تشهد إسرائيل في السنوات الأخيرة ظاهرة متنامية من الاقتحامات والهجمات التي تقوم بها مجموعات مليشياوية داخل الجيش وخارجه. تشكل هذه الاقتحامات تعبيرًا عن ظاهرة أعمق في المشهد الإسرائيلي يمكن تسميتها بصعود النزعة المليشياوية ثقافة وسلوكًا داخل الجيش وخارجه. ويتم تغذيتها خارج الجيش كما في داخله.

المقصود بالنزعة المليشياوية هو كسر التراتبية التنظيمية في الجيش، وتغيير مصادر الشرعية والسلطة لسلوك الجنود، مما يتواصل مع النزعة خارج الجيش التي تتمثّل في كسر قواعد اللعبة السياسية والعرفية وغياب المحاسبة للسلوكيات المليشياوية الجماعية التي تحظى بدعم من السلطة السياسية الرسمية وسلطات غير رسمية.

تأسّست دولة إسرائيل على نزع الحالة والثقافة المليشياوية عن مجتمع المستوطنين اليهود في فلسطين، وخصوصًا النزعة والتنظيم المليشياوي العسكري المرتبط مع تيارات سياسية وأيديولوجية في صفوف المجتمع الاستيطاني.

اضطر مؤسسو الدولة إلى نزع الصفة المليشياوية عن المستوطنين اليهود من خلال تبنّي منظومة "الدولتية" (المملختيوت بالعبرية) وتفكيك المليشيات العسكرية لصالح بناء جيش واحد يجمع أفراد المليشيات الصهيونية العسكرية في إطار جيش حديث له تراتبية ومصدر سلطة وشرعية واحدة.

فرض بن غوريون ذلك بالقوة، كما حدث عند قصف سفينة "الطلينا" في يونيو/حزيران 1948، التي كانت تحمل شحنة أسلحة لمنظمة الإيتسل العسكرية، مما أدى إلى مقتل 19 شخصًا، بينهم 3 من قوات الجيش و16 من قوات الإيتسل.

في ضوء ذلك، يمكن تفسير الأحداث التي أدت إلى اقتحام سجن "سدي تيمان" وقاعدة المحكمة العسكرية، باعتبارها نتيجة تراكمات أسهمت في تحلل مفهوم "الدولتية" من جهة، وتغلغل النزعة المليشياوية في صفوف الجيش من جهة أخرى. حيث برزت العلاقة العكسية الواضحة بين هذين الاتجاهين.

ظهرت معالم المليشياوية في تغلغل المشروع الاستيطاني وثقافته من الضفة الغربية إلى إسرائيل. وقام بتغذيتها سياسيون وناشطون ورجال دين يسكنون في المستوطنات وخارجها. وتدل هذه الظاهرة على سطوة المشروع الاستيطاني في الضفة، على ثقافة المجتمع والدولة في السنوات الأخيرة.

ويكفي التذكير بأهم مؤشراتها التي ظهرت في تنظيم مليشيات يهودية خلال أحداث "هبة الكرامة" 2021 لملاحقة الفلسطينيين في المدن الساحلية المختلطة، وتحديدًا في اللد وعكا. تجندت هذه المليشيات وأرهبت الفلسطينيين دون أن تتخذ سلطات فرض القانون، وتحديدًا الشرطة، أي إجراءات ضدها.

تمادى النشاط المليشياوي في الضفة الغربية بدعم سياسي حكومي وصمت من الجيش، بل فلنقل تحت حمايته، في ممارسة عمليات إرهابية ضد الفلسطينيين، مثل حرق بيوتهم والاعتداء عليهم وعلى ممتلكاتهم وأراضيهم، وصولًا إلى قتل بعضهم. وبلغ الأمر ذروته في الهجوم الجماعي المنظم على بلدة حوارة بدعم سياسي وعسكري واضح للجميع.

استمرَّت الظاهرة المليشياوية خلال الحرب على غزة بتنظيم مجموعات قامت بحرق شاحنات الإغاثة الإنسانية في طريقها من الضفة الغربية إلى قطاع غزة، وإغلاق معبر أبو سالم؛ لمنع دخول الشاحنات دون اتخاذ أي خطوات للحساب والعقاب ضدّها.

كشفت أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول عن ضعف الدولة وتحللها من خلال ضعف مفهوم "الدولتية". كان لليمين على مدار العقدين الماضيين الدور الأساسي في إضعاف مؤسسات الدولة؛ بهدف إخضاعها لتكون مركبًا من مشروعه الاستيطاني في الضفة الغربية من جهة، وتابعة لهذا المشروع من جهة أخرى، وللهيمنة عليها من خلال إضعاف مؤسساتها وتفكيك نخبها القديمة، أو ما يمكن تسميته "الدولة العميقة".

دمج هذا الأسلوب بين الخطاب اليميني الشعبوي وإحداث ردة عن التحولات الليبرالية التي مرّت بها الدولة ومؤسساتها في عقد التسعينيات نحو إعادة تعريف الدولة كدولة يهودية منسجمة مع التعريف الصهيوني الديني، وهو ما ظهر في تشريع قانون أساس دولة إسرائيل كدولة الشعب اليهودي عام 2018، المعروف بقانون القومية.

ظهر ضعف الدولتية في ذلك التواطؤ مع الحالة المليشياوية الاجتماعية اليمينية، خاصة عندما يتعلق الأمر باستهداف الفلسطينيين. وفي آخر تجلياته، برز في التسامح السياسي مع اقتحام مجموعات منظمة لسجن "سدي تيمان" وقاعدة "عوفر". إذ حظي هؤلاء المقتحمون بدعم سياسي ونجوا من الحساب، وفي حالات أخرى يحظون كذلك بالحراسة والدعم، كما حدث مع المليشيات المنظمة التي اعتدت على الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، وفي الضفة الغربية.

ظهر كذلك تواطؤ الجيش مع ظهور النزعة المليشياوية فيه وحظوة جزء منها بدعمه، على غرار تأسيس وحدات عسكرية منسجمة أيديولوجيًا مثل وحدة "نيتسح يهودا"، وفي إدخال حاخامات "الصهيونية الدينية" للجيش، وكل منظومة المدارس الدينية العسكرية التي تخرج جنودًا متدينين قوميين للجيش يعتبرون أن الحاخام هو السلطة العليا، ويتعاملون مع الجيش على أنه جهاز لخدمة المشروع الاستيطاني. ويمكن تعداد المئات من الحالات التي تثبت الحالة المليشياوية في الجيش على مستوى الأفراد والوحدات أو المجموعات، وليس هنا مقام الاستفاضة فيها.

ويمكن تفسير ما حدث في "سدي تيمان" على أنه تمرّد لجنود في الجيش ضد أوامر عسكرية، وطلبهم الحماية من "شعب إسرائيل"، وسرعان ما تجمع لنصرتهم حشود مدعومة من وزراء وسياسيين حاولوا إخراج أولئك الجنود بالقوة من قاعدة عوفر العسكرية، فيما وقفت الدولة عاجزة عن صدهم ومحاسبتهم.

يهدف اليمين من مشروعه في إضعاف الدولة ومؤسساتها وفي تعميق النزعة المليشياوية في الجيش إلى منع تفكيك المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية أو حتى جزء منه، كما حدث في الانسحاب من غزة عام 2005، وهو الحدث الذي شكل صدمة كبيرة لليمين آنذاك، قرر بعدها تنفيذ مشروعه في الهيمنة على الدولة.

تمّت هذه العملية بشكل متراكم، ووصلت ذروتها في مشروع التغييرات الدستورية عام 2023، التي تواكبت مع نزع صفة "القدسية" عن الجيش والتهجّم عليه كلما تعارضت ممارساته مع مصالح المشروع الاستعماري حتى ولو شكليًا، وهناك كذلك "أدلجة" مستمرة لجهاز الشرطة بما يخدم أجندات اليمين المتطرف.

فهم بن غوريون أنّ قوة المشروع الصهيوني تكمن في تعزيز الصفة الدولتية على الحقل السياسي الإسرائيلي وإلغاء النزعة المليشياوية عن الجيش الإسرائيلي الذي لعب دورًا اجتماعيًا في بناء "أمة إسرائيل الواحدة" من المهاجرين. ولكن ما يحدث هناك منذ عقود، وعمقته الحرب في قطاع غزة وكشفته، هو تحلل ذلك التوجه "الدولتي" لصالح تغلغل النزعة المليشياوية بين الأفراد والضباط والوحدات العسكرية، وهو ما يمثل أكبر تهديد وجوديّ قائم لدولة إسرائيل.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات المشروع الاستیطانی فی الضفة الغربیة فی الجیش ما حدث من جهة

إقرأ أيضاً:

الجيش اللبناني يوقف قياديا في تنظيم الدولة.. ضبط معه أسلحة وطائرات مسيرة

أعلنت قيادة الجيش اللبناني، الأربعاء، عن توقيف أحد أبرز قياديي "تنظيم الدولة" في البلاد، الملقب بـ"قسورة"، وذلك عقب عملية أمنية نفذتها مديرية المخابرات.

ووفق البيان الصادر عن المؤسسة العسكرية، فإن الموقوف يُدعى (ر.ف.)، وكان قد تولّى قيادة التنظيم في لبنان عقب اعتقال سلفه (م.خ.) المعروف بلقب "أبو سعيد الشامي" الذي شغل منصب "والي لبنان" داخل التنظيم، في عملية نوعية نفذتها المخابرات عام 2024 وأفضت إلى تفكيك خلية كبيرة تضم عددًا من القادة البارزين.

بعد سلسلة عمليات رصد ومتابعة أمنية، أوقفت مديرية المخابرات المواطن (ر.ف.)، الملقب بـ"قسورة"، وهو أحد أبرز قياديي تنظيم داعش الإرهابي، كما شارك في التخطيط لعمليات أمنية. ضبطت في حوزته كمية كبيرة من الأسلحة والذخائر الحربية، بالإضافة إلى أجهزة إلكترونية ومعدات لتصنيع الطائرات… pic.twitter.com/h7SrNQZdnY — الجيش اللبناني (@LebarmyOfficial) June 24, 2025
وخلال مداهمة مقر إقامة الموقوف، صادرت القوى الأمنية كمية ضخمة من الأسلحة والذخائر الحربية المتنوعة، إلى جانب أجهزة إلكترونية متطورة ومعدات خاصة تُستخدم في تصنيع الطائرات المسيّرة، ما يشي بحجم التهديد الذي كان يُحضَّر له داخل الأراضي اللبنانية.

وأكد الجيش أن المَوقوف كان ناشطا في التخطيط لعمليات أمنية خطيرة، في وقت تتصاعد فيه المخاوف الإقليمية من تجدد نشاط تنظيم الدولة في بعض المناطق الهشة أمنيًا، عقب الهجمات التي استهدفت سوريا مؤخرًا.

ويأتي هذا التطور الأمني البارز بعد 48 ساعة فقط من الهجوم الانتحاري الذي ضرب كنيسة مار إلياس في دمشق، وأسفر عن مقتل 25 شخصًا، والذي نسبته السلطات السورية إلى خلايا تابعة لتنظيم "الدولة"، ما يعزز الترجيحات حول وجود تنسيق بين عناصر التنظيم على جانبي الحدود.


ورغم أن تنظيم "الدولة" تلقى هزيمة في لبنان عام 2017، بعد معركة خاضها الجيش في جرود رأس بعلبك والقاع، فإن خلاياه النائمة لا تزال تُشكّل تهديدًا حقيقيًا، لا سيما في ظل عودة بعض قياداته للنشاط بطرق متخفية.

وأوضح البيان أن التحقيق مع الموقوف قد بدأ بإشراف القضاء المختص، وسط ترجيحات بتوسع دائرة الملاحقات لتشمل متورطين آخرين مرتبطين بشبكة التنظيم في الداخل اللبناني.

مقالات مشابهة

  • الكرملين: ينبغي تذكير الولايات المتحدة بأنها الدولة الوحيدة التي استخدمت الأسلحة النووية
  • الجيش الإيراني: استهداف المراكز العسكرية والاستراتيجية والبحثية لإسرائيل
  • ترامب: إسرائيل وإيران قد تستأنفان الأعمال العسكرية قريبًا
  • مدبولي: استئناف ضخ الغاز للمصانع التي توقفت تأثرا بنقص الإمدادات
  • الجيش اللبناني يوقف قياديا في تنظيم الدولة.. ضبط معه أسلحة وطائرات مسيرة
  • من يحاول خطف نصر الجيش في السودان؟
  • نتنياهو لشعبه: حققنا نصرا تاريخيا وأزلنا تهديد إيران الوجودي على إسرائيل
  • العرابي: إيران اكتسبت قوة ليست فى نفس الوضع التي كانت إسرائيل تستهين به من قبل العمليات العسكرية
  • الحوثيون: عملياتنا العسكرية ضد إسرائيل مستمرة رغم وقف الحرب مع إيران
  • عراقجي يؤكد وقف إطلاق النار: شكراً لقواتنا التي استمرت بمعاقبة إسرائيل