سودانايل:
2025-12-12@19:49:44 GMT

ملامح من الحياة في كندا (3)

تاريخ النشر: 23rd, September 2024 GMT

دولة كندا جغرافياً تجاور أكبر دولة رأسمالية في العالم الأ أن الكنديين ما زالوا يستمتعون بأنتصارات حركتهم العمالية والنقابية في عدة مجالات: نظام صحي مجاني وتعليم مجاني فيما قبل المرحلة الجامعية ونظام ضرائبي يتماشي مع العدالة الأجتماعية وحالياً بدأت بعض المدن في تطبيق نظام المواصلات المجانية طوال أيام الاسبوع لكبار السن أي فما فوق الخمسة وستين وبعضها جعل المواصلات مجانية لكبار السن ليوم واحد في الأسبوع .

هذا الواقع الأقتصادي الأجتماعي جعل من كندا دولة تختلف عن جارتها . قبل فترة قابلت أحد المواطنيين الذين حضروا من الصين وأستقر بكندا ، فسألته عن تجربة النظام الأشتراكي في الصين والتحولات الرأسمالية الجارية . فجاء رده بأن الاشتراكية توجد في كندا وليس في الصين .
علي الرغم من أهمية (الانترنت) والعم (قوقول) في حياة الكنديين بصورة عامة وطلبة الجامعات والمدارس بصورة خاصة الأ أن هنالك بعض القوانين التي تحد من أستعمال التلفون أثناء اليوم الدراسي بالنسبة للطلاب فيما قبل المرحلة الجامعية . بعض الدراسات العلمية توصلت الي أن جهاز التلفون الذي يكون بالقرب من الطالب يتسبب في تشتيت الأنتباه وعدم التركيز مع المعلم إضافة الي أن الطالب مع وجود الأنترنت قد ينجذب الي صفحات غير مرغوب فيها . عليه مُنع إستعمال التلفون في المدارس أثناء اليوم الدراسي وترك كيفية تطبيق القرار للمحافظات المختلفة . مثلاً بعضها منع أستعمال التلفون أثناء الفصل الدراسي لكل المراحل بدأً من الروضة الي الفصل الثاني عشر وفي البعض الآخر كمحافظة أنتاريو يتوجب علي التلاميذ من مرحلة الروضة الي الفصل السادس أن يضعوا التلفون في الصامت ويتم تسليمة الي أدارة المدرسة عند الدخول ومن الفصل السابع الي الثاني عشر يمنع أستعمال التلفون أثناء الحصص وهذا القرار بدأ تطبيقه من بداية العام الدراسي الحالي . أوضحت نتائج الأستفتاء علي هذا القرار أن 70 بالمئة من الأباء مع المنع أثناء الحصص الدراسية .
من الملاحظ أن جائحة الكرونا التي بدأت تعاود الظهور مرة أخري ، أفرزت بعض السلوكيات الغريبة علي البشرية والمجتمع الكندي خاصة . أصبح الناس أكثر حوطة تخوفاً من إنتقال العدوي وشملت هذه الأحتياطات غسل الأيادي بأنتظام وتعقيم كل الأجسام الثابته والصلبه ، تفادي الأختلاط والأبتعاد بمسافات عن البعض قد تصل الي متر بين الشخص والآخر ، لبس الأقنعة والكمامات حتي أصبح من الصعوبة التعرف علي الشخص الذي يقف أمامك . هذه الجائحة اللعينة بعد أن قتلت الملايين خلفت آثارها السلبية علي الحياة الأجتماعية ، فرضت حظر علي طريقة السلام والتحية بين البشر، أختفي بدون مقدمات العناق والمحنة في اللقاء وتبادل القبلات بين الأحبة وصار حصراً علي غرف النوم والأفلام السينمائية . مجتمع الرأسمالية الأستهلاكي أنتهز هذه الفرصة وأنجب ظاهرة أجتماعية جديدة . أصبح في حكم العادة أن تري كل فرد يحمل معه وعاءً بلاستيكياً مملؤاً بالماء أشبه (بالزمزمية) لا يشاركه فيها شخص آخر في الشرب كنوع من الاجراءات الصحية وتفادياً لنقل العدوي . هذه الزمزميات ذات أحجام مختلفة إضافة الي أنها بخلاف عدم نقل العدوي تفرض علي الشخص شرب كمية محددة من الماء تقدر بأثنين لتر في اليوم ومعها خط بياني يوضح كمية الأستهلاك في الساعة المحددة . شعوب وصلت مرحلة من الحرص علي الصحة حددت فيه مقدار الماء الذي يحتاجه الأنسان علي مدار الساعة . أزرفت الدمع علي النازحين في بلدي الذين توفوا ولم يجدوا قطرة ماء ترؤي ظمأهم وكذلك العالقين في أقصي الشمال حيث وصلت درجة الحرارة الي خمسين أو أولئك الذين علي الحدود السودانية التشادية الذين ساروا حفاةً عراةً عشرات الكيلومترات بدون قطرة ماءٍ في بلد تجري فيه ثلاثة أنهار وبه أطول نهر في العالم . دنيا لا يحكمها من يحكمها (الفيتوري) .
المسكن ليس هو بالشيئ الثابت في كندا ، يتغير بتغير الحوجة والتي هي بالضرورة تتأثر بعوامل عدة منها تغيير مكان العمل ، أو عدد الأشخاص الذين يقطنون هذا المنزل أو ذاك في حالة النقصان أو الزيادة ، الكّبر الذي يحتاج لسكن بمواصفات محددة تخلوا من السلالم والطوابق العالية ، الترحال بسبب الدراسة ، أنفصال الأسر وهلمجرا . تغيير السكن عادةً ما تتبعه فوائد مالية . وفي حالة أتفاق المُلاك (الزوج والزوجة) علي تغيير السكن ينتظرون السانحة التي يجنون منها الربح في أتخاذ هذا القرار . بهذه المعايير قد تكون أسرتي من أقدم الأسر في الشارع الذي يقع فيه منزلنا، لم نتحرك منه قيد أنملة . في الجهة المقابلة لمنزلنا يسكن مهندس معاشي من أصل هندي . زوجته من أسكتلندا وعلي ما أعتقد تلقي تعليمه بأنجلترا ولهم أبن واحد (جون) عمره يقارب الخمسين عاماً غير متزوج ويسكن مع والديه علي غير العاده بدعوي كبر سنهم وأحتياجهم لمساعدته . نتبادل مع هذه العائلة هدايا الكريسماس وفي بعض الأحيان أطباق من الطعام كحال الجيران في كل الدنيا . (جون) لم أراه يزاول عملاً حتي قبل جائحة الكرونا التي مارس فيها جزء كبير من الكنديين أعمالهم من منازلهم . بعض المرات أتبادل معه الحديث ولاحظت أنه ينطق بعض الكلمات باللغة السواحلية فأثار فضولي وسألته عن أين تلقي المعرفة بهذه الكلمات . أتضح أنه عمل في كل شرق أفريقيا وحتي زار جنوب السودان . وعلي الحال طفح السؤال الثاني ما هي طبيعة العمل الذي تولاه في هذه البيئة النائية ؟
(جون) عمل في فيلق عسكري مع الجيش الفرنسي وحارب في صفوفه كمرتزق في عدة دول أوربية و أفريقية وعلي ما أعتقد نسبة لأعتلال صحته لم يتمكن من الذهاب لاوكراينا حيث ذهب زملاؤه برواتب يسيل لها اللعاب . وفي فصل الربيع والصيف حيث النوافذ مفتوحة أصبحنا نستنشق داخل المنزل من وقت لآخر رائحة لم تكن غريبة علي بحكم سكني الأمدرماني . الأسبوع المنصرم قابلة (جون) أمام جراج منزله وفي يده سيجارة (حمرا ) . وكما هو الحال في سوداننا ناولني لها لكي أشاركه الكيف . أندهشت وتابعة الأندهاشة بالرفض رغم أصراره ، وواصل هو في الحديث حيث ذكر أنه يتحصل عليها بناءً علي أرشادات طبية كعقار لحالته الصحية وهذا العقار (البنقو) يدخل ضمن تأمينه الصحي الذي تدفع تكاليفه وزارة الدفاع الكندية . واصل ( جون ) الحديث وقال أن كندا هي القطر الوحيد علي وجه المعمورة الذي سمح بأستعمال هذا العقار حيث أصبح يباع في المحلات التجارية علي عينك يا تاجر . حاولت أن أجادله في معرفتي المحدودة بالدول التي تسمح به فذكرت دولة هولندا . فاجأني بأن معلوماتي غير صحيحة أذ توجد في هولندا بعض التحفظات علي الأستعمال والشراء والأماكن المسموح بها وفي حالة عدم قناعتي بهذا الرد وجهني أن الجأ الي العم قوقول وكما عبر هو (قوقل إت).
قبل فترة تم لقاء أسري علي مائدة طعام بمنزلنا جمع أفراد الأسرة أضافة الي أصدقاء أبناءنا من الجنسين . وعادةً الكنديين لا يفضلون النقاش في السياسة علي المائدة حتي لا يفسدوا مذاق الطعام . هنالك محرمات لا يدور حولها النقاش : السياسة ، الدين ، وتربية الأطفال . أمام هذا التابو لا يجوز أدارة حوار حول المائدة قد يتسبب في خلاف يفقد الروابط الأجتماعية . هذا الوضع فرض علي أن أسترق السمع وأتابع بأهتمام ما يدور بينهم من أحاديث ، خاصة وأن الشباب لا يفضلون في هذا الجزء من العالم مخالطة كبار السن لاختلاف الأهتمامات . كان أول المواضيع التي طرقوها وأستحوذت علي نصيب أكبر من الوقت هو العقارات وقروضها البنكية وسعر الفائدة و البورصة والربح والربج المركب الذي لم أستوعبه الأ حينما وصلت الي كندا وصارت لي بطاقة بنكية وخلاف ذلك من الأمور المالية التي لا تدخل ضمن أهتماماتي . هذا الجيل الذي عاش وتربي في أحضان النظام الرأسمالي يفهم هذه المصطلاحات بأدق تفاصيلها ، الموضوع الثاني الذي تمت مناقشته هو نوع الأطعمة وأي منها يُفضل وبأي طريقة يتم تحضيرها وفي أي المطاعم يمكن تناول هذا الطبق أو ذاك . علي الرغم من أني أمدرماني الأ أن عدم معرفتي بأسماء هذه الأطعمة وحتي أطباق مطعم ماكدولنز التي يتحدثون ويتجادلون حولها ، الزمني الصمت كي لا أعطي أنطباعاً بجهلي وثانياً لكي لا ينطبق علي القول بالعامية بأني (بطينة) . المجاعة التي أجتاحت القطر من جراء الحرب اللعينة ففاقت مجاعة سنة سته والتي أفادت بأن بعض السودانيين وجدوهم أثناء هذه الحرب في عاصمة البلاد فارقوا الحياة وفي أفواههم أكياس من البلاستيك فرضت علي الكثيرين منا عدم تذوق طعم الطعام . علي الحال لعنت نفسي وتحسرت علي هؤلاء الشباب ذوي الأهتمامات التي ليس لها شبيه في مصطلاحاتي حتي عندما كنت في سنهم . الموضع الثالث الذي تداولوه ماهي الأماكن التي سيقضون بها أجازاتهم والي أي الأقطار ينون السفر . هذه هي محصلة جلستنا ولا حديث عن غزة أو حرب السودان . أزدادت قناعتي بالحكمة السودانية ( الجمرة بتحرق الواطيها )
حامد بشري
22 سبتمبر 2024

 

[email protected]  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

اتفاقية الشراكة الاقتصادية العُمانية - الهندية تعيد رسم ملامح الاقتصاد العماني

بالنظر إلى التطورات المتسارعة في المشهد الاقتصادي الإقليمي والدولي، تبدو اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بين سلطنة عُمان وجمهورية الهند خطوة تحمل طابعًا استراتيجيًا واسع التأثير، ليس فقط من حيث تعزيز التبادل التجاري، بل من حيث إعادة صياغة الدور الاقتصادي لسلطنة عمان على مدى السنوات المقبلة. فالمؤشرات الأولية القائمة اليوم تُظهر أن التعاون بين البلدين آخذ في النمو بوتيرة ثابتة، حيث بلغ حجم التجارة الثنائية خلال العام المالي 2024-2025 ما يقارب 10.61 مليار دولار، وهو رقم يعكس علاقة اقتصادية راسخة قابلة للتوسع بمجرد تفعيل الاتفاقية المرتقبة. ويأتي ذلك في وقت تتطلع فيه سلطنة عُمان إلى اقتصاد أكثر تنوعًا، وأكثر قدرة على المنافسة، وأكثر انفتاحًا على الأسواق الآسيوية والعالمية.

وإذا ما نظرنا إلى طبيعة العلاقة الاقتصادية بين البلدين، فإن الموقع الجغرافي الاستراتيجي لعُمان يمنحها نقطة قوة محورية. فالموانئ العُمانية مثل صلالة والدقم وصحار لا تُعد بوابات بحرية عادية، بل منصات إقليمية ذات قدرة عالية على خدمة التجارة الدولية وربط آسيا بأفريقيا والخليج وأوروبا. وفي حال اكتملت اتفاقية CEPA، فإن هذه الموانئ لن تكون مجرد نقاط عبور للسلع العُمانية أو الهندية، وإنما محاور لوجستية تجذب الاستثمارات الصناعية والخدمية، وتدعم حركة إعادة التصدير، وتُسهم في بناء منظومة اقتصادية تُضاعف القيمة المضافة داخل سلطنة عُمان. ومن شأن هذه المنظومة أن تُعيد تشكيل قطاعات واسعة تتعلق بالنقل والتخزين والخدمات اللوجستية والصناعات التحويلية، الأمر الذي ينعكس على توسيع فرص العمل وتحسين نوعية الأنشطة الاقتصادية.

ومع أن الاتفاقية تفتح آفاقًا واسعة أمام التجارة في الاتجاهين، إلا أن الجانب الأكثر أهمية لسلطنة عمان يكمن في تعزيز الصناعات المحلية. إذ تستهدف عُمان ضمن رؤيتها 2040 بناء اقتصاد متنوع قائم على الصناعة والتكنولوجيا والخدمات المتقدمة، وليس اقتصادًا يعتمد على سلعة واحدة. ومع الحصول على نفاذ تفضيلي إلى سوق تتجاوز قوامها 1.4 مليار نسمة، فإن مجالات مثل البتروكيماويات، الفولاذ، الألمنيوم، الأسمنت، الرخام، المنتجات الزراعية، والمنتجات التقليدية العُمانية يمكن أن تشهد توسعًا نوعيًا في صادراتها. هذه الأسواق الضخمة لا تستوعب المنتجات فحسب، بل تحفّز أيضًا الصناعات المحلية على رفع مستويات الجودة، وتحسين سلاسل الإنتاج، وزيادة الطاقة التشغيلية، وإيجاد مساحات أكبر للشركات الصغيرة والمتوسطة التي تطمح إلى التصدير.

ومن زاوية مستقبلية، يمكن اعتماد سيناريويهن لتقدير أثر الاتفاقية على حجم التجارة الثنائية: سيناريو متحفظ يفترض نموًا سنويًا بمتوسط 8%، وسيناريو تفاؤلي يفترض نمواً بمتوسط 12%، وذلك مقارنة بمعدل النمو الطبيعي للتجارة الذي يدور حول 3%. وبناء على هذه الحسابات، يمكن أن يرتفع حجم التجارة الثنائية من 10.6 مليار دولار اليوم إلى ما يقارب 15.6 مليار دولار خلال خمس سنوات في السيناريو المتحفظ، وإلى ما يتجاوز 18.7 مليار دولار في السيناريو المتفائل. ومع استمرار النمو لعشر سنوات، يمكن أن يصل الحجم التجاري بين البلدين إلى نحو 23 مليار دولار في السيناريو المتحفظ، فيما قد يصل إلى قرابة 33 مليار دولار في السيناريو التفاؤلي. وهذه القفزات المحتملة لا تأتي فقط من زيادة حجم المبادلات التقليدية، بل من توسع في الصناعات التحويلية، والاستثمار في خطوط إنتاج جديدة تستهدف السوقين معًا.

ومن شأن هذه التحولات أن تُعيد تشكيل الاقتصاد العُماني ليصبح أكثر مرونة في مواجهة التقلبات العالمية، وأكثر قدرة على النمو الذاتي من خلال الإنتاج المحلي والصناعات الوطنية. ومع ازدياد النشاط اللوجستي، وتوسع المناطق الحرة، وتجدد الاستثمارات الصناعية، سيكون لعُمان موقع جديد على خارطة التجارة العالمية، موقع يعكس قدرتها على استغلال مواردها الجغرافية والبشرية والاقتصادية لبناء اقتصاد متنوع ومستدام. وإذا ما وُظفت هذه الفرص بالشكل الصحيح - عبر التخطيط، وإدارة الموارد بكفاءة، وتطوير التشريعات، وتحفيز الكفاءات الوطنية - فإن السنوات العشر المقبلة قد تشهد تحولًا جذريًا في شكل الاقتصاد العُماني وحجمه.

بينما تتعمق سلطنة عُمان في توسيع شراكاتها الدولية، تمثّل اتفاقية التجارة الحرة مع الهند نقطة تحول قادرة على إطلاق موجة جديدة من النشاط الاقتصادي الذي يترابط فيه التصنيع بالتجارة، ويُكمل فيه الاستثمار اللوجستيات، ويتقاطع فيه النمو الصناعي مع توسع أسواق التصدير. فالعلاقة مع الهند ليست علاقة تجارية عابرة، بل علاقة راسخة تستند إلى تاريخ طويل من التبادل والتداخل الاقتصادي والثقافي، ما يجعل الاتفاقية القادمة امتدادًا طبيعيًا لمسار مشترك يتطور باستمرار. ويُتوقع أن تشكل الاتفاقية حافزًا لعدد من القطاعات التي كانت تتطلع إلى الوصول إلى أسواق أكبر، وفي مقدمتها القطاعات الصناعية التحويلية التي تعتمد على المواد الأولية المتوفرة في سلطنة عُمان، وتستهدف خلق قيمة مضافة قبل التصدير.

ويأتي ذلك في وقت تشهد فيه المنطقة تحولات جيو-اقتصادية عميقة تتجه فيها دول عديدة إلى تعزيز الاندماج الإقليمي والانفتاح على آسيا، ما يجعل توقيع الاتفاقية مع الهند خطوة تجسد فهمًا استراتيجيًا لموازين القوى الاقتصادية الجديدة. فالهند اليوم واحدة من أسرع الاقتصادات نموًا في العالم، وضمن أكبر خمس اقتصادات عالمية من حيث الناتج المحلي الإجمالي؛ وبالتالي، فإن تأسيس شراكة اقتصادية شاملة معها يضع عُمان ضمن شبكة اقتصادية صاعدة ستعيد تشكيل مسارات التجارة خلال العقود المقبلة. ومن خلال هذه الشبكة، يمكن لسلطنة عمان أن تعمّق دورها كمركز إقليمي للتجارة والخدمات الصناعية، وأن تستفيد من الطلب الهائل في الهند على المواد الخام والمنتجات الصناعية والسلع الاستهلاكية.

وإذا ما نظرنا إلى تأثير الاتفاقية على الشركات الصغيرة والمتوسطة في عُمان، سنجد أن CEPA قد تكون فرصة تاريخية لهذه الفئة من الشركات لتوسيع آفاق أعمالها. فالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة تشكل جزءًا أساسيًا من هيكل الاقتصاد الوطني، وتحتاج إلى بيئة تجارية تدعم منتجاتها وتمكنها من الوصول إلى أسواق جديدة. ومع تيسير الإجراءات الجمركية، وتخفيض الرسوم، وتسهيل النفاذ إلى الأسواق، يمكن لهذه الشركات أن تجد في السوق الهندية منفذًا واسعًا لتسويق منتجاتها، سواء في قطاعات الأغذية، أو المنسوجات، أو المنتجات العطرية، أو الصناعات التقليدية. وهذه النقلة يمكن أن تُسهم في خلق ثقافة تصدير أقوى، وترسيخ روح المبادرة، وتعزيز الابتكار داخل الشركات العمانية.

أما على مستوى الأمن الغذائي، فإن الهند ـ باعتبارها قوة زراعية ضخمة ـ يمكن أن تكون شريكًا استراتيجيًا لسلطنة عمان في تلبية الاحتياجات الغذائية المتزايدة. ومع تسهيل الاستيراد عبر CEPA، يمكن لعُمان أن تؤمن سلة غذائية متنوعة بأسعار تنافسية، ما يرفع من مستوى الاستقرار الغذائي ويعزز من قدرة السوق المحلي على مواجهة تقلبات الأسعار العالمية. وفي المقابل، يمكن للمنتجات العمانية الفريدة - مثل التمور واللبان ومنتجات الرخام - أن تجد طريقها إلى منافذ البيع الهندية بطريقة أكثر سلاسة، وهو ما يشكل مكسبًا اقتصاديًا وثقافيًا في آن واحد. ومع توسع المبادلات التجارية وتحسن كفاءة سلاسل الإمداد، ستصبح عُمان مركزًا لوجستيًا أكثر جاذبية للشركات العالمية التي تبحث عن نقطة ارتكاز بين آسيا وأفريقيا والخليج. ويمثل هذا التحول فرصة كبيرة للقطاع الخاص العماني الذي يمكنه استثمار هذا الموقع عبر إنشاء مراكز تخزين وتوزيع حديثة، وتطوير شبكات نقل، وإطلاق خدمات لوجستية متقدمة تدعم التجارة العابرة للقارات. وهذا التحسين في أداء الموانئ والمناطق الحرة سيؤدي إلى دوران اقتصادي أسرع داخل سلطنة عمان، ويُعزّز إيرادات الدولة من الأنشطة المرتبطة بالنقل والموانئ والجمارك والخدمات المساندة.

وفي ضوء هذه المعطيات المتداخلة، ومع ما تحمله المؤشرات الاقتصادية من دلالات واضحة على اقتراب مرحلة جديدة في العلاقات العمانية الهندية، تبدو سلطنة عمان أمام منعطف تاريخي يمكن أن يغيّر مسار اقتصادها خلال العقد المقبل. فكل الأرقام، وكل التوجهات، وكل السيناريوهات المستقبلية تشير إلى أن تفعيل اتفاقية CEPA لن يكون مجرد حدث اقتصادي عابر، بل نقطة انطلاق نحو دورة نمو أكثر نضجًا وجرأة وتنوعًا. ومن المتوقع، إذا ما سارت الأمور وفق الإيقاع الذي ترسمه اليوم المعطيات، أن تتضاعف التجارة الثنائية خلال سنوات قليلة، وأن تتجاوز حاجز 20 مليار دولار في منتصف العقد القادم، وربما تقترب من 30 مليار دولار خلال عشر سنوات، في حال استفادت سلطنة عمان إلى أقصى حد من مزايا التموضع الجغرافي والتكامل الصناعي مع الهند.

ولا تقف التوقعات عند حدود التجارة وحدها، بل تمتد إلى الصناعات التحويلية التي يُرجّح أن تشهد توسعًا ملحوظًا، خاصة تلك المعتمدة على المعادن والبتروكيماويات والمواد البنائية، إلى جانب فرص متنامية في الصناعات الخضراء والطاقة المتجددة والتكنولوجيا الصناعية. ومع بروز الموانئ العُمانية كمراكز توزيع إقليمية، يتوقع أن تتسارع حركة الاستثمار في المناطق الحرة والمناطق الاقتصادية الخاصة، بما يعيد تشكيل الخريطة اللوجستية في المنطقة، ويجعل من سلطنة عمان محطة رئيسية في سلاسل الإمداد بين آسيا والخليج وأفريقيا.

وعلى مستوى سوق العمل، تشير التقديرات المستقبلية إلى إمكانية خلق الوظائف النوعية التي يمكن أن تمنح الشباب العُماني فرصًا غير مسبوقة للاندماج في قطاعات صناعية وتقنية جديدة، وترفع من مستوى المهارات الوطنية، وتدعم مسار التوطين في القطاع الخاص. ومع اتساع رقعة التصنيع والتصدير، ستنشأ احتياجات موازية في قطاع الخدمات والتعليم والتقنية، ما ينتج دورة اقتصادية متكاملة ترفد بعضها بعضًا، وتُرسي قواعد نمو متواصل ومستقر.

أما على المدى الطويل، فإن تفعيل الاتفاقية قد يمهد لمرحلة يصبح فيها الاقتصاد العُماني أكثر قدرة على مواجهة التقلبات العالمية، وأكثر استعدادًا لاستيعاب التحولات التقنية والبيئية والاقتصادية. ومع استمرار التنويع، وتوسّع الصادرات، وتعاظم دور سلطنة عمان كمركز لوجستي محوري، يمكن لعُمان أن تنتقل من موقع المنافس الإقليمي إلى موقع اللاعب الفاعل في التجارة الدولية. وقد نشهد خلال عشر سنوات اقتصادصا عمانيًا متجددًا، واسع القاعدة الإنتاجية، متصلًا بشبكات التجارة العالمية، ومتقدمًا بخطى ثابتة نحو تحقيق رؤية عُمان 2040 بوصفها رؤية طموحة لاقتصاد مرن، مبتكر، ومستدام.

من الناحية النوعية، يشير هذا النمو إلى زيادة الصادرات غير النفطية، حيث من المتوقع أن تستفيد قطاعات مثل البتروكيماويات، الفولاذ، الألومنيوم، الأسمنت، الرخام، اللبان، والتمور من تحسن سلاسل التوريد وفتح الأسواق الهندية. النمو في هذه القطاعات، الذي بدأ يظهر بالفعل في بيانات 2025، يعكس قدرة الاقتصاد العُماني على تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط. عمليا، إذا ارتفعت الصادرات غير النفطية بمعدل يتراوح بين 6% و12% سنويا نتيجة النفاذ إلى السوق الهندي وتحسين اللوجستيات، فإن هذا سيترجم إلى زيادة ملموسة في حصيلة التبادل التجاري الكلي.

تحقيق السيناريو التفاؤلي يتطلب مجموعة من العوامل التمكينية، أبرزها تسريع عمليات التصديق والتوقيع والتنفيذ للاتفاقية مع وضع آلية متابعة مشتركة لضمان تطبيق بنود التفضيل الجمركي وإزالة العوائق الإجرائية. كما يشمل تطوير البنية التحتية اللوجستية للموانئ والمناطق الحرة ومرافق التخزين والتبريد وطرق الربط الداخلي لالتقاط الطلب المتزايد.

كذلك، تعد الحوافز الاستثمارية للقطاعات ذات القيمة المضافة وبرامج التدريب الفنيّة من العناصر الأساسية لضمان استدامة النمو الصناعي. إضافة إلى ذلك، فإن إقامة تحالفات تجارية وشراكات تسويقية مع موزعين هنود يسهم في تسهيل النفاذ إلى الأسواق الهندية على مستوى المدن والمناطق، بينما تتيح حزم الدعم للصادرات الصغيرة والمتوسطة وصول المنتجات العُمانية إلى رفوف السوق الهندي بفعالية وجودة تنافسية.

بشكل عام، تشير هذه التقديرات إلى أن تفعيل CEPA يشكل فرصة استراتيجية لعُمان لتعزيز التجارة الثنائية، تنويع الاقتصاد، جذب الاستثمارات، وخلق فرص عمل واسعة، ما يسهم في تعزيز النمو الاقتصادي المستدام وتقليل الاعتماد على النفط، مع تعزيز قدرة سلطنة عمان على تأدية دور متنامٍ في التجارة الإقليمية والدولية.

مقالات مشابهة

  • مايكروسوفت تعلن استثمار 5.4 مليار دولار في كندا لتعزيز بنية الذكاء الاصطناعي
  • الجسم الغامض 3I/ATLAS ينشر لبنات الحياة أثناء رحلته عبر النظام الشمسي
  • أشبه بلوحة.. الضباب يرسم ملامح سكان الريف في بابل (صور)
  • عندما يفارق راكب الحياة أثناء الرحلة الجوية.. هكذا تتصرف الطواقم
  • بالفيديو.. ياسر مدخلي لـ"ياهلا بالعرفج": مسرح الخشبة هو الحياة الموازية التي نتمناها ونبحث عنها ونصلح فيها ما نعجز عن إصلاحه في الحياة!
  • ملتقى السيرة النبوية بالجامع الأزهر يكشف ملامح شخصية عمر بن الخطاب قبل إسلامه
  • اتفاقية الشراكة الاقتصادية العُمانية - الهندية تعيد رسم ملامح الاقتصاد العماني
  • استقالة سفيرة كندا لدى الولايات المتحدة.. فما الأسباب؟
  • كندا تطلق خطة بمليار دولار لاستقطاب كبار الباحثين
  • كندا تستعين بشركات الفضاء الرائدة لديها لإنتاج أقمار صناعية عسكرية في القطب الشمالي