جدليا، وهو ما يجعل من أي "معارضة" للسلطة مجرد مشروع متخيل للإصلاح وللتحرير؛ سرعان ما يتحول واقعيا إلى مشروع استبدادي جديد تهيمن عليه أقليات دينية أو أيديولوجية أو عسكرية أو قبلية أو جهوية كما هو معلومٌ من استقراء واقع السلطات العربية.
في المجتمعات التقليدية -أي مجتمعات ما قبل المواطنة- كان الفرد لا يحضر في الفضاء العام ولا يعامل فيه باعتباره هوية ذاتية، بل باعتباره جزءا من هوية جماعية دينية. وكانت حقوقه وواجباته تتحدد بناء على ذلك الانتماء بصرف النظر عن موقفه الشخصي منه، كما كانت الانتظارات الاجتماعية منه -سواء من لدن السلطة أو من لدن جماعته الدينية- هي ما يُشكّل نسق ذاته فيكون كل انحراف عن تلك الانتظارات مؤذنا بالوصم الديني أو بالعقوبات السلطوية. ولكن ثقافة "المواطنة" -على الأقل في المستوى النظري- تفترض حصول تغييرات جوهرية في النسق الثقافي التقليدي وفي أبنيته الموضوعية، وهو أمر لا يبدو أنه قد حصل بصورة كافية تجعل من الخطابات الإصلاحية/التحديثية تتجاوز الدعوى حتى في أكثرها انتقادا لذلك النسق. ولذلك فإن انهدام الأطر الاجتماعية والاقتصادية التقليدية وتغيير الأنظمة التشريعية وظهور نخب جديدة غير تقليدية، كل ذلك لم يكن يعني الخروج من "الاستعارة الرعوية" وما يسندها من أنساق فكرية وأنماط مخيالية، بل كان يعني أساسا علمنة تلك الاستعارة وتغيير مركز الثقل فيها -أي المركز البشري- ببناء سرديات "رعوية" مرتبطة بأقليات دينية وأيديولوجية وجهوية وعسكرية وقبلية حاولت تأسيس شرعيتها على سرديات تراثية أو غربية من جهة أولى، وادعاء تمثيل الجسد الاجتماعي برمته -لا فقط تمثيل المصالح المادية والرمزية للأقليات التي تنتمي إليها- من جهة ثانية.
في تونس، كانت الدولة-الأمة على النمط البورقيبي مشروعا "تحديثيا" تحرريا جامعا في الظاهر، ولكنها كانت في جوهرها دولة استعمار جديد، أو دولة الاستعمار غير المباشر. كان خطاب السلطة ونخبها خطابا وطنيا ولكن خيارات النظام كانت خيارات جهوية-ريعية-زبونية لا علاقة لها بمكونات الوطن بجميع فئاته وجهاته. ورغم افتتان الراحل بورقيبة بالفكر الغربي وباللائكية الفرنسية والتنوير.. الخ، فإنه قد اختار أن "يُتَونس" الغرب بصورة تكرس الاستبداد الشرقي في صيغة شبه معلمنة شبه دينية. أما من جهة علاقته بالفكر الديني، فإن بورقيبة قد أراد أن يُظهر نفسه أصوليا "مقاصديا" في مستوى التشريع، وهو في الحقيقة مجرد مترجم سيئ للتشريع الفرنسي وجذوره اليهو-مسيحية.
ولعل أكبر دليل على فشل التحديث البورقيبي -في مستوى الأبنية الذهنية قبل المستوى الواقعي- هو أن "الزعيم" الذي قاد مشروعا لمحاربة الفكر التراثي قد حوّل نفسه إلى "شيخ" وحوّل أتباعه إلى "مريدين". وهو ما جعل الدولة بمختلف أجهزتها مجرد "زاوية/ خانقاه" كبيرة تسبّح بحمد الزعيم وتنفذ "توجيهاته" وتفسر خطاباته وتبرر سياساته حتى عندما تكون متناقضة، كما جعل عملية "التوريث" أو انتقال السلطة محصورة في الدائرة المقرّبة جهويا/أيديولوجيا من "الشيخ-الزعيم".
إن "الزعيم/الشيخ" لا يخطئ، وهو رئيس في الظاهر -رئيس للدولة مدى الحياة مثلما أن الشيخ شيخٌ للزاوية ما بقي حيا- ولكنه رئيس لم يستطع أن يقمع الشيخ فيه، فبنى ضريحه/مزاره ليتحول إلى رمز شبه-ديني عند أتباعه، كما تحولت سرديته إلى سردية شبه مقدسة بحيث يكون انتقادها مهددا للوحدة الوطنية ومفضيا إلى الوصم السياسي بالتطرف أو اللاوطنية.
ورغم أن بورقيبة لم يبرر حكمه بمنطق "الإرادة الإلهية" بل بمنطق النضال والاستحقاق، فإن الاستعارة الرعوية ظلت ملازمة لمنطق الحكم. فبورقيبة ليس راعيا، ولكنه أب لكل التونسيين، ولا يمكن للأبناء التمرد على أبيهم أو إنكار سلطته مدى الحياة، وهو ما يجعل من أي انتقاد له يتجاوز -من منظور السلطة- مستوى المعارضة إلى مستوى "العقوق"، خاصة عندما يكون "الشعب" بالنسبة للزعيم مجرد "ذرات بشرية" -كما أعلن هو نفسه- قبل أن يُشكّل منهم أمةً.
إن خطاب الدولة-الأمة هو خطاب علماني في مفرداته، ولكنه خطاب ديني/تراثي في بنيته العميقة. فالزعيم هو "الراعي" (والراعي وحده من يملك الحقيقة ويعرف مصلحة رعيته)، وهو "الأب" (والأب سلطة مقدسة لا تقبل المعارضة والتمرد)، وهو "صانع الأمة" (مما يجعل "الأمة" محكومة بـ"دَين أبدي" لا يمكنها تسديده إلا بالطاعة المطلقة). وإذا كان الخطاب الديني ينكر إمكانية أي "نجاة" أو "خلاص" من خارج "الدين الصحيح" و"الفرقة الناجية"، فإن خطاب الدولة الأمة ينكر هو الآخر إمكانية "الخلاص" (بعد علمنة المفهوم وحصره في "عملية التحديث") خارج خيارات "الزعيم".
رغم ضمور المعجم الديني عند أغلب النخب السلطوية والمعارضة على حد سواء، فإن عمليتي التحديث والعلمنة التي قادتها أقليات دينية وغير دينية لم تكونا في جوهرهما إلا استصحابا لروح المعجم الديني التراثي، لا المعجم الديني القرآني، كما لم تكونا إلا تشويها للمعجم الفكري الحديث حتى تحولت أغلب مفاهيمه إلى مفاهيم سيئة السمعة على حد تعبير المرحوم عبد الوهاب المسيري. فإرادة الله لم تخرج من التاريخ، ولكنها تعلمنت لتصبح هي "الإرادة الشعبية" أو "الحتمية التاريخية" أو "الواجب الوطني" أو "الإنقاذ" أو "التصحيح" "التحرير" أو "اللحاق بركب الدول المتقدمة" أو مقاومة "الرجعية والظلامية".. الخ. ولا شك عندنا في أننا أمام بدائل معلمنة للإرادة الإلهية، وأمام تخليق زائف لجوهر السلطة اللا شعبي واللا شرعي. وهي في تقديرنا بدائل تحتاجها "الأقليات" لبناء شرعيتها وللتغطية على دورها الحقيقي في أنظمة سايكس-بيكو، خاصة في هذه اللحظة المتصهينة للإمبريالية. ولكن هل تمتلك "المعارضات" فعلا مشاريع مختلفة عن مشاريع السلطات القائمة؟ وهل تخلص زعماء تلك المعارضات من الشيخ-الزعيم الذي لم يفارق أي حاكم مهما تعملن خطابه؟
إن الإجابة عن هذا السؤال بالنفي أو الإثبات تحتاج إلى مجهودات نظرية تتجاوز الفرد، ولكن تلك المجهودات يمكن أن تستأنس ببعض الأسئلة التوجيهية التي قد تساعد على تحييد الانحيازات التوكيدية للمشتغلين عليها. فهل تخلصت الثقافة العربية من منطق أحادية الحق؟ هل تتعامل النخب -بمختلف مرجعياتها الأيديولوجية- مع من تتوجه إليهم باعتبارهم مشاريع مواطنة أم باعتبارهم مشاريع رعايا؟ كيف يمكن بناء "مواطنة" دنيوية في ثقافة تضيق أخراها بجميع المختلفين دينيا، بل هي تضيق باثنتين وسبعين فرقةً من المنتمين إلى تراثها الديني ذاته وترمي بهم في النار؟ هل إن المعارضة هي معارضة لمنظومة الاستعمار الداخلي، أم هي في جوهرها معارضة لواجهاتها السياسية ورغبة في الاعتراف بها ضمن "الوكلاء المعتمدين" في أنظمة الاستعمار الداخلي؟ هل إن كيانات سايكس-بيكو أو ما يُسمّى بالدول الوطنية هي سقف ممكن للتحرر أم إنها عائق بنيوي يحول دونه؟ هل إن أصحاب السرديات الكبرى يستطيعون بناء مشروع تحرري جامع، والحال أن علة وجودهم ذاتها ترتبط نظريا بصراعاتهم الهوياتية وبمنطق التنافي والإلغاء المتبادل، وترتبط واقعيا بما يقدمونه من خدمات لأنظمة الاستعمار الداخلي أو بما يمثلونه من خطر استراتيجي على وجودها ذاته؟
إنها أسئلة تتجاوز المستوى السياسوي الصرف، ولكنها تُمثل -في تقديرنا- شرط انبثاق حقل سياسي أساس فاعليته النقد المزدوج للفكر/المخيال التراثي من جهة، وللتعريب المشوَّه/ المشوِّه للأنساق الفكرية الغربية من جهة أخرى.
x.com/adel_arabi21