من صُدف الأقدار أن شاعر ملحمة أكتوبر الأديب والقانوني والدبلوماسي – محمد المكي إبراهيم، أن جاء يوم رحيله في الثلاثين من شهر سبتمبر الماضي، قبل مقدم أكتوبر "الأسود" بيوم، فلم ترض روحه الشاعرة أن تغادر جسده المثقل بهموم الوطن الجريح، في شهر (أكتوبر) الذي أرّخ لأنبل وأعظم ملحمة شعرية ثورية وطنية سودانية في العصر الحديث – أكتوبر الأخضر، لقد رحل مالك أفخم القصائد حظاً، وأصدقها ترجمة لما جاش بالوجدان الثوري الجمعي للسودانيين العاشقين لأمجاد أكتوبر، عروس ثورات القرن العشرين، لقد عافت روح محمد المكي الرحيل في الشهر العشيق، الصابغ لجدران أوردة وشرايين الناس بألوان العشق السرمدي الخرافي المخيف لأهزوجة شهر عشرة، وكأنما علمت هذه الروح الشفيفة والثائرة أن من واجبها أن لا تفجع المنصتين للصوت الشجي لهرم الأغنية السودانية محمد عثمان وردي، وهو يشدو: كان أكتوبر في امتنا منذ الأزل، فاختارت الفراق قبل حلول أكتوبر، وفاءً للشعب الذي أودعت في صميم سويداء قلبه النابض وعقله الراجح، صهيل الحصان الثائر واشرئباب الفرس الجامح للعملاقين – وردي – ود المكي، وعلى الرغم من هول الدموع الجارفة للمتيمين بأكتوبر، من شعراء وموسيقيين وأدباء ومغنين جهابذة لا يشق لهم غبار، إلّا أن ابن المكي قد بزّهم جميعاً في ماراثون المفردة الشعرية الثائرة، ذلك أنه رسّخ في أعماق النفس السودانية وسم ووشم ورسم أكتوبر، فكلما ذكرت هذه الثورة الشامخة، كلما أطل شاعر الملحمة ملوحاً، ومذكّراً بأبطال القضية الوطنية في كل أزمنتها – عبد الفضيل وعبد اللطيف والمهدي وأسياف العشر، في تراجيديا معبّرة عن واقع الشعب الكريم الأبي، إنّها الثورة الخضراء التي اسودت صفحات عامها الستين، فاكتست وتوشحت بثوب الحداد الحزين لرحيل ملهمها العالم والعلّامة، والعلامة الفارقة في تاريخ الملاحم الثورية.
الثورات توفي لبعضها، فديسمبر أوفت لأبريل، وأبريل كانت الأكثر ولاءً لأكتوبر، فلا يجب أن يظن الظان بأن ثورات التحرر من ربقة الاستعمارين الداخلي والخارجي، ستأتي بنسخ مكررة ومشوّهة، فسباق العبور والانتصار لا يصده صاد الانقلابات العسكرية، ولا كيد المؤامرات النخبوية، وقنديل الحرية لن ينطفئ لمجرد إثارة فوضى الزوابع الرعدية، والأعاصير الهوجاء التي يطلق لجامها المخربون، الذين درجوا على وأد أجنة أكتوبر وابريل وديسمبر وأبريل الثانية في مهدها، وصمود الجيل الحاضر (الراكب رأس) في وجوه مخططي ومدبري ومشعلي حرب السودان، سوف يأتي بما لم يأت به العسكريون، ولا المدنيون المدجنون اللاعقين لأحذية الدكتاتوريين على مر السنين، فالثورة الظافرة الأخيرة والمنطلقة منذ خمسة أعوام، لا محال راسية سفينتها على بر الاستقلال الكامل للوطن المخطوف بسواعد بنيه العملاء والخونة، وليس ذلك على الله بعزيز، فالتجربة الإنسانية في الماضي والحاضر ألهمتنا القبضة القوية، والإمساك المحكم بزناد "الطبنجة" المحطوطة على خط التماس، الفاصل بين القائمين على وأد الانتفاضات والثورات الشعبية التلقائية وأولئك الساهرين على سد الثغور وإغلاق المنافذ والأبواب، التي تأتي منها الرياح الفاسدة، الملوثة لأجواء الحرية والانعتاق، والمشجعة على نمو طفيليات الهوس الفكري، القاتل لبذور السلام والتسامح والسمو بالإنسانية لرحاب التقدم والازدهار، فعاصفة أكتوبر بمثابة الأم الرؤوم الراعية لما تأخر من هبّات أخريات قادها جيل البطولات، الذي وصفه محمد المكي إبراهيم خير وصف، بالجيل المستجيش ضراوة ومصادمة، المستميت على المبادئ مؤمنا، المشرئب الى السماء لينتقي صدر السماء لشعبنا، الذي هزم المحالات العتيقة وانتضى سيف الوثوق مطاعنا، ومشى لباحات الخلود عيونه مفتوحة، وصدوره مفتوحة بجراحها متزينة.
جاء أكتوبر الأسود مشحوناً بأشجان الفقد ومرارة الحزن هذا العام، باكياً رفقة العمر التي امتدت لستة عقود، في رثاء حميم لصديق سار فوق الرصاص منافحا، ولقلم جريء تخيّر وعر الدروب وأبدع الدنيا الجديدة وفق ما هوى، فحمل عبء بنيان الحياة القادمة وموهبة الابتكار. السائح في كلمات قصيدتي "أكتوبر الأخضر" و"جيلي أنا" يعي فداحة فقد الروح المبدعة، المصوّرة للواعج النفس السودانية الثائرة على الدوام، الشجاعة والعاشقة لخوض غمار وغبار المعارك الوطنية الكبرى، وقد منح الموسيقار محمد وردي هاتين القصيدتين عصارة جهده الفني المعلوم، فانداحت على مسامع الناس لحناً سرمدياً عتيقا رغماً عن أنف تقادم السنين، فقصيدة "جيلي أنا" لم تعد حكراً على جيل شاعرنا الثوري الأكتوبري السامق، وإنّما خرجت من تلك الأزمنة الجميلة، لتلج عقول وقلوب "الجيل الراكب راس"، الذي شكل تواصلاً مرصوداً ومجايلة متصلة بالآباء والأجداد، فهي قصيدة شاحذة للهمم وممهدة لاجتياح مساحات وجدانية شاسعة واسعة، لأجيال وأجيال عبر الأزمان، وفي معاني أحرف صاحب ملهمة أكتوبر، ترى التحدي الأنيق والصمود الجميل المتسربل بالجوخ الملوكي الباذخ، الذي أدهش وأبهر وأخاف وأراح وأفرح، إنّ أشعار الأديب الأريب محمد المكي إبراهيم برغم قلتها، إلّا أنها طوّعت موسيقى العملاق وردي لتستجيب لزخمها وجرسها الرنان وإيقاعها الفريد. دعونا نستبشر أكتوبر الأبيض القادم وهو يحمل رايات السلام، وليكن رحيل الأيقونة كرامة لتصعد أمتنا سلم المجد المأمول، فلترقد الروح في سلام بعد عناء طول السفر، وليكن غيابها قرباناً لبناء الحياة القادمة.
إسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: محمد المکی
إقرأ أيضاً:
برلمانية: الاعتماد على مواردنا الدولارية يعيد الروح للصناعة
اكدت النائبة إيفلين متى، عضو لجنة الصناعة بمجلس النواب، أن حديث رئيس الوزراء بشأن توافر العملة الصعبة من مصادر محلية هو إعلان حقيقي عن بدء مرحلة الإنتاج الوطني المعتمد على الذات، وليس مجرد خطاب اقتصادي.
وقالت متى في تصريح خاص لـ"صدى البلد"، أن الصناعة الوطنية كانت تدفع الثمن الأكبر في فترات شح الدولار، من خلال تعطّل سلاسل التوريد وتأخر الإفراجات الجمركية، لكن نجاح الدولة في تأمين احتياجاتها الدولارية داخليًا يعني أن المصانع ستبدأ في العمل بكفاءة أعلى، دون توقف أو تأخير.
وأضافت: "حين تتمكن الدولة من تمويل وارداتها الإنتاجية دون أموال ساخنة، فهذا يعكس قوة البنية الاقتصادية، ويخلق بيئة صناعية مستقرة، تُشجع على التوسع وزيادة الصادرات وتقليل فاتورة الاستيراد".
وشددت على أن هذا التحول هو بمثابة رئة جديدة للصناعة المصرية، ويجب دعمه بتيسير الإجراءات أمام المستثمرين الصناعيين، وتعزيز توطين الصناعات الحيوية.
وكان الدكتور مصطفى مدبولي، قال إن الوضع المالي للدولة المصرية يشهد تحسنًا ملحوظًا، حيث أشار إلى أن الموارد المحلية من العملة الصعبة خلال شهر مايو، وللشهر الرابع على التوالي، كانت كافية لتغطية الاستخدامات والانفاق على احتياجات الدولة.
كما شدد على قدرة الدولة المصرية على تأمين هذه الاحتياجات بشكل مستقل، بعيدًا عن الاعتماد على الأموال الساخنة، على عكس ما يدعيه بعض الخبراء أن الدولة ما زالت تعتمد على الأموال الساخنة، وهو بالعكس تمامًا فهناك حركة طبيعية لدخول وخروج الأموال الساخنة وفقاً للمتبع في أي دولة من دول العالم، ولا يؤثر هذا الأمر على احتياطي الدولة أو إنفاقها من تلك العملة.