رحلة دون كيشوت الى كيغالي..!
تاريخ النشر: 16th, August 2024 GMT
د. مرتضى الغالي
مهزلة المهازل تجسّدت في شخص رجل اسمه عبد الفتاح البرهان صفته قائد جيش و”رئيس مجلس سيادة” يخلع بذته العسكرية خلال حرب طاحنة ويرتدي (بدلة وكرافتة) ويذهب إلى كيغالي عاصمة رواندا ليشارك في مراسم تنصيب رئيسها “بول كاغامي” في وقت تحتل فيه المليشيات التي يحاربها ثلثي بلاده ..وفي قمة أتون حرب ضروس تأكل الناس في بلاد يترأس قيادة جيشها.
في ذات الوقت الذي يموت فيه العشرات وتتساقط القذائف على الرءوس.. ذهب البرهان ليهنئ رئيس دولة صغيرة فاز في انتخابات الرئاسة..! وهي على كل حال (تهنئة مجروحة) من رجل وصل إلى السلطة بانقلاب…!
إذا كان هناك عبث أكثر من هذا أو مهزلة أشد وقعاً من هذه المهزلة فليحدثنا المثقفاتية من مناصري الفلول الذين (يلبسون الساعة في اليد اليمنى) لمخالفة السائد..! إذاً لتستعد الإلهة لتمطر الأرض بكل ما لديها من صواعق..كما قال شكسبير على لسان بروتس..!
هل كان يكفي البرهان من وقت حتى لو بقى داخل غرفة عمليات لإدارة الحرب على دائر 24 ساعة في اليوم..؟!
من أين يجد البرهان كل هذا (البراح) وكل هذه (الروقة) ليذهب إلى تهنئة الرؤساء المُنتخبين ..وكثير من الرؤساء الأفارقة اكتفوا بإرسال برقيات التهنئة أو قاموا بها من خلال الهاتف..وهم ودولهم في حال أفضل من حال السودان..وفي ظروف مالية لا تقارن بالإفلاس المالي في بلادنا..أو بالإفلاس الفكري والمهني الذي يعاني منه البرهان..!
هل كان البرهان يخشى أن (يلومه) الرئيس الرواندي كوامبي إذا غاب عن يوم تنصيبه..؟! أليس من العذر البيّن أن يقول البرهان لكاغامي:والله أنا بلادي في حالة حرب تم فيها قتل وإصابة أكثر من مائة ألف مواطن وتشرد بسببها أكثر من 12 مليون وما زالت قوافل اللجوء والنزوح تطرق أبواب القفار والصحاري والمجاهل..و26 مليون من أبناء شعبي يتعرّضون لمجاعة طاحنة ومستفحلة..! كما أن قيادة جيشي محتلة ولا استطيع دخولها أو دخول عاصمة بلادي..وأنا أكلمك الآن من موقع لجوئي في بورتسودان..؟!
المهزلة الأكبر خطاب البرهان في عيد الجيش..! فماذا قال هذا الانقلابي الذي باع كرامة الجيش قرباناً لأحلام وكوابيس غريبة، أو مذلة وخضوعاً للذين اختطفوا الجيش..؟! وشاهدنا على ذلك واقعة تناقلتها الأسافير بالصورة والصوت لشخص مدني من الحركة التي يسمونها إسلامية..ليس له صفة رسمية وليس له في العير ولا النفير..ذهب ومعه معممون ملتحون إلى مكتب ضابط عسكري صاحب رتبة عليا في الجيش وقال له: (أنا سمعت انك طابور خامس..وأنا الآن سوف أقوم باستجوابك وإذا ثبت ذلك..فأما إنت وأما أنا في البلد دي)..! وظل الضابط الذي يرتدي بزته العسكرية بكاملها وبنياشينها وأنواطها يجلس صامتاً وفي (إذعان غريب)..ولم يقل كلمة واحده تحفظ كرامته الشخصية أو كرامة الزي الذي يرتديه ولم يفتح الله عليه بكلمة في وجه هؤلاء الأشخاص الذين تهجّموا عليه في مكتبه لاستجوابه ومحاكمته بل بلغ بهم الأمر حد التهديد الصريح بقتله…!
ما هذا بالله عليك..؟!! كيف يحدث هذا..؟! لماذا يحدث لك هذا (سيادتو الأخ مدثر)..؟! ومن هو الرئيس المباشر لهذا القائد العسكري وما موقفه مما حدث..؟! وما رأي البرهان في هذا الذي جرى..؟!
الأمر الأغرب لماذا تم تصوير هذا المشهد..؟! لماذ تم تصوير هذا الاستجواب الذي كان ينبغي أن يتم في غاية السرية.. ثم لا يمكن أن يتم تصوير كهذا بغير علم الحاضرين..! لا بد إن الأمر مقصود (لأغراض أخرى)..!!؟!
أما خطاب البرهان في عيد الجيش فهو المهزلة الكبرى إلى درجة الطامة..!! رجل استولى على السلطة بالانقلاب يقول عن مدنيين من مواطني السودان أنهم (فئة مأجورة اختارت أن تقف في مواجهة الشعب وتتبوأ مقعدها في أشد فصول تاريخ السودان قتامة لأنها تزيّن الباطل وتنحاز لمن يقتلون الشعب ويشردونه بلا مسوغ ولا ضمير من أجل حيازة سلطة غاشمة بلا تفويض أو مرجعية دستورية)..ثم يتعهد البرهان بحفظ عزة الشعب والجيش والكرامة الوطنية (لاحظ البرهان يتحدث عن التفويض وعن الكرامة وعن المرجعية الدستورية)..!
ثم يقول البرهان إن قوات الدعم السريع (وهو من أشهر مادحيها إلى درجة الغثيان) تحتل بيوتنا وقرانا..ولا يقول إنها تحتل أيضاً حامياتنا العسكرية وقيادة جيشنا..!
ثم يعطي البرهان نفسه (مهلة سنة) ويقول: سنحتفل العام القادم في عيد قواتنا المسلحة بتطهير السودان من دنس المليشيا.. !! ولكنه لا يتحدث عن المليشيات الأخرى التي جعلته هو نفسه رهن إشارتها؟؟
ثم يرسل البرهان أمنياته بأن يعود الأسرى والمفقودين والنازحين واللاجئين آمنين إلى ديارهم ..وكأنه احد المقيمين الأجانب وليس قائد الجيش الذي يقع عليه واجب إعادة اللاجئين والنازحين وتأمينهم..!
هذا امتحان كبير (لا بد من الصبر عليه) أن تملك مثل هذه النماذج من البشر قراراً بشأن مصائر وطن وشعب بكامله..وهم على هذه الدرجة البائسة من غياب (ألف باء) العقل والوعي والضمير..! لا حول ولا قوة إلا بالله ..الله لا كسّبكم..!
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: مرتضى الغالي
إقرأ أيضاً:
الحركة الإسلامية تدفع الدولة السودانية للفناء
الحركة الإسلامية تدفع الدولة السودانية للفناء
صلاح شعيب
للأسف ما تزال المواجهة العسكرية في البلاد تسير من تصعيد كبير إلى تصعيد أكبر. والمردود لكل هذا المزيد مما يلوح في الأفق من شبح انهيار الدولة ما لم يحدث اختراق إن لم تكن معجزة. فالاستقطابان المدني والعسكري العميقان اللذين مزقا وحدة الشعب السوداني بعد الحرب أفشل أي مسعى في السابق لإحداث التسوية بين طرفي القتال.
حتى الآن ما تزال حكومة بورتسودان – بضغط من قادة الحركة الإسلامية – تتعنت للتسوية في مقابل إبداء الدعم السريع الموافقة دوماً للعودة إلى طاولة المفاوضات. وبالمقابل ليس لدى القوى المدنية المركزية الآن ما تقدمه لإطفاء النيران غير المزيد من الافتراق، وقلة الحيلة، وضعف التأثير. وعلى صعيد المجتمعين الإقليمي، والدولي، لا نعثر البتة على جدية لحمل المتقاتلين على وقف إطلاق النار.
ووسط هذه التحديات تشتعل الميديا بخطاب التخوين، والعمالة، والكراهية، والبذاءة، كآخر سقوف للتعاطي مع الأزمة. وبالتزامن تراجعت فاعلية كبار السياسيين، والمثقفين، ورجالات المجتمع الحكماء، والذين فضلوا الانزواء في ظل تفاقم مناخ الابتزاز، والمزايدة.
إن المسؤول الأول عن كل هذه الحرب هو رأس الدولة، والإسلاميون من خلفه. فالحكمة السياسية للبرهان غابت منذ بدايات مسؤوليته الرئاسية الشرفية، وسعى بالتعاون مع المكون العسكري للوقوف ضد المكون المدني لفض الاعتصام الذي شاركت فيه فيالق إسلاموية داعشية من خلف المشهد. ولكن ثوار ديسمبر أجبروا البرهان وحميدتي على الرضوخ لمطالبهم حتى تمخضت الوثيقة الدستورية. ولكن المكون العسكري لم يتعظ. فعرقل الحكومة الانتقالية، وفضل التعاون السري مع قيادات الحركة الإسلامية. ولما حانت ساعة الصفر فرض البرهان وحميدتي الانقلاب الذي أفشله نضال ثوار ديسمبر.
مرة ثانية لاحت فرصة لإنقاذ الوضع بالاتفاق الإطاري، ولكن البرهان خدع القوى السياسية في الوقت الذي كان يدبر مع الإسلاميين للتخلص من الدعم السريع الذي أبدى موافقته لدعم الاتفاق الإطاري. وهكذا خلص التآمر ضد الحل التفاوضي إلى الحرب للتخلص من قوة الدعم السريع كخطوة أولى لإنهاء كل ما يتصل بثورة ديسمبر، ومؤسساتها، وخطابها، وأحزابها، ورموزها.
الآن..حصد البرهان، والإسلاميون، ثمار مشروعهم الحربي الذي أدّى إلى الكوارث الإنسانية التي لا تُخفى آثارها على أحد. فالتدمير غير المسبوق الذي يقوم به الدعم السريع للمنشآت العسكرية والحيوية كرد فعل على قصف الجيش لمناطق سيطرته ربما يؤدي إلى شل حركة البلد تماماً. وهذا ينذر بكارثة إنسانية لم تشهدها البشرية من قبل، وستكون متضاعفة عشرات المرات عما هو عليه حال السودان من كوارث.
ما تزال الفرصة سانحة لإنقاذ السودان، ومواطنيه، إذا توفرت قدرات سياسية داخلية لإيقاف الحرب مدفوعة بضغط دولي على المكونات الإقليمية الداعمة للطرفين. وبغير ذلك فإن المتوقع هو تحقيق مشروع الحركة الإسلامية القائم على تفتيت البلاد إذا لم يعودوا للسلطة مرة ثانية. وهذه هي كل قصة الحرب بلا رتوش، أو مكياج فكري، أو فقهي، ولا يفهمها إلا من أوتي البصارة بتاريخ ودوافع الإسلاميين.
لقد ظللنا منذ بدء الحرب ندعو الرأي العام، وعقلاء السودان، للضغط من أجل إيقاف الحرب اللعينة، وكشف مخططات الحركة الإسلامية لمحو تراث ثورة ديسمبر، والعودة إلى السلطة. وسنظل في هذا الموقف إلى آخر لحظة تسبق الانهيار التام لوحدة البلاد.