لا يملك المرء إلا أن يتعاطف مع الفنان العُماني طالب محمد البلوشي الذي كان «ترند» وسائل التواصل الاجتماعي في الأيام الماضية إزاء الحملة الكبيرة التي شُنَّتْ ولا تزال تُشَنُّ عليه في منصة إكس وفيسبوك، وغيرهما، بسبب أدائه دور كفيل من جنسية خليجية في الفيلم الهندي «حياة الماعز».
وليت أن هذا الهجوم كان نقدًا لتمثيله أو طريقة تقمصه للدور، وإنما هو في معظمه مجرد شتائم شخصية له، طالت في بعض الأحيان البلد الذي ينتمي إليه!
في عالم الفن والتمثيل، هناك نقطتان مهمّتان على كل متفرج على فيلم سينمائي أو مسرحية أو مسلسل تليفزيوني أن يضعهما في اعتباره بينما يجلس أمام الشاشة الكبيرة واضعًا رِجْلًا على رِجْل وفي يده الفشار؛ الأولى أنه لا يُمكن أن يُدان ممثِّلٌ لأنه أدى شخصية معينة، خيّرةً كانت أم شريرة، فأداء الأدوار المتنوعة والمختلفة جزءٌ أساسيٌّ من حياة أي ممثل.
وعلى كلٍّ، طالب البلوشي ليس الممثل الأول، ولن يكون الأخير، الذي يواجه انتقادات بسبب دور أداه في فيلم، ويحضرني هنا مثال قريب حدث الشهر الماضي، وقد انتُقِدَ الممثّل هذه المرة حتى قبل أن يُصوِّرَ مشهدًا واحدا من الفيلم، الذي أثار ضجة وهو مجرد فكرة في أذهان صُنّاعه! وأعني به الفيلم الكوميدي «النونو» للممثل المصري أحمد حلمي الذي أثار غضب الكثير من المصريين، بعد أن أعلنت مُنتِجتُه؛ هيئة الترفيه السعودية، أن حلمي سيجسّد فيه شخصية نصاب يستهدف الحجاج والمعتمِرين في بعض عملياته، وهو الأمر الذي اعتبره مصريون في وسائل التواصل الاجتماعي تكريسًا لصورة نمطية مسيئة للشعب المصري، ما أدى إلى إعلان هيئة الترفيه عن إلغاء الفكرة.
مثال آخر؛ في عام 1985، قدم الممثل الأمريكي ميكي رورك واحدًا من أبرز أدواره السينمائية في فيلم «سنة التنين» «Year of the Dragon»، الذي أخرجه المخرج الأمريكي مايكل تشيمينو. لعب رورك دور الكابتن ستانلي وايت، وهو ضابط شرطة نيويوركي ذو أصول بولندية، يعمل في حي «تشاينا تاون» المعروف بكثافة سكانه من الأمريكيين الصينيين. وعلى الرغم من الأداء الممتاز لميكي رورك، إلا أن الفيلم أثار انتقادات الجالية الصينية في أمريكا؛ متَّهِمة إياه أنه يقدم صورة نمطية سلبية عن الصينيين الأمريكيين، ويعزز الصور النمطية العنصرية عنهم. واجه الفيلم اتهامات بالإساءة إلى مجتمع «تشاينا تاون» وتقديمه بصورة غير عادلة.
من المهم أن نذكر هنا أن الأعمال الفنية لا يُرد عليها بالسباب أو الشتائم، بل بأعمال فنيّة أخرى. فالفن هو مساحة للتعبير عن الأفكار والمشاعر ووجهات النظر المختلفة، ومن الطبيعي أن تثير إعجاب هذا المتلقي وتغضب ذاك. لذا فإن الرد الحضاري على أي عمل فني يشعر متلقوه بإساءته إليهم هو تقديم عمل فني آخر يعبر عن وجهة نظرهم، وهذا سيسهم بالتأكيد في إثراء الحوار الثقافي. وأضرب هنا مثالًا بفيلم «مولد أمة» «The Birth of a Nation»، الذي أُنتِجَ عام 1915 وأخرجه دي. دبليو. جريفيث، وهو فيلم أمريكي صامت يروي قصة الحرب الأهلية الأمريكية وإعادة الإعمار من وجهة نظر عائلة بيضاء جنوبية. يُمجِّد الفيلم جماعة «كو كلوكس كلان» الأمريكية العنصرية، ويصوّر أفرادها أبطالًا يحاولون حماية الجنوب من الفوضى والعنف اللذين ينسبهما الفيلم بشكل غير عادل للأمريكيين من أصل إفريقي. فكان أن ردّ على هذا الفيلم بعد خمس سنوات المخرج الأمريكي من أصل إفريقي أوسكار ميشو بفيلم «داخل حدودنا» «Within Our Gates» الذي سلط الضوء على واقع الحياة اليومية للأمريكيين من أصل إفريقي في تلك الفترة، مع التركيز على قضايا الظلم الاجتماعي والعنصرية. ورغم أن هذا الفيلم لم يحقق نجاحًا تجاريًّا كبيرًا في وقته، إلا أنه يُعَدُّ اليوم من أهم الأفلام التي عالجت موضوع العنصرية والتفرقة في أمريكا، ويُشار إليه بشكل متكرر في الدراسات الأكاديمية حول السينما الإفريقية الأمريكية والتاريخ الاجتماعي للولايات المتحدة.
خلاصة القول، على منتقدي الفنان طالب البلوشي أن يدركوا أنه، كغيره من الممثلين في شتى أنحاء العالم، قد يؤدي أدوارًا تثير جدلًا أو استياءً لدى البعض. ومع ذلك، فإن تقييم مثل هذه الأدوار يجب أن يحدث من منظور فني بحت، بعيدًا عن التسييس أو الهجوم الشخصي أو التعرض لبلده أو هويته. الفن هو وسيلة للتعبير ولإثارة النقاش، وليس أداة لتوجيه الاتهامات أو الإساءة للآخرين. وفي النهاية، وكما علمنا المثال الذي سردناه قبل قليل، يمكن أن يكون الرد الحضاري على أي عمل فني بتقديم عمل فني آخر يفتح باب الحوار ويقدم وجهة نظر مغايرة تعزز الفهم المتبادل والاحترام بين الثقافات والشعوب.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: عمل فنی
إقرأ أيضاً:
سلطنة عُمان.. الودق الذي يُطفئ الحروب
د. أحمد بن علي العمري
سلطنة عُمان… بلد الأمن والأمان والسلام والإسلام والاعتدال والحياد والأعراف والعادات والتقاليد وحسن التعامل والتسامح، حيث إن الأعراف والتقاليد لدى العُماني أقوى من أي قانون؛ الأمر الذي جعلها محل ثقة وتقدير واحترام العالم أجمع دون استثناء.
ومع ذلك؛ فالرأي مفتوح للجميع، وسقف الحرية مرتفع بحكم القانون العُماني. ولقد لفت انتباهي الانطباع الذي خرج به المشاركون في معرض مسقط الدولي للكتاب من زوار ومؤلفين وناشرين؛ حيث عبّروا عن الحرية التي وجدوها؛ فهناك الكثير من الكتب التي يُمنع نشرها في العديد من الدول وجدت حريتها في عُمان تنتظرها، وأكدوا أن في عُمان مجالًا رحبًا للرأي والرأي الآخر، وأفقًا للرأي الواسع، كما أشاروا إلى حفظ الحقوق واحترام وتقدير الآخرين.
لقد وجدوا التطبيق الفعلي لعدم مصادرة الفكر؛ بل حمايته وتهيئة الجو المناسب له، فقد قالها السلطان الراحل قابوس بن سعيد - طيب الله ثراه -: "إننا لا نصادر الفكر.. أبدًا"، وأتت النهضة المتجددة لتؤكد على استمرارها ونموها وتوسعها؛ فأضحت عُمان بلا منازع محل تقدير ومركز تسامح وموقعًا لثقة الجميع.
المعروف أن الودق هو المطر الذي يُنهي الجفاف ويحيي الأرض، وفي السياق الأدبي أو الثقافي يُستخدم كرمز للخير والسلام، وعندما نقول إنه يطفئ الحروب، فهو تعبير مجازي عن دور عُمان التاريخيّ في إخماد النزاعات بالحكمة والدبلوماسية، كما فعلت عبر تاريخها في الوساطة بين الأطراف المتنازعة.
إن سلطنة عُمان معروفة بسياسة الاعتدال والحوار؛ سواء كان ذلك في محيطها الخليجي أو العربي أو على المستوى الدولي، مما جعلها صانعة للسلام بامتياز. وهكذا فإن الودق العُماني ليس مجرد مطر مادي، وإنما هو إشارة للغيث الأخلاقي في البوتقة السياسية الذي تقدمه عُمان لتهدئة الصراعات ومسبباتها ووأد الفتنة في مهدها.
لقد وقفت السلطنة كعادتها الدائمة والثابتة والراسخة على الحياد؛ فلم تقطع العلاقات مع جمهورية مصر العربية إبان اتفاقية كامب ديفيد، وكذلك الحياد في اتفاقيات مدريد وأوسلو ووادي عربة، وبقيت محايدة في الحرب العراقية الإيرانية، ولم تتدخل في الحروب التي تستعر هنا وهناك من حينٍ لآخر؛ فلم تتدخل في حرب ليبيا، ولا الصومال، ولا اليمن، ولا السودان؛ بل أغلقت أجواءها أمام الاستخدام العسكري لأي من الطرفين المتنازعين.
وقد كانت الوسيط لإطلاق عدد كبير من المحتجزين للعديد من الدول، كما إنها كانت وسيط الاتفاق النووي الإيراني عام 2015، وحاليًا تقوم بالوساطة ذاتها بين أمريكا وإيران للوصول إلى اتفاقية ثابتة وملزمة ومحكمة.
ومؤخرًا تدخلت السلطنة لإطفاء الحرب الملتهبة بين أمريكا واليمن، والتوصل للاتفاق على وقف إطلاق النار بين الطرفين، وهي حرب بالغة في التعقيد، لكن الدبلوماسية العُمانية المعهودة كان لها التأثير السلس الذي يتواصل مع الفرقاء برقة النسيم، وعذوبة الودق، وشذى الياسمين.
كل ذلك بهدوء ودون صخب إعلامي أو ضجيج القنوات الفضائية أو جعجعة الحناجر، كعادتها عُمان تبتعد عن المنّ والأذى.
إن الطائر الميمون الذي يقلّ المقام السامي لحضرة مولانا صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - حفظه الله ورعاه - بين العديد من عواصم العالم بين الحين والآخر، إنما يحمل على جناحيه غصن الزيتون ومرتكزاته وأهدافه، هو نشر السلام والتسامح؛ فعُمان تلتقي ولا تودع، وتجمع ولا تفرّق، وتلمّ ولا تشتّت، وتمُدّ يد السلام والوئام والتسامح والأُلفة للجميع.
حفظ الله عُمان وسلطانها وشعبها.