كتاب الوصايا.. شهادات مبدعات ومبدعين من غزة في وجه الموت
تاريخ النشر: 5th, September 2024 GMT
كأنها مذكرات أو شهادات لكنها لا تشبه سواها من النصوص، فقد كتبت بين احتمالات القتل اليومية في غزة التي تنهال عليها حمم الموت منذ 11 شهرا، لتجعل الشاهد شهيدا وتحيل الكلمات التي كانت عادية إلى وصايا ضد الموت.
"كتاب الوصايا" -الصادر بنسخته العربية عن دار مرفأ اللبنانية، يحمل عنوانا فرعيا "شهادات مبدعات ومبدعين من غزّة في مواجهة الموت"، وهو مختارات لأصوات قادمة من اليباب، أصوات سكان غزة اليوم.
بعض هؤلاء الشهود رحلوا عن العالم بعد تدوين هذه الكلمات؛ وآخرون أسكتهم اليأس، كما يقول الروائي والكاتب الكبير، ألبرتو مانغويل الأرجنتيني المولد الكندي الجنسية في مقدمته لـ"كتاب الوصايا".
إحدى هذه الوصايا كتبها "سليم نفار"، شاعر ارتقى مع أفراد عائلته في قصف وقع بعد وقت وجيز من كتابتها. وفتاة عمرها 17 عاما، هي ابنة لكاتبة معروفة من غزة توجد بألمانيا منذ العام الماضي فيما عائلتها عالقة الآن بقطاع غزة.
نصها المدرج في الكتاب هو من ضمن النصوص الأخيرة التي تلقتها الأم من ابنتها، بحسب مدير المكتبة الوطنية الأرجنتينية السابق.
لكن الوصايا برمتها -كما يقول "الرجل المكتبة" مانغويل- جوهرية في مواجهة سؤال ما الذي يجعلنا بشرًا. في ظهيرة أحد الأيام في عصور ما قبل التاريخ القصية، حدث شيء ما في التطور البيولوجي لأسلافنا، مما أدى إلى تحوّل جنسنا إلى كائنات بشرية واعية.
واللغة أداة ضعيفة، كما يرى مانغويل، لكن، وعلى الرغم من استحالة إيجاد لغة مناسبة تتناول معاناة الضحية، عندما نواجه تلك المعاناة فإن حالتنا الإنسانية تدفعنا إلى الكلام على نحو متردد يفتقر إلى الدقة.
ومن خلال المقارنات والتلميحات، نحاول استحضار الرعب الذي نشهده عن طريق ما يشبه تعويذة السحرة حيوية بعض الشيء، تحذيرية إلى حد ما. وفي كل مرة ننطق فيها كلمات جديدة، نخفق في تحقيق هدفنا الأساسي، لكننا لا نزال نحاول.
وعلى مر القرون كل إنسان يمتلك اللغة المتاحة له: يستخدم المؤرخون السجلات الوثائقية، ويستخدم العلماء الحقائق الملموسة، والموسيقيون والفنانون البصرين الصوت واللون، وصانعو الأفلام الصور المتحركة، والشعراء الكلمات مهما كانت باهتة، والقراء (مثلي) ذاكرة الصفحات التي تمت زيارتها.
بين الأحياء والأمواتهذه الوصايا مروّعة وبحق، كما ترى الفيلسوفة الأميركية جوديث باتلر الداعمة لحركة مقاطعة إسرائيل في مقدمتها الثانية للكتاب بعد مقدمة مانغويل.
وتكمل باتلر قائلة إنه بفعل المذبحة التي أودت بحياة أولئك الذين يحبونهم، أولئك الذين بالكاد يعرفونهم، أو أولئك الذين جاؤوا من أجلهم، أو قد سبق وجاؤوا. كل فعل كتابة يخاطب شخصا ما، يخاطب غزة نفسها، أو المستقبل، الأطفال الذين يأملون في النجاة.
كل فعل كتابة هو أيضًا نداء، يسألنا أين نحن -القراء الأحياء- كي نقرأ هذه الكلمات سواء تحدثنا، استجبنا، سعينا إلى استجابة المؤسسات العالمية؟ ويسألون عما نراه في المرآة، وهل سمعنا الأصوات، وهل قاومنا ما أسميناه بالإبادة الجماعية.
لقد ناشدت كل كلمة من هذه الكلمات بأن تُقرأ، وتسمع من تلقاء نفسها، أو مترجمة، حتّى تجعل من مسألة عدم معرفة ما عاناه الفلسطينيون تحت الهجوم الوحشي الذي شنته القاذفات والقتلة الإسرائيليون، أمرًا مستحيلا.
كل كلمة تناشدنا بأن ينصب اهتمامنا على محنة هذه الأرواح ومعاناتها وصمودها، هذه الحيوات التي تعيش كل لحظة مع موتها العنيف شبه المؤكد هذه كلمات مكتوبة للعالم تناشدنا بأن نرى ونسمع ونتخيل ونفعل.
ما الوصية الأخيرة؟ إنها آخر ما تبقى من رغبة وأمل.
ما الشهادة؟ إنها تمنحنا شذرات من حياة لا تزال على قيد الحياة، بينما تسبر غور مستقبل حياة لم تعد على قيد الحياة.
تسأل الوصية عما تبقى من الرغبة في مواجهة هذه الوحشية، وهذا الدمار الشامل. حتى في الوقت الذي لا يتبقى شيء يمكن تقديمه، تظل الوصية بمثابة فعل كتابة، وتنقل الكلمات التي تحمل آثار حياة زائلة وأخرى مقبلة، كلمات تم جمعها قسرًا للإصرار على أواصر التضامن بين الأحياء والأموات.
وهذه بعض مختارات من وصايا الكتاب، أولها بقلم الروائي والقاص الفلسطيني يسري الغول، وقصيدة شعرية للأكاديمي الفلسطيني والشاعر رفعت العرعير، والشاعر سليم النفار، والشاعر أمل اليازجي، والشاعر مصعب أبو توهة.
يسري الغول (وصية رجل حالم)اعتقدت لوقت طويل أنني سأجلس على مقعدي الوثير، في ليلة ماطرة من مساء شتوي مثقل بالبرد ينبعث صوت أم كلثوم وأنا أكتب وصيتي الأخيرة لأبنائي وزوجتي ومن يهتم لأمري، وللقراء الذين يظنون أنني شخص خارق.
وكنت كذلك، أحلم أنني سأكتب الوصية بقلم أزرق جاف من نوع فاخر، أضع النظارة على أرنبة أنفي، أحك شعري المجعد المليء بالشيب، بجواري حبوب الضغط والسكري، أسجل انكساراتي وخيباتي وتعاليمي ومواعظي ولا أعرف كم سيكون عمري حينذاك، ربما ثلاثة وسبعين عاما أو أكثر قليلا.
لكن المصيبة أن هذا الأمر لن يحدث بعدما انتشرت رائحة الحرب في الأرجاء دُمرَ بيتي وَقُتِلَ جيراني، نزحنا من مكان لآخر، من مركز إيواء إلى بيت صديق حميم إلى الشارع، لذا بت أنتظر الصاروخ كي يقضي على ما تبقى مني، فأنصرف عن الحياة بصخب كما فعلت الصواريخ اللعينة في قصصي ومدينتي.
إن ما جرى يفوق الخيال، ويتجاوز فكرة الانصراف إلى الكتابة في هذا الوقت العصيب فتحريض العقل على طهي نص مسبوك لأجل صديقة تقطن في الضفة الأخرى من الوطن محض هراء.
وكذلك أن نجمع الوصايا المتخمة بالموت في كتاب يوثق اللحظة؛ كي نضع العالم أمام واجبه الأخلاقي تجاه الإنسان المهزوم في قطاع محاصر، يشبه المدن المتحضرة رغم لونه قاتم السواد، يسمى غزة.
ولأنني مضطر أن أكتب وصيتي أيضا، قررت تنفيذ عملية فدائية لعلي أحظى بهدنة قصيرة.
لذا فكرت أن أجمع شتاتي، ألتحم مع الجدران المدمرة، الأبنية المنهارة على رؤوس ساكنيها، أتضخم مع الحديد الذي اخترق أجساد الأطفال والنساء، وأصير ذلك العملاق، ربما أعظم من الهولك الأخضر، وأقوى من الأيرون مان، أتحول إلى مخلوق یكبر كلما سار في الطرقات.
الطرقات التي تنتشر فيها رائحة الدم والصواريخ والدمار الهائل، تلتصق بجسدي كتل الباطون والإسمنت والحجارة حتى أصير مثل عمالقة أفلام هوليود تماما، كي أقضي على الدبابات التي قنصت ابن خالتي ودمرت بيت أخي، ولألتهم الطائرات المغيرة على الأبرياء كل دقيقة.
ترى هل يمكن للقبضة الإسمنتية أن تتأثر بضرب الطائرات الحربية التي تمارس هوايتها باللعب فوق بيوتنا المتهالكة، تلك التي تسقط حممها البركانية بينما يضحك كابتن الطائرة لإصابته الهدف بدقة، وإنهاء حياة أطفال كانوا ينتظرون الذهاب إلى المدرسة في جعبتهم حلم دراسة الهندسة عندما يكبرون؛ كي يعيدوا ترميم وترتيب البيوت مجددا.
لقد قررت حقا البحث عن الوسيلة الناجعة في تدمير طائرات "إف16″ و"إف35" والكواد كابتر والدرونز فجمعت الحديد في قبضتي لأضرب كل الطائرات المارقة، العابئة بكل تفاصيل الحياة، المتناحرة في هذا الكوكب الصدئ، لكنني اكتشفت عجزي وقلة حيلتي.
ولأن اليد من لحم ودم، أوصي المجانين أمثالي، الغارقين في الخيال، أن يتحول بعضهم إلى زمار يأخذ الأطفال إلى مغارة بعيدة، يعزف كل رجل فيهم مقطوعته الموسيقية عند الفجر ليذهب الملائكة الصغار إلى مغارة لا مكان فيها للموت، وأن يلبس البقية قناع زوربا ليسرقوا الطعام والألعاب من بيوت الأغنياء.
هذه وصيتي التي لا أعرف إن كانت ستصل إلى أصحابها أم لا، خصوصا أن المخيم بلا إنترنت أو كهرباء، وصية شخص غارق في الخوف والأمل.
أرجو أن تصل بأي وسيلة، عبر الكوابيس أو الأحلام، أو عبر يمامة مغبرة، غارقة في التيه.
رفعت العرعير (إذا كان الموتُ لزاما علي)إذا كان الموتُ لزاما علي
لا بد وأن تحيوا أنتم
لترووا حكايتي
لتبيعوا أغراضي
لتقتنوا قطعة من الملابس
وبعض الخيوط
(ولتكن بيضاء ذيلها طويل)
حتى يرى طفل، في مكان ما في غزة،
وهو يتأمل السماء
ينتظر والده الذي رحل في انفجار
ولم يودع أحدًا
ولا حتى لحمه
ولا حتى نفسه
يرى طائرة ورقية، أنتم من صنعها، تحلّق
عاليا
ويحسب للحظة أن ثمة ملاكًا هناك
يردُّ الحب.
إذا كان الموتُ لزاما علي
فليأت بأمل
وليأت بحكاية.
أريد أن أنجو.
سليم النفار (إعلان براءة)
25 يوما من التطهير العرقي ضد شعبنا. حرب تقودها راعية البشر أميركا. 25 يوما لم يعرف النوم جفوننا. وإذا غفونا لا نعرف إن كنا سنصحو أم نواصل نومنا الأبدي؟ ولا أحد من العرب يحرك ساكنا يخفف من آلامنا وأحزاننا التي طغت على قلوبنا وقلوب أهلنا.
لذلك، وصيّتي لأولادي إن قدر الله لكم الحياة أن تعلنوا البراءة من العرب، فواقع الأمر يدلل بأنهم لا ينتمون لجنسنا. بل هم وقادتهم جزء من المؤامرة التي تستهدف إبادتنا.
أمل اليازجي (لقد زال همكم إلى الأبد)لو رحلنا اطووا صفحتنا للأبد.
مزقوا فلسطين من كراسة ذاكرتكم فليس لكم بها حاجة، أخبروا أصدقاءكم أنه كان هناك أمل، ثم انطفأ.
واصلوا حياتكم كأننا لم نكن، العبوا، اشربوا، كلوا، تنزهوا، احتفلوا، تزينوا، غنوا، ارقصوا، افعلوا كل شيء.
لكن إياكم أن تنظروا إلى مراياكم، لأنكم إذا فعلتم فسترون دماءنا على وجوهكم، وأشلاءنا بين أيديكم، وصراخنا في ملامحكم، وأصواتنا دخانًا ينقش خارطة فلسطين على صدوركم.
حين نرحل؛ مزقوا كتب التاريخ، ولا تخبروا أولادكم أنه كان هنا شعب قاوم خمسة وسبعين عاما دون أن يفقد الأمل قبل أن يقتله الأمل.
حين نرحل؛ أحرقوا الجغرافيا. إياكم أن تخبروا أولادكم أنه كان لنا جيران من العرب المسلمين، تعلقت قلوبهم بنا حبا، ولم يفهموا أن من الحب ما قتل، لا تخبروهم أن حدودًا وضعها المحتل، وأمركم أن تحرسوها، هي من كانت المقصلة التي قطعت رقاب جيرانكم، والسيف الذي غرز في ظهر ماردهم، والحفرة التي دفنوا فيها.
إياكم أن تخبروهم أنكم انشغلتم بإنجازاتكم العظيمة فصنعتم أكبر صحن تبولة، وأعظم طنجرة مقلوبة، وأفخم منسف باللحم، وألذ طبق كشري، وأروع موسم فني للرقص والغناء بينما كانوا يبادون وحدهم.
احتفلوا كثيرًا، فلن يظهر عويل ولا بكاء ولا جرائم مروعة على شاشات أطفالكم تعجزكم عن الإجابة عن أسئلتهم.
نظموا حفل عشاء كبيرا، ولا تنسوا كاتشاب دمائنا، ولا فلفل قهرنا، ولا عصير دموعنا، ولا صراخنا.
لقد زال همكم الكبير، وإلى الأبد.
مصعب أبو توهة (إن كنتُ سأموت)إن كنتُ سأموت
فليكن موتًا نظيفًا.
لا ركام فوق رفاتي
لا جروح في رأسي أو صدري،
لا دمار في مخدعي
لا آنية ولا كؤوس متكسرة.
أبقوا ستراتي
وسراويلي
حديثة الكي
على حالها
في الخزانة
فقد أرتدي بعضًا منها بعد أن تمرّ
جنازتي
لا تؤذوا أطفالي، فلا يزال
العديد من كتب الشعر
لتُقرأ،
المزيد من الحكايات الخرافية والقصائد الجديدة
الكثير مما قد عشناه.
لتُكتَب،
الكثير مما قد عشناه.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات مواقع التواصل
إقرأ أيضاً:
عندما تصبح الحرب عادة بشرية يصعب الإقلاع عنها.. قراءة في كتاب
الكتاب: موجز تاريخ الحربالمؤلف: غوين داير
المترجمة: أراكة مشوّح
الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر
"على مدى ثلاثة أرباع القرن، لم تخض أي قوة عظمى ضد أخرى حرب مواجهة، لذا فإننا أحرزنا أشواطا من التقدم، إذ إنها أطول فترة من دون حرب خلال آلاف السنين الماضية، رغم أنهم قد يشنون حروبا بالوكالة، أو يغيرون على بلاد صغيرة ومستضعفة، ومع ذلك فقد باتت أسلحتهم فتاكة أكثر من ذي قبل إلى الدرجة التي تتجنب فيها تلك القوى مواجهة بعضها بعضا في حرب مفتوحة".
بهذه الكلمات يفتتح غوين داير، المؤرخ العسكري الكندي، كتابه الذي يدرس الحرب بوصفها عرفا وتقليدا سائدا بين الناس، وبوصفها مؤسسة سياسية واجتماعية، ومعضلة يجب على البشر التعامل معها. وهو يقول أنه على الرغم من انخفاض ضريبة الحرب منذ الحرب العالمية الثانية التي سجلت مقتل ما يزيد على مليون شخص في كل شهر، لنصل اليوم إلى بضع مئات الآلاف من القتلى، فإن الأسلحة لا تزال موجودة وهي أشد فتكا من ذي قبل، ولا تزال الدول تضع الخطط للحرب، وميزانيات الدفاع في ارتفاع مضطرد، فالحرب "دائما خيار مطروح على الطاولة، من قبل العسكريين والدبلوماسيين". ومن هنا فإن السؤال المركزي الذي يحاول داير الإجابة عنه في كتابه هذا: لماذا نخوض الحروب، وكيف نوقفها؟.
لماذا نخوض الحرب؟
يقول داير أنه بحسب المؤرخين وقعت أول معركة بين جيشين حقيقين قبل 5500 عام في أرض سومر(العراق). وكانت الجيوش وقتها تحمل الأسلحة ذاتها التي استخدمها الصيادون والمحاربون لقتل الحيوانات وقتل بعضهم بعضا، مثل الرماح والسكاكين والفؤوس، وربما الأقواس والسهام. لكنه يشير أيضا إلى أن علماء الآثار اكتشفوا في الخمسينات من القرن الماضي أول مدينة مسوّرة في العالم في أريحا بنيت قبل عشرة آلاف عام.
على مدى قرون شهدت أساليب الحروب وأسلحتها تحسينات فرضتها تطورات اجتماعية واقتصادية، فعلى سبيل المثال" لم يكن أحد بحاجة إلى القوات البحرية حتى بدأت الحضارات بإنتاج بضائع مثل الحبوب والخمر والمعادن والخشب.. التي كانت ومازالت تنقل عن طريق البحر.. فتم إنجاز السفينة الحربية سريعا، وضمن تصميم قياسي نادرا ما تبدلت تقنيته على مدى آلاف السنوات".وكانت جدران هذه المدينة ترتفع إلى ما يقارب اثنى عشر قدما، يحيط بها خندق مائي تم نحته في الصخر بعمق عشرة أقدام، وتحيط به عشرة فدادين من الأراضي، حيث عاش في هذه المدينة ما يزيد على ثلاثة آلاف شخص، وهو الأمر الذي فُسّر على أن هذا المجتمع الزراعي كان يعيش في حالة تأهب عسكري للدفاع عن نفسه وعن مدينته أمام مطامع الآخرين وهجماتهم، الذين كانوا غالبا من البدو الناقمين على المجتمعات الزراعية المستقرة. إذ يغيرون عليها وينهبون ما يستطيعون من الممتلكات الثمينة المحرومين منها.
ويشرح داير أن المجتمعات الزراعية لم تكن في نظر البدو أكثر من مجرد مجموعة من الطرائد التي يمكن اقتناصها وقتلها دون أي تأنيب للضمير. لذلك كان على أفراد هذه المجتمعات أن يتعلموا شيئا فشيئا ضرورة الانضباط في معاركهم كمحاربين أمام هذه الغارات، وأن يتقنوا طرقا جديدة وفعالة في الحرب، "ومن هنا بدأت خطورة المعركة، واكتسبت الحرب قوتها الفتاكة".
يحاول داير إذن فهم أسباب النزاعات العسكرية البشرية عبر التاريخ، التي تمحورت في جلها حول التنافس على الموارد والسيطرة عليها، ويبيّن كيف تطورت طبيعة هذه الصراعات وأسبابها، وأساليبها وأدواتها أيضا مع تطور المجتمعات البشرية، ويقول إن بدايات الحضارات التي بنت عالما جديدا من المزارع والمدن والجيوش، حملت معها أيضا ابتكارات أساسية في الحروب، مثل الحصون الضخمة، وآلات الحصار، والأقواس المركبة، ومركبات الأحصنة والفرسان، وكتائب المشاة، فأصبحت كل هذه عناصر أساسية للحرب الكلاسيكية.
ويشير داير إلى أنه على مدى قرون شهدت أساليب الحروب وأسلحتها تحسينات فرضتها تطورات اجتماعية واقتصادية، فعلى سبيل المثال" لم يكن أحد بحاجة إلى القوات البحرية حتى بدأت الحضارات بإنتاج بضائع مثل الحبوب والخمر والمعادن والخشب.. التي كانت ومازالت تنقل عن طريق البحر.. فتم إنجاز السفينة الحربية سريعا، وضمن تصميم قياسي نادرا ما تبدلت تقنيته على مدى آلاف السنوات". وفي السياق نفسه وبسبب الحاجة إلى تقليل الكلفة البشرية الهائلة جاء اختراع الأسلحة النارية، التي تحقق دفاعا أفضل وتقلل احتمالات الاشتباك الجسدي المباشر.
الجيوش الحاشدة والحرب الشاملة
حتى أواخر القرن الثامن عشر لم تحدث أي طفرات كبيرة على الجانب العسكري، لكن التغيير الذي وقع، بحسب ما يقول داير، كان سياسيا، لا سيما في فرنسا، حيث صار بمقدور المجتمعات الجماهيرية، بفضل اختراع الطباعة وانتشار الكتب والكرّاسات التي خلقت وعيا وفهما جديدا للحقوق والواجبات، أن تخوض النقاشات وتطرح الأفكار المختلفة التي هيأت الناس العاديين للتحرك وصناعة قراراتهم بأنفسهم. قاد ذلك إلى ثورات على الأنظمة الملكية الحاكمة والتخلص من الحكام المستبدين. كما قاد أيضا لما عرف ب "الحرب الجماهيرية" و"الجيوش الحاشدة" التي استمدت زخمها من قوة المشاعر والأفكار الوطنية، ثم القومية. وهي في مرحلة متقدمة كانت، أي هذه الجيوش الحاشدة، سببا في تدمير الكثير من المدن الأوروبية وقتل مئات الآلاف، عندما تحولت أهداف حروبها إلى الهيمنة وبسط النفوذ.
سينتقل داير بعد ذلك للحديث عن "الحرب الشاملة"، تلك التي استدعت فيها القوى العظمى الملايين من الجنود وبعثت بهم إلى المناطق الحدودية. لتبدأ الحرب العالمية الأولى في العام 1914. وهي حرب اعتقد الجميع، بحسب ما يقول داير، أنها ستكون سلسلة سريعة من المعارك التي ستنتهي في غضون ستة أشهر. وهي إلى ذلك حرب "لم تشعلها التجارة أو المستعمرات الخارجية أو من أجل الوقوف في وجه الغزاة" بل أشعلتها التوجسات من التحالفات. "لقد توجست فرنسا من ألمانيا بفعل عدد سكانها وقوتها الصناعية المتسارعة، مما حدا بها إلى تكوين تحالف مع روسيا..
ولجأت ألمانيا إلى التحالف مع النمسا ـ المجر، التي كانت تتنافس مع روسيا على أراضي البلقان. وتحالفت بريطانيا مع فرنسا وروسيا لأنها شعرت كذلك بالتهديد من صعود ألمانيا".
المجتمعات الزراعية لم تكن في نظر البدو أكثر من مجرد مجموعة من الطرائد التي يمكن اقتناصها وقتلها دون أي تأنيب للضمير. لذلك كان على أفراد هذه المجتمعات أن يتعلموا شيئا فشيئا ضرورة الانضباط في معاركهم كمحاربين أمام هذه الغارات، وأن يتقنوا طرقا جديدة وفعالة في الحرب، "ومن هنا بدأت خطورة المعركة، واكتسبت الحرب قوتها الفتاكة".هذه الحرب التي حشد لها ملايين الجنود، الذين اختبروا على مدى 4 سنوات المرابطة في الخنادق في ما عرف ب"الجبهة المستمرة، بينما يمتلىء الهواء برصاص البنادق، ثم بقذائف المدافع سريعة الإطلاق، تحولت إلى حرب استنزاف ليس فقط للجنود، بل أيضا للمدنيين. لقد تم تجنيد الاقتصاد المدني لخدمة الحرب، وفرض التقنين على المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية، وحلّت النساء محل الرجال الذين ذهبوا إلى الحرب في المصانع. لكن نصرا شاملا أو هزيمة شاملة لم تتحقق لأي من طرفي الحرب. لقد كانت الأثمان باهظة والخاسرين كانوا ساخطين جدا لذلك لم يتحقق السلام لأكثر من عشرين عاما فقط. قتلت الحرب العالمية الثانية ضعف من قتلتهم الحرب العالمية الأولى ، وقتلت من المدنيين ضعفي ما قتلته من الجنود، وكان ذلك بفعل الضربات الجوية واستراتيجية "القصف الجماعي.
يقول داير: إن ما حدث بعد ذلك هو أن أغلبية الناس لم تعد تنظر إلى الحرب باعتبارها أمرا معظما وجليلا، بل صاروا يرونها معضلة كبرى.
يرى داير أنه رغم مرور عقود طويلة بدون مواجهة عسكرية بين قوى عظمى، فإن "ثلاثة تغييرات هائلة تجري الآن يمكن أن تقلب النظام الدولي ـ الذي تم تأسيسه من أجل حفظ السلام ـ وتعيده إلى الاختلال القديم"؛ ارتفاع درجة حرارة الأرض، وصعود قوى عظمى جديدة، والملف النووي. ويوضح أن ارتفاع درجات الحرارة سيؤثر بالضرورة على إنتاج الطعام، وسيقود إلى مجاعات وموجات هائلة من اللاجئين، لن يكون مرحبا بهم على الأغلب. وبالنسبة لصعود القوى الجديدة مثل الصين والهند فإنه سيكون على النظام الدولي التوفيق بين مطالب هذه القوى واستيعابها ومطالب القوى المتراجعة بعيدا عن الحرب، كما حدث في الماضي، لأن "أحدا لا يتمنى أن يتكرر هذا السيناريو بأسلحة القرن الواحد والعشرين".
ويضيف داير: إنه لا يمكننا الحلم بمدينة فاضلة حيث يتآخى الجميع (شعوبا وحكومات) وأكثر حل عملي متاح لنا هو الإبقاء على النظام متعدد الأطراف الذي تم تأسيسه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، رغم كل السلبيات التي تعتريه، واستيعاب جميع القوى ضمن نظام يشدد على أهمية التعاون بدلا من الذهاب إلى المواجهات العسكرية.