العسكر وبناء الدولة التسلطية في العالم العربي.. قراءة في كتاب
تاريخ النشر: 9th, August 2024 GMT
الكتاب: زيارة جديدة لتاريخ عربي
الكاتب: كمال خلف الطويل
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى ،شباط/فبراير 2024.
لقد تصدى الجيش لمهمة قيادة الدولة في مصر باعتباره المؤسسة الأكثر عصرية والأكثر تماسكا في المجتمع المصري، وتعرضت إلى نمط من التحديث على النسق الأوروبي. وانتهج العسكر في المرحلة الأولى من الثورة (1952 ـ 1954 ) منهجًا سياسيًا تجريبيًا، الأمر الذي قاد إلى تراكم المصاعب أمام الحكم الجديد، بعد أن تفجرت الصراعات السياسية، وضربت الحركة الحزبية في المجتمع، وفشل في معالجة أزمة الديمقراطية، من خلال حصر سيادة الشعب بوصفه المفهوم الأرقى والواقعي للديمقراطية في إطار الشكل التمثيلي الضيق والمحدود للنخب العسكرية والبيروقراطية، وانتهاج نهج قمعي للحركة الشعبية، الأمر الذي قاد إلى "تحرك شعبي واسع عام 1954 يطالب بعودة الضباط إلى ثكناتهم وإطلاق الحريات الديمقراطية ".
إنَّ علاقة العسكر بالديمقراطية ليست علاقة ودية، بل هي علاقة تعاكسية، ذلك أنَّ العسكر والديمقراطية يقفان على طرفي نقيض، والسبب يرجع في ذلك إلى التناسب العكسي بين الديمقراطية والعسكر. فكلما ازدادت الديمقراطية قل تدخل العسكر في السياسة والعكس صحيح. فالديمقراطية مرتبطة بالحرِّية السياسية بتنوعها التي تفترض قدرة المواطنين على تأليف الأحزاب السياسية، والانتماء إليها، والمشاركة في الحياة السياسية العامة بكل معاني المشاركة وشروطها، وإنتخاب حكامهم، وممارسة حقوقهم بحرية تامة. ومن هذا المنطلق، فإنَّ إلغاء الأحزاب السياسية من جانب قيادة يوليوإنما يخفي في جوهره عداء للديمقراطية ذاتها.
إذا كانت بنية المجتمع العربي على وجه العموم بنية تتسم بطابع التنوع الهائل على صعيد التنظيم الاقتصادي والاجتماعي، وتسود فيها الانقسامات الطبقية، والطائفية، والدينية، والقومية، وهي بنية لا إقطاعية مثلما هي لا رأسمالية بالمعنى الكلاسيكي الأوروبي، وتسيطر يها البنى التقليدية ما قبل الثورة الديمقراطية البرجوازية والتطور الرأسمالي، والتي مازالت تهجر الاستقطاب الطبقي وتشوهه، ويسود فيها أيضا النظام البطركي الأبوي على حد قول الدكتور هشام الشرابي، أي نظام القرابة النابذ للإندماج القومي والذي يكرس الولاء الشخصي والعلاقات الشخصانية، ويولد باستمرار الشقاق أو التنازع ذا الطابع القبلي و لمذهبي داخل الجسم الاجتماعي، فإنَّ هذا الوضع الآنف الذكر لا يبرِّرُ لمجلس قيادة الثورة في مصر إستغلال ضعف إنغراس الأيديولوجية السياسية الحديثة في المجتمع، وتخلف السياسة ولا عقلانيتها و تخلف الأحزاب في وعيها و تنظيمها، لإنتهاج فلسفة في ممارسة الحكم لا تطرح سيادة الشعب بمفهوم المشاركة في مجتمع مدني، بل مفهوم النيابة عنه و إنتداب نفسها لتمثله، ولا تؤمن بقدرة الشعب على تخطي ضعفه و تخلفه السياسي والإيديولوجي الديمقراطي أو قهر عدوه الخارجي ، بل تؤمن فقط بضرورة إصطفاف الشعب ـ مثل الجيش المقاتل ـ خلف قائد واحد.
إنَّ علاقة العسكر بالديمقراطية ليست علاقة ودية، بل هي علاقة تعاكسية، ذلك أنَّ العسكر والديمقراطية يقفان على طرفي نقيض، والسبب يرجع في ذلك إلى التناسب العكسي بين الديمقراطية والعسكر. فكلما ازدادت الديمقراطية قل تدخل العسكر في السياسة والعكس صحيح. فالديمقراطية مرتبطة بالحرِّية السياسية بتنوعها التي تفترض قدرة المواطنين على تأليف الأحزاب السياسية، والانتماء إليها، والمشاركة في الحياة السياسية العامة بكل معاني المشاركة وشروطها، وإنتخاب حكامهم، وممارسة حقوقهم بحرية تامة. ومن هذا المنطلق، فإنَّ إلغاء الأحزاب السياسية من جانب قيادة يوليوإنما يخفي في جوهره عداء للديمقراطية ذاتها.إذا كان الجيش المبني على التنظيم الهرمي والكلي للسلطة قد نجح من خلال حركة الضباط الأحرار في الاستيلاء على الحكم، وبناء الدولة الوطنية المستقلة في مصر. غير أنه مع بروز الزعامة الفردية، لعبد الناصر الذي خرج منتصرا من الصراعات الدرامية 1952 ـ 1954، والذي كان يحظى بدعامة العسكر، لم يمنع من سقوط النظام المصري الجديد في المنحدر الشمولي بعد أن قضي على الحركة الحزبية، وعطل الحركة النقابية، وأقصي الضباط الديمقراطيين في الجيش الذين كانوا يتعاونون مع القيادات السياسية في الشارع السياسي .
وفي ظل غياب بناء النظام الديمقراطي بحجة رفض المفهوم الليبرالي للديمقراطية بمعناها الكلاسيكي الغربي، وعدم حل التناقض الجوهري الذي أفرزته المرحلة الجديدة من قيادة الشعب إلى الديمقراطية من فوقه، وبين سيطرة الأوضاع الشمولية بالنفوذ والهيمنة من جانب أجهزة القمع: المباحث والمخابرات ومترادفاتها وملحقاتها على الدولة، لم يكن هناك من خيار أمام النظام الجديد من ظهور الديكتاتورية لمجلس قيادة الثورة و الزعامة الفردية للدولة و للنظام و للثورة سوى الفوضى.
وهكذا مع انعدام الانتقال التدريجي نحو النظام الديمقراطي تأسست الدولة التسلطية في مصر التي أطلقت يد الأجهزة من دون رقابة الشعب وفي تناقض كلي مع المجتمع المدني، ولم يكن هناك مجال للصراع السياسي في عملية اتخاذ القرار إلا في أعلى قمة هرم السلطة. أما في غير هذا المستوى فقد سادت نظرة ترى أن السياسة ما هي في جوهرها إلا مجموعة من المشكلات الإدارية وأن الخلاف يمكن أن يدور حول هذه المشكلات وحول رفع مستوى الأداء ولكن دون أن يتطرق إلى الاختيارات والأولويات نفسها. وهكذا تبنى النظام مفهوما "اندماجيا " وليس مفهوما "تنافسيا" للمجتمع السياسي. وفي هذا الإطار كان الزعيم السياسي الكاريزمي الذي توفرت له أيضا معظم السلطة التنفيذية هو قمة هرم السلطة في المجتمع جوهر تضخم وتشعب بصورة أبرزت بوضوح الطابع "النهضوي" البيروقراطي للنظام .
إنَّ الذي انتصر في مصر ليس البديل الثالث أي الإنتقال التدريجي نحو إقامة نظام ديمقراطي تعددي، بل خيار ديكتاتورية مجلس قيادة الثورة وما نجم عن هذا الخيار من استبعاد اليسار القديم مثل خالد محي الدين ويوسف منصور صديق، وعبد المنعم عبد الرؤوف، وجمال سالم، واحتضان مجموعة الضباط التي كانت في خدمة النازيين في الفترة الممتدة 1941 ـ 1942 والتي كانت على علاقة بالإخوان المسلمين في أواخر الأربعينات.
ويجمع العديد من الدارسين للثورة المصرية من عرب وأجانب، بأن الأكثرية من الضباط الأحرار ينتمون إلى التيار اليميني الوطني، وهذا لا يمنع وجود رجال من ذوي الأفكار الليبرالية والاشتراكية والشيوعية بين زمرة الضباط، بل وبين الضباط الأحرار أنفسهم. لكن هؤلاء برغم ضآلة تأثيرهم قبل الانقلاب فإن تأثيرهم هذا انتهى تماما بعد الاستيلاء على السلطة، واستقرار النظام، ولم تكن "اشتراكية" عبد الناصر العربية إمتدادا لأيديولوجية ليبرالية، أو إشتراكية، أو ماركسية، وإنما هي نتاج فكر يميني وطني .
إِنَّ تقهقر الإقطاع وشبه الإقطاع، وسيطرة الملاكين العقاريين الكبار والرأسمالية الكبيرة على السلطة السياسية الداخلية في مصر، وتقهقر البرجوازية بأشكالها المختلفة وشكلها الأساس الكمبرادوري، وصعود شرائح وفئات من الطبقة الوسطى إلى السلطة، قد جعل كل البنيان الطبقي في المجتمع المصري مفتوحاً وفي حالة عدم استقرار نظراً للضعف العددي والبنيوي للطبقات الاجتماعية الكلاسيكية بالمفهوم الغربي (البرجوازية والطبقة العاملة) وللسيولة الطبقية الجارية على صعيد شرائح وفئات الطبقة الوسطى أو البرجوازية الصغيرة التي أصبحت تحتل المركز الأول في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية منذ العام 1952 وحتى نهاية الستينات، والتي اضطلعت بعملية التحديث والنهضة الوطنية في مصر "الثورة" على حد مقولة موروبرجر Morroe Berger” عن "الأهمية التاريخية لنشوء الطبقة الوسطى" في مؤلفه البيروقراطية والمجتمع في مصر المعاصرة"، حيث ختم مؤلفه بالصياغة التالية لمقولته" وكثيراً ما يقال أن النظام العسكري القائم يحاول تمثيل الطبقة المتوسطة التقليدية من موظفي الحكومة وأرباب الأعمال الحرة وصغار التجار، وإنما الحقيقة تكمن في أن النظام العسكري يحاول أن يكون ممثلاً للطبقة المتوسطة (الحديثة) التي ما زالت في طور التكوين والتي تقع على عاتقها مهام تكنولوجية وإدارية وريادية في مجال تحفيز الاستثمارات، وعلى وجه التحديد، فإن النظام العسكري يحاول خلق طبقة جديدة ليمثلها".
فشل العدوان الثلاثي عام 1956
عن حرب السويس عام 1956، تشكلت مقدمات تلك الحرب، منذ قيام الثورة المصرية، التي طالبت البريطانيين بإخلاء قواعدهم في مصر. كما رفض الغرب بيع السلاح إلى مصر، التي أعادت بناء جيشها الوطني، فذهبت إلى طلب السلاح من تشيكوسلوفاكيا واعترفت بجمهورية الصين الشعبية. كما قرّرت القيادة بناء السد العالي في أسوان لكنّ بريطانيا والولايات المتحدة قررتا إفشال المخطط، بمنع البنك الدولي من تزويد مصر بقرض مالي لذلك الغرض. ردّ عبد الناصر على خطط منع تقدّم بلاده، فأعلن تأميم قناة السويس كشركة وطنية مصرية لا يمتلكها أحد سوى الشعب المصري. كان القصد تأمين الأموال للمضي في تنفيذ بناء السد. قررت بريطانيا التخلص منه وكلفت وكالة مخابراتها M16 بتلك المهمة. أعدّت مؤامرة لاغتيال عبد الناصر على يد مجموعة من المصريين المنفيين وبعض ضباط الوكالة، ترأس تنفيذ الخطة مساعد مدير مخابرات سلاح الطيران المصري، الذي اتضح فيما بعد أن هذا الضابط نفسه كان عميلاً مزدوجاً كشف الخطة، فألقي القبض على 11 مصرياً و4 بريطانيين.
إِنَّ تقهقر الإقطاع وشبه الإقطاع، وسيطرة الملاكين العقاريين الكبار والرأسمالية الكبيرة على السلطة السياسية الداخلية في مصر، وتقهقر البرجوازية بأشكالها المختلفة وشكلها الأساس الكمبرادوري، وصعود شرائح وفئات من الطبقة الوسطى إلى السلطة، قد جعل كل البنيان الطبقي في المجتمع المصري مفتوحاً وفي حالة عدم استقرار نظراً للضعف العددي والبنيوي للطبقات الاجتماعية الكلاسيكية بالمفهوم الغربيلقد وجد رئيس وزراء بريطانيا إيدن ورفيقه وزير المالية هارولد مَكمِلَن، عبد الناصر وطنياً حازماً مقلقاً للغاية. وبّخ أيدن وزير خارجيته أنتوني نَتِنكَ مرة قائلاً: "ما كل هذا الهراء حول عزل ناصر أو تحييده. أريد تدميره، ألا تفهم؟ أريد قتله". بعد فشل خيار الاغتيال المذكور، عمد أيدن إلى استعمال القوة والإعداد لغزو منطقة القناة. اجتمعت القيادات البريطانية والفرنسية والإسرائيلية سرّاً في قرية سيفرSevres بإحدى ضواحي باريس في الفترة من 22 إلى 24 تشرين الأول عام 1956 لتنظيم ردّ عسكري ضد مصر. مثّل الجانب الفرنسي جي موليه وكريستيان بينو وبوركس مونوريه، ومثل الجانب الإسرائيلي ديفد بن كريون وشيمون بريز وموشيه دايان. أما الجانب البريطاني فمثله سلوين لويد وممثلين عن وزارة الخارجية انضما للمحادثات في مرحلة أخرى وهما باترك دين ودونلد لوكن، وأقرت خطة الحملة العسكرية على مصر أو ما سمي "بروتوكول سيفرز". "لقد اختلق الأسد البريطاني، الذي كان يوماً ما عظيماً أزمة السويس، لكنّه بدا وكأنه حيوان سيرك مروّض مستعد منذ تلك اللحظة فصاعداً للقفز داخل الأطواق النارية كلما سمع صوت ضرب سياط واشنطن".
فشل العدوان الثلاثي الذي قامت به تلك الدول حين "نفّذ عبد الناصر استراتيجية رائعة رغم بساطتها. مُلئت عشرات السفن القديمة بالحجارة وبعض المتفجّرات لإغراقها في شمال القناة عند مدخلها بالبحر الأبيض المتوسط، وسرعان ما أغلق شريان الحياة النفطي لأوروبا القادم من الخليج الفارسي. في الوقت الذي بدأ فيه 22000 جندياً بريطانياً وفرنسياً اقتحام الشاطئ عند طرف القناة الشمالي بتاريخ 6 تشرين الثاني، كان هدفهم تأمين حرية حركة السفن، لكنّ النصر كان قد اختطِف من أيديهم". أتى انقلاب الرحمة في شهر كانون الثاني من عام 1968، حين أعلن رئيس حزب العمال ورئيس الحكومة، هاهرولد وِلسن، أن بريطانيا ستسحب جميع قوّاتها شرق السويس في غضون 3 سنوات، منهياً دورها كقوة آسيوية وأي دور آخر في ادّعاء القيادة العالمية. ثم يمضي المؤلف للقول، "أخيراً وفي عام 1973، أكملت بريطانيا انحدارها من قوة عالمية إلى لاعب إقليمي وأصبحت واحدة من 9 دول تشكّل الاتحاد الأوروبي".
إقرأ أيضا: نقد التجربة السياسية والإيديولوجية للحركات القومية الناصرية والبعثية.. كتاب جديد
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب مصر العسكر السياسة سيطرة مصر كتاب عسكر سياسة سيطرة كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الأحزاب السیاسیة الطبقة الوسطى فی المجتمع عبد الناصر فی مصر
إقرأ أيضاً:
العالم العربي وزمن انحطاطه الجديد!
ما الذي يمكن قوله عن أمة أرادت من تلقاء نفسها أن تدخل في عصر الانحطاط الجديد، وهي التي لم تستطع بعد الخروج من عصر الانحطاط القديم.
أمة ضلّت طريقها، وتخلّى قادتها عن هويتها، وتاريخها، ووجودها، وثوابتها، وأصالتها، ومستقبلها. أمة لم تعد تميّز بين الذئب والحمل، بين المفترس والأليف، بين القاتل والمقتول، بين الغاصب والمغصوب، وبين العدو والصديق. أمة رماها حكامها في أحضان قتلتها، ومستبدّيها، ومستعبديها، ومستغلّيها.
أمة يقف قادتها إلى جانب قتلة أبنائها دون أن يرفّ لهم جفن، يغازلون بلا حياء مجرمي العصر، وهم يدمّرون أوطانها، ويبيدون أبناءها. أمة تُفترس، وشعوبها تستغيث بزعمائها، وهي تدري أنّ «حماة» الديار والأوطان انقرضوا، وحلّ مكانهم المتسكّعون على أبواب واشنطن وتل أبيب، فيما أضحت الأمة على الساحة مطوّقة، محاصرة، غاب عنها الفرسان وبقيَت وحدها الفرسُ !
أمة تقف على مشهد جديد يتكرّر، فاصل من الزمان، بين ماض غابر، وحاضر مظلم يتجذر، بين جحافل مغول تنشقوا ريح القتر، وقراصنة مارقون أتوا من وراء البحار، مجرمون نهابون شأنهم كالتتار، عبثوا بالديار، واستباحوها، وأوغاد الأمة المغفّلين، يهلّلون للقاتل، يطبّلون، وهم له العون والحرس.
عالم عربيّ يُستباح أمام ناظريهم، من غزة إلى لبنان، وسورية، والسودان، وليبيا، واليمن، والصومال، والآتي أعظم.
غزة تُمزّق، تُقطّع، وشعبها يُذبح، تُنادي «الرجال» القابعين داخل قصورهم، وهم فرحون، مهللون، يتفرّجون على صلبها، ويسمعون أنينها، تنظر إليهم بطرفة عين، وهي تلفظ الأنفاس، تمقتهم، تبصق في وجوههم المحنّطة، دون أن تجد فيهم ذرّة من الضمير والشعور الإنساني.
ليتك يا غزة تعيشين عصر الجاهليّة، لكان أشرف لك من الوضع الذي أنت فيه. عيب الناس في الجاهليّة أنهم لم يدركوا الإله الواحد الخالق قبل الدعوة، ومع ذلك كانت لهم في المقابل صفات الرجولة، والمروءة، والعزة، والكرامة، والاستماتة في صون العرض والشرف، والدفاع بكلّ قوة عن قبائلهم، وحفظ ديارهم، ونجدة مستغيثيهم.
أين الأمة و»رجالها» اليوم، من صفات أبناء الجاهليّة؟! هل صان القيّمون على أوطانها شرف أبنائها، وكرامتهم؟! هل حموا الديار من المغتصبين المعتدين المحتلّين؟! ما الذي فعلوه لك يا غزة لمنع ما قام به مجرمو العصر بحقك، قتلة الأطفال ومجوّعوهم؟! هل كان الجاهليّ ليرضى أن يسكت عن قاتل أخيه، أو أبناء قبيلته؟!
«أعراب» الحاضر، تخلّوا عن أبناء جلدتهم، لكن لماذا يغازلون القتلة، ويستضيفونهم في عقر دارهم حتى يرى العالم كله، مدى الانحطاط الإنسانيّ والأخلاقيّ الذي وصل إليه جاهليّو الأمة اليوم؟! هل حفظ هؤلاء ديار أوطانهم وشعوبهم مثل ما حفظ «الجاهليون» قبائلهم من قبل؟! الجاهلي الحقيقي في الوقت الحاضر، هو الذي فرّط بالأوطان والشعوب والقيم والمبادئ، وشارك في زعزعة العالم العربي، وأمنه القومي، ووحدة شعبه، وتخلّى عن الدفاع عن أرضه، ودياره؟! إنّهم الجاهليّون الجدد الذين فرّطوا بمستقبل الأمة، وتاريخها، وكرامتها، وحياة أبنائها.
لا تعيّروا بعد اليوم الجاهليّة القديمة، فلا عتب عليها، بل عيّروا في هذا الزمن، جاهليّي الأمة الجدد الذين لم يحفظوا العهد ولا الوعد، ولا العرض، ولا الشرف ولا الكرامة، ولا الديار، بعد أن بانوا على حقيقتهم المخزية، وسيرتهم، ومواقفهم المقززة التي سترويها عنهم أجيال وأجيال.
غزة، يا شهيدة الأمة، ألم يسمع حتى الآن «أولياء» الأمر في عالمك العربيّ العجيب، آهات الأمهات، وأنين الجياع وبكاء اليتامى، وصرخات النساء والشيوخ؟! ألم يسمع عديمو الضمير والإنسانيّة، الأطفال يصرخون جوعاً وخوفاً وألماً؟! لم تعد تعنيهم فلسطين، ولا العروبة، ولا الشرف، ولا النخوة ولا الأمة كلها، بعد أن فقدوا كلّ معاني الكرامة والعزة، وسخّروا أنفسهم لقوى الهيمنة والعدوان!
هذا هو الانحطاط الذي يغوص فيه العالم العربي، والذي سيستغرق وقتاً طويلاً، قبل أن تستفيق الشعوب العربية من غيبوبتها، وتستعيد وعيها من جديد. انحطاط لا مثيل له، صنعه الذين ابتُليت بهم الشعوب العربية، وآثروا الخنوع، والانبطاح والسجود لواشنطن، التي يرون فيها ضمان سلطتهم، والملاذ الآمن لهم.
إلى متى سيظلّ الأميركي يُهيمن، يقرّر، يأمر، والإسرائيلي يجتاح، يستبيح، يبطش ويقتل؟!
لم تعُد فلسطين عند هؤلاء، قضية العرب المركزية وإنْ زايدوا، وكذبوا، ونافقوا، وخدعوا شعوبهم بها على مدى عقود طويلة. لقد بان كلّ شيء، ولم يعد خافياً على القاصي والداني، فالأقنعة سقطت عن الوجوه السوداء، التي آثرت أن تهرول باتجاه العدو في تل أبيب، تظرفه، تشجّعه، ترتمي في أحضانه، تعطيه صكاً على بياض، ليفعل ما يشاء، وكيفما يشاء، بدول المنطقة وشعوبها، بعد أن تخلّت عن مبادئ الأمة وحقوقها كلها، حيث لم يعد يعنيها ووجودها وحرية شعوبها وسيادتها!
إنه عصر الانحطاط الجديد الذي دخل ديار العرب من كلّ الجهات… حروب، وثورات، ونزاعات، واقتتالات دموية داخلية، وفتن، وانقسامات، ونعرات دينية وطائفية، وتنظيمات تكفيرية همجية لا حدود لها، ستترك آثارها السلبية، وتداعياتها الخطيرة لعقود طويلة، بعد أن زجّت دول عربية نفسها في الصراعات، ووقفت مع جهة ضدّ أخرى، مما أسفر عن مزيد من الفوضى والاقتتال، وسفك الدماء، وزعزعة الاستقرار !
إنّه عصر انحطاط، يتمّ هذه المرة، ويا للعار، نتيجة القرارات العقيمة، والمواقف المخزية، والسياسات المدمّرة التي لجأ إليها قادة وحكام عرب لهم براعة كافية في الهروب من قضاياهم المصيرية، وخبرة وافية في وأد الأوطان وخنق شعوبها!
كم هو مؤلم الصمت القاتل لقادة تجاه ما يحدث في العالم العربيّ، وكم هو محزن ومؤلم في الصميم، أن نجد الجاهليّة أكثر أصالة، وشرفاً، وإنسانيّة من العديد من «قادة» وسياسيين في العالمين العربي والإسلامي!
إنها صدمة حضارية وأخلاقية نعيشها، حيث تحتاج الشعوب المقهورة في العالمين العربي والإسلامي إلى انتفاضة، ووعي حقيقيّ، وقرارات حاسمة شجاعة، يعيد لها سيادتها، وكرامتها، وحقوقها المشروعة، ومكانتها في العالم.
هل سمع المتخاذلون، المتواطئون، المحنّطون، في العالمين العربي والإسلامي، أصوات العديد من السياسيين، والمسؤولين، والنواب والحقوقيين، والناشطين الأجانب، وهتافات الحناجر الشريفة في الغرب، الذين تأبى إنسانيتهم، ويأبى ضميرهم أن يسكتوا عما يشاهدونه من أبشع جرائم العصر على الإطلاق، وإبادة جماعيّة بحق سكان غزة التي يرتكبها جيش الاحتلال؟!
غزة تحتضر أمام عديمي الشهامة والإنسانية، فيما ضمير غربي يصحو وينتفض، وضمير عربي يغفو ويحتضر.
شتان بين ضمير الأحرار وذلّ العبيد، في عالم عربي يدوّن تاريخه في أحضان واشنطن وتل أبيب…!
*وزير الخارجيّة اللبناني الأسبق