٢٦ سبتمبر نت:
2025-06-13@01:22:51 GMT

بلفور ... وعدا بريطانيا أمريكيا مشتركا !

تاريخ النشر: 1st, November 2024 GMT

بلفور ... وعدا بريطانيا أمريكيا مشتركا !

في الأساس أرسى الرئيس الأمريكي ويلسون قاعدة الالتزام بالوطن القومي اليهودي من خلال التزامه بوعد بلفور , وأصبح هذا الالتزام من ثوابت كل الرؤساء الذين جاؤوا من بعده .

-مذكرة الاستيطان

يعتبر السير آرثر بلفور أول مسؤول بريطاني يمنح اليهود أرضا ( أوغندا) لإقامة دولتهم عليها , غير أن المؤتمر الصهيوني الرابع الذي عقد في العام 1903م , رفض هذا العرض تمسكا منه بأرض فلسطين .

ولهذا استجاب بلفور للطلب الصهيوني بسرعة وبسهولة , حتى إنه أعد مذكرة حول موضوع الاستيطان اليهودي في فلسطين قال فيها : ( ليس في نيتنا حتى مراعة مشاعر سكان فلسطين الحاليين .... وإن القوى الأربع الكبرى ملتزمة بالصهيونية , وسواء أكانت الصهيونية على حق أم على باطل , جيدة أم سيئة , فإنها متأصلة الجذور في التقاليد القديمة العهد والحاجات الحالية , وآمال المستقبل , وهي ذات أهمية تفوق بكثير رغبات وميول السبعمئة ألف عربي الذين يسكنون الآن هذه الأرض القديمة ) .

أما بالنسبة للاستيطان اليهودي في فلسطين , فقد أوصى بلفور في الجزء الأخير من هذه المذكرة : ( إذا كان للصهيونية أن تؤثر على المشكلة اليهودية في العالم فينبغي أن تكون فلسطين متاحة لأكبر عدد من المهاجرين اليهود .

ولذا فإن من المرغوب فيه أن تكون لها السيادة على القوة المائية التي تخصها بشكل طبيعي سواء أكان ذلك عن طريق توسيع حدودها شمالا أم عن طريق عقد معاهدة مع سورية الواقعة تحت الانتداب والتي لا تعتبر المياه المتدفقة من الهامون - حرمون جبل الشيخ - جنوبا ذات قيمة بالنسبة لها .

وللسبب ذاته يجب أن تمتد فلسطين لتشمل الأراضي الواقعة شرقي نهر الأردن ) .

-أغراء صهيوني

خلال الحرب العالمية الأولى (1914- 1918م ) , قدم اليهودي الصهيوني ( وايزمان ) عروضا للامبريالية البريطانية . فهو يقرر في رسالة إلى سكوت محرر صحيفة المانشستر جارديان في نوفمبر 1914م , : ( أننا نستطيع بحق أن نقول أنه لو دخلت فلسطين في مجال النفوذ البريطاني ولو شجعت بريطانيا قيام وطن يهودي هناك - خاضع لبريطانيا - فسيكون لدينا فيما بين عشرين وثلاثين عاما مليون يهودي وربما أكثر سيقومون بتطوير البلاد واعادة المدنية إليها , ويشكلون حراسة فعالة للغاية لقناة السويس ) .

لهذا اتخذ القرار البريطاني بإصدار بيان عام من السياسة البريطانية في فلسطين في العام 1916م , أثناء رئاسة لويد جورج للحكومة البريطانية .

من أجل ذلك جرت مفاوضات رسمية بين الحكومة البريطانية ( يمثلها وزير الخارجية آثر بلفور ) وبين المنظمة الصهيونية - اليهودية .

لم تكن بريطانيا تستطيع احتلال فلسطين عسكريا لتناقض الاحتلال مع الروح الجديدة التي بثتها مبادئ الرئيس الأمريكي ( ودرو ولسون ) ولم يكن بإمكان يهود فلسطين في ذلك الوطن إعلانها دولة لهم .

فالمصالح البريطانية والصهيونية المشتركة اقتضت فرض الانتداب البريطاني على فلسطين تمهيدا للوقت المناسب الذي يتمكن فيه اليهود من إعلان دولتهم في فلسطين . فالانتداب يحقق لبريطانيا هدفا استراتيجيا يقع في إطار ممارسة ما يسمى ( شرف ) تحقيق وعد الله إلى اليهود بإعادة أرض فلسطين إليهم .

-اتفاقية سايكس – بيكو

تمهيدا لإصدار وعد بلفور , حرصت اتفاقية سايكس - بيكو في العام 1916م , والتي قسمت الإمبراطورية العثمانية بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية - قبل قيام الثورة البلشفية في روسيا في اكتوبر 1917م - والاتفاقية اقتضت أن تضع فلسطين وحدها دون سائر أجزاء الوطن العربي من الامبراطورية العثمانية تحت إدارة دولية , وفي ذلك إشارة مبكرة وواضحة إلى عزل مصير فلسطين عن مصير بقية الوطن العربي .

ولقد كان مارك سايكس تلميذا للدكتور ( موسى غاستر ) وهو لاهوتي يهودي روماني تبوأ مركز كبير حاخاميي السفارديم في لندن . ومن غاستر تشرب سايكس مبادئ وروح الصهيونية المسيحية قبل أن يعين وكيلا للوزارة في مجلس الحرب البريطاني .

-ثلاثي الأركان

في فبراير 1917م , بدأ الإنجليز مفاوضاتهم مع اليهود , ولم تدخل الولايات المتحدة الأمريكية الحرب العالمية الأولى إلا في شهر إبريل من ذلك العام , ويؤكد تشرشل هذا الثمن الذي تعاقد عليه الإنجليز واليهود , فالإنجليز يعدون بإنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين , واليهود يعدون بدفع أمريكا إلى الحرب وتأييد قضية الحلفاء في روسيا وفي كل مكان لهم فيه نفوذ مادي ومعنوي .

ولهذا فتصريح بلفور والطريقة التي أدت إلى صدوره والملابسات السياسة التي أحاطت به تبين أن التصريح الذي دفع بالوطن اليهودي إلى حيز الوجود لم يكن تصريحا ثنائيا بين انجلترا واليهود كما يبدو من الناحية الرسمية , وانما هو في الواقع تصريح ثلاثي الأركان إذ لم يصدر بعد أن تأكد الإنجليز من تأييد أمريكا لهم في هذه المغامرة السياسية .

فإن يد اليهود الصهيونية التي لعبت في صياغة تصريح بلفور في الوزارة الإنجليزية هي التي لعبت في كسب التأييد له من الرئيس الأمريكي ( وودرو ويلسون , ديمقراطي 1913-1921م) في البيت الأبيض بأمريكا .

-تأييد أمريكي

طلبت بريطانيا من الولايات المتحدة رأيها بوعد بلفور المقترح , ففي 4 سبتمبر 1917م , قبل إعلان وعد بلفور بشهرين أبرق اللورد سيسيل إلى الكلولونيل هاوس يقول : ( إننا نتعرض للضغط هنا , لإعلان عطف على الحركة الصهيونية , وسأكون شاكرا جدا لك , إذا شعرت أنك قادر على التأكيد بصورة غير رسمية , عما إذا كان رئيس الجمهورية يؤيد مثل هذا الإعلان ) .

وقد رد الرئيس ويلسون على رسالة هاوس بقوله : ( إنني أوافق على الصيغة التي اقترحها الجانب الآخر , أنا أوافق على تلك الصيغة في الواقع , وسأكون ممتنا إذا أخبرتهم بذلك ) .

وخلاصه القول أن نص تصريح بلفور كان قد عرض على الرئيس الأمريكي ويلسون ووافق على محتواه قبل نشره ! -وعدا مشتركا أما الكونجرس الأمريكي فقد أيد بمبادرة من السيناتور ( هنري كابوت لودج ) رئيس لجنة العلاقات الخارجية , وعد بلفور في يونيو 1922م , وأصدر بيانا بذلك , جاء فيه : ( إن الولايات المتحدة الأمريكية تؤيد إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وفقا للشروط التي يتضمنها وعد الحكومة البريطانية الصادر في الثاني من نوفمبر – تشرين الثاني من العام 1917م , والمعروف بوعد بلفور ) .

وفي نهاية الشهر نفسه وافق مجلس النواب الأمريكي على وعد بلفور في بيان جاء فيه : ( حيث إن الشعب اليهودي كان يعتقد لقرون طويلة ويتشوق لإعادة بناء وطنه القديم , وبسبب ما تمخضت عنه الحرب العالمية ودور اليهود فيها , فيجب أن يُمكن الشعب اليهودي من إعادة إنشاء وتنظيم وطن قومي في أرض آبائه مما يتيح لبيت إسرائيل فرصته التي حرم منها لفترة طويلة , وهي إعادة تأسيس حياة يهودية وثقافة مثمرة في الأرض اليهودية القديمة ) .

وفي 21 سبتمبر 1922م , وافق المجلسان معا ( الشيوخ والنواب ) على وعد بلفور كخطوة للموافقة المنفردة لكل منهما , ومنذ ذلك التاريخ أصبحت الولايات المتحدة شريكة بريطانيا في تنفيذ الوعد الذي أصبح وعدا بريطانيا أمريكيا مشتركا , 107 عاما تحل عينا اليوم الذكرى السابعة بعد المائة من تصريح وعد بلفور, ومازال العالم الغربي يتأمر على فلسطين شعبا وأرضا والذي هو سبب نكبة ومعاناة الشعب الفلسطيني منذ وعد بلفور وانتداب بريطانيا على فلسطين وتمكين الاحتلال الصهيوني باحتلال فلسطين ومن ثم الاعتراف به كدولة ودعمه عسكريا واقتصاديا وسياسيا وإعلاميا بدافع ديني (المسيحية الصهيونية ).

ففي الثاني من نوفمبر عام 1917م , قامت بريطانيا بإصدار تصريح سياسي خطير على لسان وزير خارجيتها السير أرثر بلفور وقد وجهه إلى رجل الأعمال المليونير اليهودي الشهير البارون دي روتشلد . وهذا التصريح الذي عرف فيما بعد بوعد بلفور .

ومما جاء فيه : ( إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف على أماني اليهود , وأن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وستبذل غاية جهدها لتسهيل هذه الغاية ... دون أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين و لحقوق اليهود في البدان الأخرى ... )حتى إذا أقر الانتداب البريطاني على فلسطين في مؤتمر سان ريمو في العام 1920م , يكون الوعد جزءا منه .

وحتى إذا منحت عصبة الأمم بريطانيا في العام 1922م , حق الانتداب رسميا تكون العصبة قد أقرت ضمنا أيضا مضمون الوعد بإقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين . وكانت عصبة الأمم قد احتالت على القانون الدولي بموافقتها المسبقة على مضمون الوعد الذي هو جزء من الانتداب .

-حقوق يهودية

لقد أنكر وعد بلفور وجود الشعب الفلسطيني , ولم يذكر كلمة العرب مطلقا , بل أشار إلى ما سماه جاليات غير يهودية موجودة في فلسطين , واعترف باليهود كأمة وباليهودية كقومية !وبموجب ذلك أصبحت منذ - صدور البيان ( وعد بلفور) وتكريسه دوليا كل حقوق المواطنة لليهود غير الموجودين واستُجهل المواطنون الموجودون اسما وحقوقا .

ذلك أنه بالنسبة إلى سكان فلسطين من العرب المسلمين والمسيحيين , نص وعد بلفور على ضمان حقوقهم المدنية والدينية .

وهو الضمان الذي يمنح للغرباء الذين يعيشون على أرض ليست لهم تماما كما نصت عليه اتفاقية كامب ديفيد عام 1979م , بين مصر والكيان الصهيوني وبرعاية الولايات المتحدة الأمريكية , أي بعد 62 عاما من وعد بلفور.

فاتفاقية كامب ديفيد التي نصت على منح الفلسطينيين حكما ذاتيا في الضفة الغربية وغزة , وقد فسر الكيان الصهيوني لمعنى الحكم الذاتي بزعمهم بأنه حكم الغرباء على أرض صهيونية ! .وهو ما يحاول الكيان الصهيوني أن يكرسه من خلال المفاوضات العربية – الصهيونية و الفلسطينية – الصهيونية التي انطلقت من مؤتمر مدريد 1991م .

-تقرير المصير

من المفارقات إن مبادئ ويلسون الذي نادى بحق الشعوب في تقرير مصيرها حرم عرب فلسطين من هذا الحق ودعا إلى وجوب معاملة اليهود في منطقة فلسطين معاملة استثنائية . هذا إلى أن الوفد الأمريكي في مؤتمر الصلح قد حمل مذكرة بإنشاء الدولة اليهودية في فلسطين , كما قرر الرئيس ولسون ايضا في 3 مارس 1919م , بقوله : ( إن الأمم المتحالفة بالموافقة التامة لحكومتنا وشعبنا قد اتفقت على أن توضع في فلسطين أسس دولة يهودية ) .

فتأييد أمريكا للصهيونية في فلسطين ليس إذن أمرا جديدا فلقد صاحب نفوذ انجلترا في خلق الكيان الصهيوني منذ البدء , وإن كان تأييد امريكا لصهاينة قد برز بروزا ملحوظا , فذلك لأن أسبقيتها على انجلترا في السياسة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية جعلها هي الأولى في معاونة اليهود بعد أن كانت الثانية في تقديم هذا العون خلال وعد بلفور .

-تصفية القضية

واليوم بعد مرور 107عاما من وعد بلفور يتجلى بوضوح من خلال محاولات تصفية القضية الفلسطينية بدأ من تولي الرئيس الامريكي ( دونالد ترامب , جمهوري , 2017-2020م ) والذي عمل على نقل السفارة الامريكية للقدس والاعترف بها عاصمة لليهود , وسعي إلى تصفية القضية الفلسطينية واقامة تطبيع مع بعض الأنظمة العربية بمسمى صفقة القرن والمشروع الإبراهيمي , وعقد لذلك عدة مؤتمرات منها مؤتمر وارسلو ومؤتمر المنامة عام 2019م , وما العدوان على غزة منذ أكثر من عام إلا استكمال لمشروع مؤجل من اكثر من قرنا من الزمن , استطاعت المقاومة في فلسطين وبالذات في 7 أكتوبر 2023م من احباط تحقيقه واعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة من جديد .

المصدر: ٢٦ سبتمبر نت

كلمات دلالية: الیهودی فی فلسطین الولایات المتحدة الرئیس الأمریکی الحرب العالمیة على فلسطین وعد بلفور فلسطین فی بلفور فی فی العام وطن قومی

إقرأ أيضاً:

عن العنف الذي لا يبرر

يونيو 11, 2025آخر تحديث: يونيو 11, 2025

وفاء نصر شهاب الدين

كاتبة من مصر

في صغري، أرسلتني أمي إلى بيت جدتي في زيارة كانت تبدو عادية تمامًا، لولا أنها خبأت لي مشهدًا من تلك المشاهد التي تترك ندبة في الذاكرة لا تُشفى بسهولة.

كان هناك كلبٌ أبيض، جميل، شعره كيرلي ناعم كقطن السحاب. بدا لي وقتها وكأنه مخلوق من القصص، من أولئك الذين يرافقون الأطفال في الحكايات القديمة ويحرسونهم من الأشباح. كنت أراه لطيفًا، بريئًا… حتى اللحظة التي ركض فيها خلفي وعقرني.

تغيّر كل شيء بعدها، كبر داخلي خوفٌ لم أفلح في التخلُّص منه تمامًا. كلما اقترب مني كلب في الشارع، تتراجع خطواتي، يتسارع نبضي، وتنهض الطفلة التي بداخلي مذعورة.

لكن، ورغم هذه الذكرى التي جرحت ثقتي، لم أكره الكلاب أبدًا. لم أفهم يومًا كيف يمكن لإنسان أن يؤذي حيوانًا لا حول له ولا قوة، أن يضربه، أن يسحله، أن يسمّمه، أو أن ينظر إليه وكأنه عدو لا بد من القضاء عليه.

الشارع في السنوات الأخيرة صار قاسيًا، ليس فقط على البشر، بل على الكائنات التي لا تملك صوتًا يدافع عنها.

كم من مرة رأيت كلبًا يُركل بلا سبب، أو تُلقى عليه الحجارة وكأن قلوب الناس قد تحجّرت!

كم من مرة سمعت عن حملات قتل جماعي للكلاب الضالة، وكأن الوفاء الذي عُرفت به هذه المخلوقات لم يعد يعني شيئًا في عالمنا.

أين ذهب الحنان؟

أين اختفى التراحم الذي أوصت به الأديان قبل القوانين؟

كيف تحوّلنا إلى بشر يخافون من الطيبة، ويشهرون العداء ضد الكائنات التي لا تطلب إلا الأمان وبعض الطعام؟

الكلب الذي عضّني وأنا طفلة… ربما خاف. ربما رأى فيّ تهديدًا لا أفهمه. ربما أراد أن يلعب ولم يُحسن التعبير.

لكنه، رغم كل شيء، لم يكن شريرًا.

الشر، في حقيقته، ليس في الحيوان، بل في القسوة التي نغلّف بها قلوبنا، وفي الجهل الذي يدفعنا إلى إيذاء كل ما هو أضعف منّا.

ليت الشوارع تتسع قليلًا للرحمة.

ليت البشر يعيدون النظر في علاقتهم بالحيوانات، ليس فقط من منطلق الشفقة، بل من باب المسؤولية الأخلاقية والإنسانية.

فنحن لا نُقاس فقط بما نفعله تجاه من نحب، بل بما نفعله تجاه من لا يستطيع أن يردّ الأذى عن نفسه. نحن نعيش في مجتمع يتحدث كثيرًا عن الأخلاق، عن التدين، عن الفضيلة… لكننا ننسى أن الرحمة ليست شعارًا يُرفع، بل سلوك يومي يُمارس، خاصة تجاه من لا يملك صوتًا يُدافع به عن نفسه.

أحيانًا أسير في الشارع فألمح كلبًا يجلس على الرصيف، عينه قلقة، ذيله بين قدميه، ووجهه ممتلئ بأسئلة لا تُقال:

“هل سأُطرَد؟ هل سأُضرَب؟ هل هذا المارّ طيب أم غاضب؟” كلب لا يريد شيئًا سوى الأمان، وربما قطعة خبز، وربتة على الرأس… أو على الأقل، أن يُترك وشأنه دون أذى. لماذا لا نترك الكلاب وشأنها؟

لماذا لا نعترف بأن هذه المخلوقات، وإن كانت لا تتكلم، إلا أن قلوبها تفهم، وذاكرتها تحتفظ، ووفاءها يتجاوز في كثير من الأحيان وفاء البشر؟ الكلب لا يخون، لا يبيع، لا يؤذي بلا سبب. الكلب لا يكذب.

وما يوجع أكثر من العنف، هو اللامبالاة…أن يُضرَب الكلب في منتصف الشارع، ولا يتوقف أحد. أن يُسمَّم، ويُترك يتلوى في صمت، كأن موته لا يعني شيئًا. أن تتحوّل الكائنات الأليفة إلى أهداف متحرّكة لغضبٍ مكبوت، وعداء غير مبرر، لا تبرّره شريعة، ولا تقبله نفسٌ سوية.

ربما لا أزال أخاف الكلاب قليلًا، لكنني أحبها رغم ذلك، وأدافع عنها ما استطعت. لأنني أؤمن أن الكائن الذي أحبك بصدق حتى بعد أن آذيته، لا يستحق سوى الحماية.

لأن الطفلة التي بداخلي، التي ركضت مذعورة من كلبٍ أبيض، عادت بعد سنوات طويلة، ومدّت يدها لحيوان خائف في الشارع… وربّتت على رأسه. ربما شُفيت بعض الشيء. وربما حان الوقت لنُشفي نحن جميعًا من هذه القسوة التي تسكننا. أقول دائمًا إن ما يفعله الإنسان في الخفاء، مع كائنٍ ضعيف، هو مرآته الحقيقية.

لا يُعرّفنا موقف أمام جمهور، ولا كلمة في ندوة، بل تلك اللحظة التي نمرّ فيها بجانب حيوان جائع أو مذعور… كيف نتصرف حينها؟ تلك هي الحقيقة. الكلب لا يملك لغة ليدافع بها عن نفسه، لكنه يملك قلبًا يفهم ويشعر.

وما أبشع أن نُقابل الوفاء بالخيانة، والوداعة بالقسوة، وأن نغضّ الطرف عن مشاهد الألم لمجرد أنها لا تخصّنا مباشرة

كل كلب مشرّد في شوارعنا هو اختبار صامت لإنسانيتنا. وكل حجر يُرمى، أو قدم تُركل، أو نظرة اشمئزاز تُلقى على كائنٍ أعزل… هي جرح فينا قبل أن تكون جرحًا فيه.

دعونا نتذكر أننا لا نعيش وحدنا، وأن الأرض ليست لنا فقط وأن الرقة ليست ضعفًا، بل رفعة وأن من يُؤذي كائنًا لا يتكلم، سيصعب عليه أن يُحب كائنًا يتكلم. ربما لو أحببنا الكلاب قليلًا، أو على الأقل احترمنا وجودها، لعادت الشوارع أقل عنفًا، وأكثر احتمالًا…وربما لو تذكّر كل واحد فينا كلبًا قديمًا، في طفولته أو في ذاكرته، لكان في قلبه شيء من الحنان لا يُفسَّر.

الكلب الذي عضّني وأنا صغيرة، علّمني شيئًا لا تنقله الكتب: أننا قد نخاف ممّن نحب، لكننا لا نكرههم…وأن الحب الحقيقي لا يزول، حتى إن ترك ندبة.

مقالات مشابهة

  • «ايدج» و«ليوناردو» تؤسسان مشروعاً مشتركاً لإنشاء مركز تكنولوجي متطور
  • هذه الحكومة الإسرائيلية خطر على اليهود في كل مكان
  • عن العنف الذي لا يبرر
  • بوركينا فاسو ومالي والنيجر تعزف لأول مرة نشيدا وطنيا مشتركا
  • اليهود يزحفون .. والغرب يتظاهرون .. والعرب يتخاذلون
  • ما الذي يزعج أميركا من تقارب بريطانيا والصين؟
  • توماس فريدمان: حكومة إسرائيل خطر على اليهود أينما كانوا
  • ما هي فصائل السلام التي شكلتها بريطانيا لقمع ثورة الفلسطينيين؟
  • مؤرخة: العراق سهّل هجرة اليهود لإسرائيل واستهدف الأثرياء وترك ميليشيا صهيونية
  • صوفان: وجود شخصيات على غرار فادي صقر ضمن هذا المسار له دور في تفكيك العقد وحل المشكلات ومواجهة المخاطر التي تتعرض لها البلاد.. نحن نتفهم الألم والغضب الذي تشعر به عائلات الشهداء، لكننا في مرحلة السلم الأهلي مضطرون لاتخاذ قرارات لتأمين استقرار نسبي للمرحلة