الشيطان لا يكمن في التفاصيل
تاريخ النشر: 5th, November 2024 GMT
المثل الإنجليزي الشائع الذي يردده الناس فـي كل سياق هو «الشيطان يكمن فـي التفاصيل»The devil is in the details، وهذه العبارة التي قالها بعض الباحثين فـي أحد المؤتمرات قد صارت مثلًا يستخدمه الناس بشكل يخرج عن دلالته ومعناه الأصلي المراد منه. فالمقصود بهذه العبارة هو أن المسائل التي قد نظنها بسيطة قد تنطوي على تفاصيل معقدة ينبغي الالتفات إليها.
لنتأمل أولًا مجال الفكر لنتبين أن كل فكر أصيل هو فكر ينبع من تأمل وقائع وأحداث الحياة بكل تفاصيلها، قبل أن يرتقي إلى استخلاص تعميمات من وراء ذلك. وفـي هذا الصدد ينبغي أن ننظر فـي تاريخ الفلسفات الطويل، لنتبين أن ما بقي منها هو تلك الفلسفات التي عكفت على تأمل التجربة الإنسانية كما تتبدى فـي تفاصيل الحياة، قبل إصدار أية أحكام أو مقولات، بمعنى أنها فلسفات عكفت على استخلاص معاني الحياة من خلال تفاصيلها وما قد يبدو عابرًا فـيها. هذا ما كان يفعله سقراط، وهذا هو ما دوَّنه أفلاطون من خلال محاوراته التي يتناول كل منها تفاصيل موضوع ما. وهذا ما فعله شوبنهاور فـي تأملاته العميقة لإرادة الحياة التي تتجلى فـي الإنسان وفـي سائر الموجودات. وهذا هو أيضًا ما فعلته الفلسفة الفـينومينولوجية منذ نشأنها -وحتى عصرنا الراهن- حينما عكفت على استلهام المنهج الهوسرلي فـي الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة للأشياء والمنظورات التي تتبدى عليها فـي عالم التجربة التي يمكن أن نخضعها لتأملاتنا إذا أردنا أن نفهم حقيقتها. ولقد انعكست هذه الروح الفـينومينولوجية فـي فلسفات عديدة، كما فـي فلسفة الوجود عند هيدجر والفلسفة الوجودية عند سارتر وغيره. فها هو سارتر- على سبيل المثال- يصف باستفاضة دور «النظرة» فـي علاقة الأنا بالآخر؛ كما أن هيدجر- من قبله- يعنى بوصف أسلوب وجود الموجود البشري فـي العالم؛ لأن الموجود البشري لا يمكن فهمه بمنأى عن أسلوب وجوده، من خلال بعض المقولات العقلية المجردة التي تتصف بالتعميمات التي تنأى عن تفاصيل الحياة والوجود، كأن نقول عن الإنسان على سبيل المثال إنه «حيوان عاقل». والحقيقة أن هذا لا يصدق فحسب على فهم الوجود الإنساني، بل على فهم أي شيء أو موجود آخر؛ لأنه ليست هناك ماهية واحدة للأشياء جميعها بحيث تنطبق على كل شيء، بل إن ماهية الشيء تكمن فـي الأسلوب الذي به يتشيأ (بلغة هيدجر)، أي فـي الأسلوب الذي عليه يوجد وتتبدى شيئيته أو طابعه الشيئي! وكما أن الاهتمام بالتفاصيل هو منبع كل فكر وفهم أصيل، فإنه منبع كل إبداع فـي الفن، وكل ما فـي الأمر هنا هو أن كلًّا من الفكر والفن يسيران فـي اتجاهين معكوسين من حيث علاقتهما بالتفاصيل: فالفكر الأصيل يبدأ من تأمل التفاصيل الجزئية ليستخلص أفكارًا وقضايا عامة، بينما الفن يستبصر هذه الأفكار العامة والكلية كما تتبدى فـي تفاصيل جزئية بالغة الخصوصية. يحدث هذا فـي كل إبداع فني. ولهذا فإن الفن الرديء الذي يفتقر إلى الإبداع هو الذي يبدأ من الأفكار العامة ويتخذها موضوعًا له؛ لأن الفن فـي هذه الحالة سوف يتحول إلى خطاب وعظي أو أيديولوجي: فالإبداع فـي الفن يكمن دائمًا فـي التفاصيل، أما الرؤية أو الفكر فـيتمثل دائمًا بشكل إيحائي غير مباشر كما يتجلى من خلال هذه التفاصيل. فالفن العظيم إذ يعبر عن دلالة إنسانية عامة، فإنه يعبر دائمًا عن هذه الدلالة كما تتبدى فـي تفاصيل الشخصيات والأحداث المصورة فـي عمل أدبي ما أو فـي الإيماءات الخاصة بشخصية مصورة فـي لوحة ما؛ وهكذا فإن الإبداع الفني هو القدرة على تصوير ما هو عام فـي ومن خلال ما هو خاص، أي تصوير الكلي فـي التفاصيل الجزئية الخاصة بحالة إنسانية أو وجودية ما. وإذا كان الاهتمام بالتفاصيل هو مناط الإبداع فـي الفكر والفن على السواء، فإن هذا يعني أننا ينبغي أن نتخلى عن المَثل الجاري على الألسنة القائل بأن «الشيطان يكمن فـي التفاصيل». |
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فـی التفاصیل من خلال
إقرأ أيضاً:
هل يبدأ تطبيق قانون الإيجار القديم بعد مرور 30 يوم على إقراره؟.. اعرف التفاصيل
شهد اليوم الجمعة حالة من الجدل بعد انتشار بعض الأخبار بشأن بدء تطبيق قانون الإيجار القديم اعتبارا من اليوم، الجمعة الموافق 1 أغسطس 2025، على منصات التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام.
هذه المعلومات استندت إلى مرور 30 يوم على موافقة مجلس النواب النهائية على مشروع القانون.
لمعرفة التفاصيل، أوضح النائب محمد عطية الفيومي، رئيس لجنة الإسكان بمجلس النواب، أن ما يتم تداوله بشأن تفعيل القانون اليوم ليس دقيقا، لافتا إلى أن المدة الدستورية المحددة في المادة 123 من الدستور لم تنته بعد.
وقال الفيومي في تصريحات خاصة لـ "صدى البلد" إن المدة التي نص عليها الدستور لصدور القوانين هي 30 يوما، تبدأ من تاريخ إبلاغ رئيس الجمهورية بالقانون، وليس من تاريخ إقراره في البرلمان.
وتنص المادة 123 من الدستور على: "لرئيس الجمهورية حق إصدار القوانين أو الاعتراض عليها، وإذا اعترض رئيس الجمهورية على مشروع قانون أقره مجلس النواب، رده إليه خلال ثلاثين يومًا من إبلاغ المجلس إياه، فإذا لم يرد مشروع القانون فى هذا الميعاد اعتُبر قانونا وأصدر، وإذا رد فى الميعاد المتقدم إلى المجلس، وأقره ثانية بأغلبية ثلثى أعضائه، اعتبر قانونًا وأصدر".
وأشار رئيس إسكان النواب إلى أن مشروع القانون تم إرساله إلى رئيس الجمهورية في 12 يوليو، وبالتالي تنتهي مدة الـ 30 يوما في 12 أغسطس، مما يعني أن هناك أسبوعين آخرين أمام الرئيس لإصدار القانون أو الاعتراض عليه.
وتوقع الفيومي أن يصدر الرئيس القانون قبل انتهاء المهلة الدستورية، كما استبعد أن يقوم الرئيس بإعادة المشروع إلى مجلس النواب للاعتراض عليه.