المجتمع وروافع ثقافة التعليم والتدريب المهني
تاريخ النشر: 3rd, August 2024 GMT
يحتل موضوع التعليم والتدريب المهني نقاشًا موسعًا في العقود الأخيرة في قلب سياسات التعليم وسياسات سوق العمل، وتتباين دوافع الدول في وضع سياسات وخطط استراتيجية وبرامج لتعزيز اتجاهات الطلبة والأسر نحو التعليم والتدريب المهني؛ بين الحاجة إلى سد احتياجات أسواق العمل من المهارات الفنية المتخصصة، أو إيجاد تنوع في مخرجات التعليم بين القدرات المؤهلة للعمل في المجالات التي تتطلب مهارات فنية متخصصة، والمجالات التي تستوجب شهادات أكاديمية؛ بما يؤدي لتخفيف الضغط على البرامج الأكاديمية، وهناك دوافع اقتصادية من خلال دفع الطلبة إلى امتلاك المهارات التي تستوجبها آليات الإنتاج في الاقتصاد، أو الحاجة إلى وجود قوى بشرية مؤهلة لتحقيق (الدفعة الاستراتيجية) أو ما تعرف في التنمية الاقتصادية بـ(استراتيجية الدفعة القوية) لقطاع اقتصادي ناشئ ومليء بالفرص، أو إحلال القوى العاملة الوطنية محل القوى العاملة الأجنبية في القطاعات التي تتطلب مهارات متفاوتة المستوى.
ولذا يبدو وضع سياسات متكاملة للتعليم والتدريب المهني من أعقد عمليات صنع السياسات العامة؛ ذلك أنها تتطلب تحقيق قدر عالٍ من التناغم مع القطاعات والسياسات الأخرى. إن الدول التي حققت نجاحات في سبيل تعظيم أثر التعليم والتدريب المهني على التنمية الاقتصادية كانت تتحرك في إطار متناغم؛ بين أسر ومجتمعات تقدر قيمة هذا الشكل من أشكال التعليم، وسياسات تشغيل وسوق عمل مرنة تستوعب التغيرات في المهارات وطبيعة الطلب على الشهادات المهنية، ومنظومات اعتماد أكاديمي تحدث في البرامج المهنية والشهادات بشكل مستمر وفقًا لحاجة الاقتصاد، ونظم تعليمية متجددة تستخدم النموذج الثنائي Dual system تستدمج البرامج المهنية في التعليم النظري منذ مراحل التعليم الأولى. وبالعودة إلى الثقافة المجتمعية فإن هناك عشرات العوامل التي يمكن أن تشكل عوامل إما رافعة أو مثبطة لنجاح نظم التعليم والتدريب المهني؛ فالقيم والنظرة الاجتماعية إلى مسارات المهن والوظائف التي يسلكها خريجو التعليم والتدريب المهني تشكل أهم المؤثرات في نجاح هذه النظم، والتسويق الجيد لتجارب النجاح عبر وسائط التوعية الوطنية تعتبر كذلك عاملًا مهم في هذه المعادلة، وهناك متغيرات كشف التجارب الدولية تأثيرها بشكل واسع، مثل مستوى وخلفية تعليم الآباء، ومستوى دخل الأسرة، ودرجة اعتمادية الأسرة في طلبها على الخدمات على أسواق معينة، وتوفر التهيئة التعليمية في المراحل الأولى وتسويق المهارات الفنية واليدوية لدى الطلبة، وسردية الاقتصاد وتأثيرها على إقبال الطلبة على هذه الأشكال من التعليم.
البدء من المراحل المبكرة للتعليم بإدخال جرعات للتعليم والتدريب المهني في الصفوف الأولى سياسة تبنتها دول مختلفة وبأشكال وتجارب متباينة، وأثبتت لاحقًا نجاحها، فلماذا لا يخضع على سبيل المثال طلبة الحلقة الأولى من التعليم إلى دروس تطبيقية لممارسة بعض المهارات الفنية، مثل التعامل مع أجهزة معينة، أو إصلاح بعض الأجهزة، أو تعلم أساسيات لغات البرمجة، أو دورات منتظمة في أسس الإسعاف والإنقاذ، على أن تكون مثل هذه البرامج مصممة بطريقة متدرجة، تتناسب مع كل مرحلة تعليمية، ووفق خطة مرنة وتتحدث باستمرار، وتكون جزءا أساسيا من الخطة الدراسية وليست مجرد أنشطة على هامش عملية التعلم. نعتقد أن الوقت حان لإعادة التفكير الجاد في مختلف معطيات النظام التعليمي، وأهمها تصور نوعية المواد والمعارف الأساسية التي يستوجب أن يتعرض لها الطالب، فما كان محتكرًا من المعلومات في الكتب الدراسية قبل عقد أو عقدين أصبح اليوم متاحًا أضعاف مضاعفة حول الطالب في مختلف المنصات والشبكات وبطرق وصول ذكية وسريعة، إن ثلاثية (المهارة - التفكير الناقد - التفكير المنظومي) هي أهم الروافع التي يحتاجها الطلبة للصمود والتكيف اليوم، سواء في العمل أو في الحياة عمومًا. وحينما يدخل التعليم والتدريب المهني في المراحل الأولى من التعلم فإن ذلك يعني أن هناك أسرة تراقب وتتفاعل مع ما يتلقاه الطالب من مهارات، وهناك مجتمع يبدأ بتغيير ثقافته وقناعاته إزاء هذا النمط من التعلم، وهناك مسار مهني واضح يبدأ في التأسس للطالب من هذه المراحل، وهناك سوق عمل واقتصاد يراقب التنوع في المهارات ويهيئ نفسه لاستقبالها.
كتجربة رائدة في الاقتصاد الألماني والتي امتدت سنوات طويلة وأفرزت نموذج التعليم المزدوج ونموذج المدارس المهني تشير الأرقام اليوم إلى أن المدارس المهنية في ألمانيا أصبحت تتعاون مع حوالي 430 ألف شركة، وأكثر من 80% من الشركات الكبرى توظف المتدربين في مسارات التعليم والتدريب المهني. هذا يقودنا إلى النقطة الأخرى المهمة وهي تغيير الثقافة المجتمعية مرتبط أيضًا في جزء منه بقناعة القطاع الخاص بأهمية ومخرجات مسارات التعليم والتدريب المهني، فكلما بادر القطاع الخاص في تبني برامج ومبادرات مع المدارس لتنمية مهارات الطلبة والأهم من ذلك تبنيهم عبر مسار تعليمي ومهني واضح، أعطت الأسر والمجتمع عمومًا ثقة أكبر في هذا المسار. ربما نحتاج اليوم في أن تتجرأ بعض الشركات الكبرى على الأقل في أن تتبنى أفواجا تعليمية منذ مراحل التعليم الأولى وتشارك مع مؤسسات التعليم في إعدادهم وإكسابهم مهارات المهن والمهارات الفنية المساندة، ولاحقًا استقطابهم للتدريب والعمل والتطور المهني. أثبت برامج مثل هذه نجاحها لدفع اقتصادات كبرى للنمو النوعي في بعض القطاعات، كما أن برامج مثل Fraunhofer Institutes في ألمانيا و Manufacturing Extension Partnership في الولايات المتحدة والتي هدفت إلى تجسير العلاقة بين التعليم النظري والأكاديمي وبين الإنتاجية الاقتصادية تمثل مسارات تكميلية تمكن سياسات التعليم والتدريب المهني.
ما نريد التركيز عليه هو أنه آن الأوان ليكون التحول حاسمًا ونوعيًا نحو تشجيع التعليم والتدريب المهني ولكن ذلك يستلزم نظرة شمولية واسعة تبدأ من تحديد الروافع الثقافية للمجتمع وما يؤثر من قيمه حيال هذا الشكل من أشكال التعليم، والتأني للتأكد من تنسيق كل السياسات المرتبطة بهذا التحول، وأن يكون للقطاع الخاص - بأكمله - القناعات ذاتها في التحول. إن حسم هذه السياسات يكمن في الانطلاق من القناعة ذاتها لدى كافة الأطراف الفاعلة فيها وليست مؤسسات التعليم وحدها.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التعلیم والتدریب المهنی المهارات الفنیة القوى العاملة
إقرأ أيضاً:
أمير منطقة المدينة المنورة يزور ميقات ذي الحليفة ويتفقد أعمال المرحلة الأولى من مشروع التطوير والتأهيل التي يشهدها المسجد
المناطق_واس
زار صاحبُ السمو الملكي الأمير سلمان بن سلطان بن عبد العزيز أميرُ منطقة المدينة المنورة رئيسُ مجلس هيئة تطوير المنطقة رئيسُ لجنة الحج والزيارة، ميقاتَ ذي الحليفة، بحضور معالي أمين المنطقة الرئيس التنفيذي للهيئة المهندس فهد بن محمد البليهشي.
وتفقّد سموُّه أعمالَ المرحلة الأولى من مشروع التطوير والتأهيل التي يشهدها المسجد، بهدف تحسين منظومة الخدمات المقدمة لضيوف الرحمن, وشملت أنسنة الساحات والمرافق على مساحة تتجاوز (50) ألف متر مربع، مما أسهم في رفع الطاقة الاستيعابية للمسجد من (5) آلاف مصلٍّ إلى أكثر من (15) ألف مصلٍّ.
أخبار قد تهمك تنفيذ حكم القتل تعزيرًا بحق جانيين في المدينة المنورة 21 مايو 2025 - 3:41 مساءً أمير منطقة المدينة المنورة يتفقد مطار الأمير محمد بن عبدالعزيز الدولي 20 مايو 2025 - 4:23 مساءًوأكّد أمير المدينة المنورة أن المواقع الخدمية الواقعة على طرق الحجاج تُعدّ ركيزةً أساسية في منظومة العناية بضيوف الرحمن، مشيرًا إلى أن مسجد الميقات يُعدّ من المعالم الحيوية التي تحظى باهتمام القيادة الرشيدة -أيدها الله- لما له من مكانة دينية، بصفته أحد المواقيت الرئيسة التي يُحرِم منها الحجاج والمعتمرون.
ونوّه بالجهود المبذولة في تطوير هذه المواقع، ما يجسّد اهتمام خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، وسمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء -حفظهما الله- ضمن مستهدفات رؤية المملكة 2030، التي أولت خدمة الحرمين الشريفين وقاصديهما أولويةً قصوى من خلال رفع كفاءة البنية التحتية، وتكامل الخدمات، وتحقيق أعلى معايير الجودة والراحة، بما يعكس رسالة المملكة في خدمة الإسلام والمسلمين.
وخلال الجولة، استمع سموُّ الأمير سلمان بن سلطان إلى شرحٍ حول تطوير منظومة الخدمات في المسجد، التي تضمنت تركيب (40) مروحة رذاذ مائي لترطيب الأجواء، وتجهيز (100) منصة لسقيا الماء في الساحات الجديدة، إلى جانب تطوير منظومة الإضاءة عبر (7) آلاف وحدة إنارة جديدة، وتحسين الأنظمة الصوتية باستخدام (190) سماعةً ومكبّر صوت بتقنيات حديثة، إضافةً إلى تطوير وتأهيل أكثر من (1300) دورة مياه ونقطة وضوء، ووضع خطط تشغيلية تضمن انسيابية حركة الحافلات في المنطقة المحيطة بالميقات.
واطّلع سموُّه على شرحٍ موجزٍ حول مجالات التطوير والتأهيل في الموقع العام، التي تأتي ضمن مهام هيئة تطوير منطقة المدينة المنورة في الإشراف على مسجد ميقات ذي الحليفة، والعمل التشاركي مع برنامج خدمة ضيوف الرحمن وجميع الجهات ذات العلاقة، لوضع خطط التطوير والتحسين، وإعادة تأهيل جميع مرافق المسجد، بما يضمن تقديم خدمات تنظيمية متكاملة لضيوف الرحمن.