لجريدة عمان:
2025-05-22@19:18:53 GMT

أبو حيان التوحيدي رفيقي وصديقي!

تاريخ النشر: 28th, September 2024 GMT

أبو حيان التوحيدي رفيقي وصديقي!

(1)

ما يقرب من ربع القرن وأنا أحظى بصداقته ورفقة كلامه وآنس بكتبه ومؤلفاته! نعم أحببت أعاظم كتاب النثر العربي وقرأت كتبهم ومؤلفاتهم وتتبعتهم من عبد الله بن المقفع وعبد الحميد الكاتب وحتى ابن خلدون في القرن الثامن الهجري، ومن بعده كتاب التاريخ والحوليات والسير والتراجم وصولا إلى الجبرتي!

لكن يظل أبو حيان التوحيدي عندي هو بحق "فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاء وفطنة، وفصاحة ولكنة، كثير التحصيل للعلوم في كل فن حفظه، واسع الدراية والرواية، فهو شيخ في الصوفية وفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، ومحقق الكلام ومتكلم المحققين وإمام البلغاء" كما وصفه ببراعة واقتدار وحنكة ياقوت الحموي في «معجم البلدان».

ولأنني أعاود هذه الأيام قراءة بعض من مؤلفاته وكتبه التي لا نظير لها في التراث العربي، وأتوقف عند بعضها وقفاتٍ طوالا متأنيا ومتأملا ومجتليا العديد من "الدلالات" و"التأويلات" فيما يخص هذا المثقف المهمش المغترب، ويراه آخرون أنه كان المثقف "المحاصر المأزوم" بنكهة وجودية، فقد جادت علي الذاكرة بفيضها وأعادتني إلى اللحظات التي انعقدت فيها أواصر المحبة والصداقة بيني وبين "التوحيدي" في تسعينيات القرن الماضي.. مدين أنا لجمال الغيطاني حقيقة، ومدين أنا كذلك لأستاذي الراحل الجليل جابر عصفور، عليه رحمة الله.

(2)

في عام 1995 أقام المجلس الأعلى للثقافة في مصر احتفالية ضخمة بمناسبة مرور ألف عام على وفاة الكاتب الأديب والمتصوف المتفلسف والحائر المغترب أبو حيان التوحيدي (ت 414هـ)؛ صاحب المصنفات والكتب الشاهدة بقدر علمه ووافر اطلاعه وغزير ثقافته وتشعب معارفه، وصاحب الأسلوب الذي يكاد يكون ذروة ما وصل إليه النثر العربي الفني في القرن الرابع الهجري.

قبل هذا الاحتفال الثقافي الكبير، لم أكن أعرف عن أبي حيان التوحيدي سوى أنه مؤلف كتاب «الإمتاع والمؤانسة» أحد أشهر كتب التراث العربي؛ في الأدب واللغة والفلسفة والمنطق والتاريخ، وبالجملة فيما كان رائجًا من علوم عصره "النقلية"، و"العقلية" التي كانت سائدة آنذاك في القرن الرابع الهجري.

أذكر جيدًا أن اهتمامًا غير مسبوق بالتوحيدي خلال هذه السنة (1995)، والسنوات التالية أثمر عن نشاط واسع في الكتابة عنه، وإعادة نشر أعماله، وإصدار طبعات جديدة ومتعددة منها؛ وأصبحتُ إزاء مشهد غاية في التنوع حول "التوحيدي"؛ فمن كتب عنه من جهة نثره وبيانه، ومن كتب عنه من جهة حيرته واغترابه، وألمه ومراره، وبؤسه وشقائه، ومن كتب عن تصوفه ومواجده و"إشاراته"، ومن تصدى لإثبات زندقته وإلحاده!

وهناك من كتب عنه باعتباره نموذجًا مثاليًّا لحالة المثقف العربي "المتمرد" في القرن الرابع الهجري...

وهناك من استوقفه حاله وسيرته وتتبع مسار حياته ووفاته.. ووثق أعماله ورسائله ومخطوطاته.. إلخ.

ولعل هذا النشاط المحمود كله، كان سببًا رئيسيا في الإقبال على قراءة أعمال التوحيدي، وقراءة الكثير والكثير مما كتب عنه؛ باعتباره حلقة محورية من حلقات اتصال تراثنا الفكري والثقافي في القرون الخمسة الأولى من الهجرة.

(3)

وكان من أجلّ ثمار هذا النشاط المحموم المحمود؛ كتاب عظيم رائع اسمه «خلاصة التوحيدي»، عبارة عن مختارات من نثر التوحيدي (سأعرض نماذج منها سريعًا)، جمعها بذائقته الممتازة الرفيعة واختياراته البديعة المثقف الراحل الكبير جمال الغيطاني (وكان من كبار قراء التراث والمطلعين على دقائقه وكنوزه والعارفين بحدوده وتفاصيله). اسمع بقلبك واقرأ بعينيك هذه السطور:

- "يا هذا: الحديث ذو شجون، والقلب طافح بسوء الظنون". (الإشارات الإلهية)

- "فإلى متى نعبد الصنم بعد الصنم، كأننا حُمُر أو نَعَم؟ إلى متى نستظل بشجرة تقلص عنا ظلها؟ إلى متى نبتلع السموم ونحن نظن الشفاء فيها؟.." (الإشارات الإلهية)

"فإني أجد الإنسانَ ونفسَه كجارين متلاصقين، يتلاقيان فيتحدثان، ويجتمعان فيتحاضران".. (المقابسات)

- "والله يا رفيقي وشريك زادي، لقد صحبت الليالي ستين عامًا مُذْ عقلت، فما غدرني إلا من استوفيتُه، ولا كدّر عليَّ إلا من استصفيتُه، ولا أمرَّ لي إلا من استحليتُه، ولا أهمل أمري إلا من استرعيتُه، ولا قذِيَتْ عيني إلا بمن جعلتُه ناظرها، ولا انحنى ظهري إلا بمن نصبتُه عمادَه، ولا نجمتْ لي نجاةٌ إلا من حيث لم أحتسب، ولا سبقتْ إليَّ مسرّةٌ إلا ممن لم أكتسب".. (الإشارات الإلهية)

- ويقول أبو حيان التوحيدي:

«وحين يبلغ العجز آخره، ويستغرق اليأس ظاهره وباطنه.. أي رأي لمكذوب؟ أم أي عيش لمكروب، أم أي قرار لمرعوب؟.. إرادة مشوبة.. وعلامات متهمة، وطمأنينة قلقة».. (الإشارات الإلهية)

- وفي رواية عن أبي حيان التوحيدي، في كتابه «الصداقة والصديق»، أنه لا يكون الصديق صديقا إلا إذا وصلت به حال صداقته لأن يقول له "يا أنا".. (الصداقة والصديق)

وكانت النماذج التي قرأتها في هذه "الخلاصة" كافية تمامًا كي أقبل على قراءة نصوص التوحيدي الزاخرة بشغف وفضول كبيرين.. وبدأت هذه الرحلة بالخلاصة ولما تنته حتى وقتنا هذا!

(4)

لماذا أحببتُ التوحيدي؟ ولماذا رافقت نصوصه وصادقته على بعد العهد وتجاوز العقود وتباعد القرون؟

أولًا: أنت بإزاء شخصية شديدة التركيب والتعقيد على المستوى النفسي؛ جسدت تناقضات عصرها وتشابكاته والتباساته بامتياز؛ يقولون عن أبي حيان التوحيدي إنه نموذج للمثقف "الإشكالي" في القرن الرابع الهجري؛ بمعنى إدراكه العميق لكل التفاوتات الطبقية "في الوعي، وفي المعرفة بين شرائح الطبقات المثقفة الثرية في مجتمع المدينة الإسلامية الناهضة (بغداد) ومن هم في دائرة السلطة والجاه والنفوذ وبين الطبقات الدنيا والفقيرة بل المسحوقة؛ فيما اشتهر بمصطلح "المهمشين".

ثانيا: كان نثر أبي حيان التوحيدي بما وصل إليه من ذروة لم يسبقه إليها (ربما سوى الجاحظ) ولم يلحقه في الفضل بعده أحد، مجسدا لما بلغته اللغة العربية في زمنه من تطور مذهل استوعب كل مستجدات العصر "الذهبي" من انفتاح على العلوم العقلية والتجريدات الذهنية والترجمات وعلوم المنطق والفلسفة والجدل العقلي؛ وصار السؤال شعار العصر؛

وكان "التوحيدي" أحد أكبر طارحي وصائغي الأسئلة الوجودية والمعرفية في عصره، وكانت كتابته في زمنه كتابة تمرد وجنوح وخروج عن مألوف الكلام ومكرور القول؛ إنها كتابة تتأمل ذاتها بقدر ما تتأمل غيرها، وتطرح السؤال تلو السؤال، مثيرة من عواصف الشك وزوابع المسائلة بما يزعزع أركان اليقين المعرفي والوجودي معا؛ كتابة يصفها جابر عصفور بقدرٍ كبير من التطابق مع ما وصفها به صاحبها ذاته "التوحيدي"؛ بحروفه وألفاظه، وتعبيراته وتراكيبه:

"كان هذا النوع من الكتابة ينطوي على وعيه الذاتي، حيث الكلام يصف الكلام، واللغة تضع نفسها موضع المساءلة، والكتابة نفسها لا تكفّ عن تغيرها الذي هو نقض لكل عناصر الثبات. إنها الكتابة التي تأخذ من التصريح ما يكون بيانًا في التعريض، وتحصل من التعريض ما يكون زيادة في التصريح، وتستيقن أنه لا حرف ولا كلمة، ولا سمة أو علامة، ولا اسم أو رسم، إلا وفي مضمونه آية تدل على سرٍّ مطوي وعلانية منشورة. كتابة تعلو على ما جرَت به العادة، وتعرف أسرار الإيماء الذي يلطف عن الوهم، ويستغيث من الشكل والضد، ما يمتلئ به القارئ نورًا، ويتقد بحره نارًا، ويتعلم كيف تفارق المدركات سماتها القائـمة عليها، وتعاند صفاتها الثابتة بها، وتلج الكتابة الطرق الوعرة، معتسفة مضايقها، لتخرج من ظلمة التصديق إلى النور الذي يضيء بالسؤال، والسؤال الذي لا يسقط، قط، دون الغرض المعتمد.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: کتب عنه کتب عن من کتب إلا من

إقرأ أيضاً:

الشي الوحيد الذي أصاب ترامب فيه

بالنظر إلى حساسية الموضوع، أجد من المناسب أن أستهلّ هذا المقال بتوضيح تمهيدي.

يعلم القرّاء المتابعون أنني كثيرًا ما عبّرت- من قبل- عن تحفظاتي العميقة تجاه توجهات الرئيس دونالد ترامب، لا سيما فيما يتعلق بنمطه في ممارسة السلطة، والذي يتسم في كثير من الأحيان بالنزعة الانتقامية. ومن هذا المنطلق، أود التأكيد أن مضمون هذا المقال لا ينبغي أن يُفسّر بأي حال من الأحوال على أنه تعبير عن تأييد أو إشادة شخصية.

ومع ذلك، ثمة جانب في نهج ترامب الحاد والعشوائي في تقليص الإنفاق الحكومي أراه، وربما على نحو مفاجئ، منطقيًا إلى حد ما. وهو جانب يستحق أن يؤخذ بعين الاعتبار من قبل قادة الدول ورؤساء الحكومات الآخرين، حتى وإن جاء ذلك متأخرًا.

على امتداد مسيرتي كصحفي استقصائي، وجّهت تركيزي النقدي نحو السلطات التي تتمتع بصلاحيات غير خاضعة للمساءلة وموارد غير محدودة، والمتمثلة فيما يُعرف بـ"أجهزة الاستخبارات"؛ تلك التي نادرًا ما تواجه عواقب ملموسة على أخطائها الجسيمة، أو تجاوزاتها الصارخة الخارجة عن إطار القانون.

وغالبًا ما تخلّف تلك الأخطاء والتجاوزات عواقب إستراتيجية وإنسانية عميقة وطويلة الأمد، ومع ذلك، فإن الجواسيس والمؤسسات الغارقة في السرية التي يعملون ضمنها نادرًا ما تُواجه بالقيود أو المساءلة؛ بل على العكس، كثيرًا ما يُكافَؤُون بتخصيص مزيد من الموارد، بدلًا من محاسبتهم أو كبح جماحهم.

إعلان

وعوضًا عن كبح جماح هذه الأجهزة، واصل رؤساء من الحزبين الجمهوري والديمقراطي تغذية آلة الأمن القومي بلا تردد أو توقف.

فلزمن طويل، تصرفت أجهزة الاستخبارات كما لو كانت دولة داخل الدولة، محصّنة من المساءلة بذريعة الحفاظ على الأمن القومي، ومدعومة بتواطؤ إعلامي مستتر. تمارس الكذب دون خشية، وتسرب المعلومات بشكل انتقائي للصحفيين المقرّبين منها حين يخدم ذلك مصالحها، وتدمّر حياة الأفراد تحت ستار "سري للغاية".

أما الرقابة، فلطالما كانت مجرّد نكتة. والمساءلة باتت من نصيب كاشفي الفساد وحدهم، الذين يُلاحَقون ويُزجّ بهم في السجون أو يُنفون، بدلًا من أن يُكافَؤُوا على شجاعتهم.

بطريقته المرتبكة والمتقلبة، يفعل ترامب ما لم يتمكّن أو لم يرغب باراك أوباما وجو بايدن في فعله: إنه يشدّ فرامل الطوارئ لإيقاف قطار منفلت.

ورغم محدودية تمرّده، فإنه يستحق الالتفات إليه، ليس لأنه يمثل مشروع إصلاحٍ مبدئيٍّ، فهو بعيد عن ذلك، بل لأنه، بدافع غريزي أو انتقامي، يضع هيبة مؤسسات طالما كانت بمنأى عن المساءلة أمام اختبار تأخر كثيرًا.

في هذا السياق، وجدتُ في قرار البيت الأبيض الشروعَ في تقليص حجم جهاز الأمن القومي الأميركي المتضخم، خطوةً جديرة بالترحيب، وبداية تحمل في طياتها بوادر واعدة.

ففي أوائل شهر مايو/ أيار، أُعلن عن قرارَين، أرى أنهما أثارا قلقًا ملحوظًا داخل إدارة مكافحة المخدِرات (DEA)، ومكتب التحقيقات الفدرالي (FBI)، ووكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، كما استدعى الإعلان ردود فعل هستيرية متوقعة من حلفائهم المقرّبين في وسائل الإعلام، الذين سارعوا إلى التنديد بهذه "التخفيضات" باعتبارها تهديدًا خطيرًا لأمن الولايات المتحدة، وتشجيعًا محتملًا لأعدائها.

تفيد التقارير بأن فريق ترامب يعتزم التقدّم بطلب إلى الكونغرس لتقليص ميزانيات إدارة مكافحة المخدرات (DEA)، ومكتب التحقيقات الفدرالي (FBI)، ومكاتب إنفاذ القانون التابعة لوزارة العدل، بمقدار 585 مليون دولار في عام 2026.

إعلان

أما التحذيرات التي صدرت- وكأنها نذر لنهاية العالم- فهي لا تقل عبثية عن الدمى المتحركة التي أطلقتها، خاصة أن هذه الوكالات ستظل تحتفظ بنصيب وافر من مليارات الدولارات المخصصة لها لمواصلة "مكافحة" الجريمة والإرهاب، سواء على الصعيد المحلي أو الدولي.

ورغم محدودية هذا التقليص، فإنه يُعد إشارة إيجابية على أنّ وتيرة الزيادات السنوية الروتينية في الميزانيات قد تكون وصلت أخيرًا إلى منعطفٍ حاسمٍ.

ينبغي لرجال ونساء مكتب التحقيقات الفدرالي أن يشعروا بالامتنان؛ لأن هذه التخفيضات لم تكن أوسع نطاقًا وأشد عمقًا، خاصة في ضوء قناعة ترامب بأن المكتب كان سببًا رئيسيًا في العديد من الأزمات القانونية الكبيرة التي واجهها، قبل أن تقرر المحكمة العليا المنقسمة منحه حصانة شبه كاملة من الملاحقة القضائية.

ورغم أن دوافع هذا التقليص قد تكون ضيقة الأفق ومحدودة النطاق، فإن خفض ميزانية المكتب، التي طالما اتسمت بالتضخم، يمثل خطوة أولى ضرورية طال انتظارها على طريق كبح البيروقراطية الأمنية المتفشية في الولايات المتحدة.

وفي هذا المسار الذي يُنذر بتحول واعد، يعتزم ترامب وفريقه تقليص آلاف الوظائف ضمن ما يُعرف بـ"مجتمع الاستخبارات" الأميركي المتوسع، بما في ذلك إلغاء نحو 1200 وظيفة في وكالة الاستخبارات المركزية خلال السنوات المقبلة.

وكما كان متوقعًا، قُوبلت هذه الأنباء بعاصفة من العويل الهستيري، خصوصًا من قِبل الديمقراطيين وبعض أعضاء "مجتمع الاستخبارات" السابقين، الذين تملأ وجوههم الشاشات الأميركية بوصفهم "خبراء" أو "مستشارين" في الأمن القومي، ويحظون غالبًا بمعاملة مفرطة في الاحترام من قبل مقدمي البرامج في شبكتي CNN وMSNBC.

المفارقة اللافتة أن الديمقراطيين في الكونغرس كانوا، في وقت مضى، يتولّون رئاسة جلسات استماع كشفت بوضوح عن ازدراء "مجتمع الاستخبارات" الصارخ للدستور الأميركي وللحقوق التي يُفترض أنها مصونة ومقدسة.

إعلان

أما تلك الحقبة من المسؤولية والمساءلة، فقد أصبحت جزءًا من الماضي، ولن تعود على ما يبدو.

الديمقراطيون المتحفظون، إلى جانب الصحفيين الذين يُعرفون بانتمائهم إلى التيار "التقدمي" ويملؤون شبكات الأخبار وصفحات الرأي في نيويورك تايمز وواشنطن بوست، باتوا اليوم يدافعون عن أجهزة الاستخبارات ومهامها "الأساسية"، في مواجهة رئيس يتبنى مقاربة غير تقليدية تهدف إلى فرض قيود طال انتظارها على وكالة الاستخبارات المركزية.

يا لها من مفارقة تُجسد كيف تغيرت الأزمنة وتبدّلت المواقف!

من اللافت أن بعض النخب الليبرالية، التي باتت تتجاهل إرثًا طويلًا من الانتهاكات، ربما تحتاج إلى تذكير بأن وكالة الاستخبارات الأميركية دأبت على تضليل السياسيين والصحفيين ضمن ما يشبه نهجًا مؤسسيًا معتادًا. لقد قوضت ديمقراطيات في الخارج، ولا تزال مؤامراتها السرية، الملطخة بالدماء، حاضرة في الذاكرة الجماعية، من سانتياغو إلى غواتيمالا سيتي وما بعدها.

ومن المؤسف أن نشهد بعض الشخصيات الديمقراطية المخضرمة- ممن أمضوا سنوات إدارة بوش وهم ينددون بالتنصت غير المشروع ومواقع الاحتجاز السرية- وقد باتوا اليوم يتعاملون بردود فعل مبالغ فيها لمجرد طرح فكرة مفادها أن وكالة الاستخبارات وأجهزتها الشريكة قد تجاوزت حدود القوة المعقولة، وأصبحت تتصرف بغطرسة وخطورة تستدعي التوقف والتقييم.

أما مكتب التحقيقات الفدرالي- ذاك الذي لا يزال يُعامل كمؤسسة شبه مقدسة تحمل إرث إدغار هوفر- فيا للعجب!

فهؤلاء العملاء المحترمون ذوو الياقات المشدودة هم أنفسهم من سعوا إلى تقويض سمعة مارتن لوثر كينغ الابن، وتسللوا إلى حركات السلام، وأطلقوا حملات مراقبة جماعية بحق المسلمين بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول.

أما الأصوات الإعلامية التي تدافع عنه بإصرار، فيبدو أنها تغض الطرف عن حقيقة جلية: أن المكانة التي يتمتع بها المكتب اليوم لم تترسخ إلا عندما بات تصويره كخط دفاع في مواجهة الترامبية يخدم مصالح سياسية بعينها.

إعلان

هذا هو التناقض الجوهري في سلوك المؤسسة الليبرالية: فهي تُظهر تفضيلًا واضحًا للنظام على حساب العدالة، وللسلطة على حساب الحقيقة. طالما أن "الأشخاص المناسبين" هم من يملكون أدوات القمع والمراقبة، فإنها لا تتردد في الهتاف دعمًا لهم.

أما في أوتاوا ولندن وكانبيرا، فغالبًا ما نجد أن السياسيين القادمين تحت شعارات الشفافية والإصلاح، سرعان ما ينصاعون لمنطق السلطة بمجرد دخولهم دهاليز الحكم. يبدؤون بترديد الإيجازات الأمنية، وتكرار المصطلحات التقنية، وتبرير أساليب المراقبة، وكأنهم ابتلعوا اللغة والمنهج. فالمنظومة أكبر من أن تُواجه، غامضة إلى حد الإرباك، ومتجذّرة بعمق يصعب اقتلاعه.

ورغم عيوبه الصارخة ومظاهر سلوكه المثيرة للجدل، فإن ترامب في هذه الحالة تحديدًا كسر أحد التابوهات الراسخة في النظام السياسي.

إن كبح جماح الأجهزة الأمنية وأدوات المراقبة ليس أمرًا مستحيلًا، لكنه يتطلب إرادة حقيقية، وحسمًا في الموقف، وإدراكًا بأن سلطتها تستند إلى مجموعة من الأساطير: أسطورة الضرورة، وأسطورة الاستمرارية، وخرافة أن تلك السلطة أمر طبيعي أو حتمي.

هذه الأساطير قابلة للتفكيك، ويجب تحديها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • متحف الأمن العام في العقبة يستقبل الزوار طيلة أيام الأسبوع احتفاءً بالاستقلال
  • السيد القائد الحوثي: مقتل إسرائيليين في السفارة الإسرائيلية في واشنطن حدث تسعى أمريكا لتجعل منه قضية القرن الـ21
  • الشي الوحيد الذي أصاب ترامب فيه
  • مؤتمر في صحار يناقش توظيف الذكاء الاصطناعي في التعليم العالي
  • باحث أمريكي: عهد ترامب سيكون لحظة مفصلية في صعود القرن الصيني
  • سياسات منطقة الخليج ووعي أجياله
  • صدى البلد يستعرض أهم المعلومات عن منطقة أبو مينا الأثرية بعد زيارة وزير السياحة والبابا تواضروس
  • بأكثر من ٣٠٠٠ طالب وطالبة.. جمعية القرآن بوادي حضرموت تدشن المراكز والدورات الصيفية
  • الجيش الصومالي يقتل 70 عنصراً من حركة «الشباب»
  • وصفتها بـ سرقة القرن.. نهاد أبو القمصان تطرح تساؤلات بشأن بلاغ نوال الدجوي