بايدن: الهجوم الجوي الروسي على أوكرانيا شائن
تاريخ النشر: 29th, November 2024 GMT
قال الرئيس الأميركي، جو بايدن، الخميس، إن الهجوم الجوي الروسي على أوكرانيا ليلا "شائن" ويعد بمثابة تذكير بمدى ضرورة وأهمية دعم الشعب الأوكراني.
وقال بايدن في بيان أصدره البيت الأبيض إن روسيا "تواصل التقليل من شأن شجاعة الشعب الأوكراني وصموده وعزمه. وتقف الولايات المتحدة مع أكثر من 50 دولة في دعم أوكرانيا ونضالها من أجل الحرية".
كانت روسيا قد وجهت في وقت مبكر الخميس ثاني هجوم كبير على البنية التحتية للطاقة في أوكرانيا هذا الشهر، ما أدى إلى انقطاع الكهرباء على نطاق واسع في أنحاء البلاد.
وقال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إن موسكو شنت الهجوم ردا على هجمات أوكرانيا على أراض روسية باستخدام صواريخ أتاكمز الأمريكية متوسطة المدى.
وأضاف أن أهداف روسيا المستقبلية قد تشمل "مراكز صنع القرار" في كييف.
واتهم الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، روسيا بالقيام "بتصعيد دنيء"، قائلا إنها استخدمت صواريخ كروز مزودة بذخائر عنقودية.
وقال زيلينسكي أيضا في خطابه الليلي المصور إنه يتحدث مع زعماء غربيين، منهم الأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر والمستشار الألماني أولاف شولتس، من أجل تحديد رد على "محاولة روسيا جعل الوضع لا يحتمل بشكل أكبر وإطالة أمد الحرب".
وانقطعت الكهرباء عن أكثر من مليون شخص في أعقاب الهجمات، بينما تم تكثيف الجداول الحالية لقطع الكهرباء لدى ملايين آخرين.
وقال سلاح الجو الأوكراني إن روسيا استخدمت 91 صاروخا و97 طائرة مسيرة في هجوم اليوم. وذكر أن 12 منها أصابت أهدافها التي كان أغلبها مرافق طاقة ووقود.
المصدر: الحرة
إقرأ أيضاً:
هل تحتاج روسيا إلى 100 عام للسيطرة على أوكرانيا؟
في صباحٍ رمادي على أطراف مدينة دونيتسك الأوكرانية، كان الضباب يلتف حول الخنادق مثل غطاء ثقيل، والهواء يقطعه طنين مسيّرة تبحث عن هدف. وعلى جدار من الطين الرطب، كان يجلس جندي أوكراني في العشرينات من عمره، تسمع صوت أنفاسه بوضوح وينظر إلى شاشة صغيرة أمامه، تعرض نقاطاً حمراء تمثل جنودًا روس يتحركون ببطء ويتقدمون نحوه.
في تلك اللحظة، تذكر الجندي مقطعا شاهده في فيلم لمعركة قديمة: رجال بريطانيون وفرنسيون يركضون في حقول موحلة نحو الخطوط الألمانية في مدينة فردان الفرنسية، عام 1916. الفرق الوحيد أن الخنادق في دونتسك أعمق، والطين أثقل، وعندما تكون في قلب المعركة، فالموت يأتي أسرع.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2دليلك إلى صناعة الذهب من رمال الصحراءlist 2 of 2"كنت شاهدا على مذابح الفرنسيين في مصر"end of listففي الأول من يوليو/تموز 1916، وفي خضم الحرب العالمية الأولى، وقعت واحدة من أكثر المعارك دموية وبطئا في التاريخ العسكري، حين شنَّ البريطانيون والفرنسيون هجوما مُضادا على الألمان في "معركة فردان" غربي فرنسا، في محاولة لوقف التمدد الألماني.
وقد افترض الحلفاء أن الهجوم المُضاد سيؤدي إلى حدوث "اختراق حاسم" للجبهة الغربية، لكن حالت دون ذلك تحصينات وشبكات من الخنادق شيدها الألمان منذ عام 1914، وتمتد أعماقها على عدة طبقات تحت الأرض وتتصل بأنفاق ومستودعات، بها مواقع رشاشات مُموَّهة ومدفعية دقيقة.
عندما بدأ الهجوم المُضاد البريطاني الفرنسي، واجه سلاح المشاة نيرانا مُركَّزة من مواقع ثابتة محمية بالكامل، وكانت بريطانيا قد شنَّت حينها قصفا مدفعيا مكثفا لمدة أسبوع قبل الهجوم، حتى استخدمت أكثر من مليون ونصف المليون قذيفة، لكن القصف في النهاية أعاق تقدُّم الحلفاء، لأنه حوَّل ساحة المعركة إلى حقول من الوحل والحُفَر.
بعد قرابة 140 يوما، لم يتجاوز التقدُّم 10 كيلومترات، وبلغ عدد القتلى والجرحى 1.2 مليون شخص، وهو ثمن باهظ لتقدُّم بطيء، سرعان ما أصبح نموذجا يُدرَّس في الأدبيات العسكرية عن بطء الحروب الحديثة حين تتجمد الجبهات.
إعلانعاد هجوم فردان إلى ساحة النقاش، بعد أن واجه الروس في أوكرانيا وضعا مشابها. فقد شهدت أوائل عام 2022 هجمات خاطفة استولت أثناءها روسيا على مساحات شاسعة من الأراضي الأوكرانية، بما في ذلك الاستيلاء على 120 ألف كيلومتر مربع في الأسابيع الخمسة الأولى من الحرب.
وقد ظنَّ الكرملين أنه في معركة ستستمر لعدة أسابيع ليس إلا، لكن سرعان ما أُوقِفَت القوات الروسية عن التقدم بعد هجوم مضاد أوكراني، ومنذ ذلك الحين، لم تشهد خطوط المعركة سوى تأرجحات طفيفة في الشرق والجنوب.
وتكشف البيانات الحديثة أن التقدم الروسي في آخر 18 شهرا كان بطيئا حتى بمعايير الحرب العالمية الأولى، مما دفع البعض إلى تصور أن الروس قد يتوقفون تماما في مرحلة ما.
وفقا لتحليل أجراه مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) في يونيو/حزيران الماضي، حققت القوات الروسية مكاسب في قطاعات مثل المواقع القريبة من "خاركيف" ثاني أكبر مدينة في أوكرانيا، بلغت في المتوسط نحو 50 مترا فقط يوميا، وهو معدل أبطأ بكثير مما جرى في المعارك المناظرة خلال أكثر من مئة عام، ففي هجوم معركة نهر السوم الفرنسية في الحرب العالمية الأولى ضد القوات الألمانية، بلغ مقدار التقدم نحو 70-80 مترا في اليوم.
وحتى في أجزاء من منطقة دونيتسك الاوكرانية، كانت القوات الروسية في وضع أفضل، حيث بلغ متوسط التقدم نحو 135 مترا يوميا، وفي كل الأحوال ينظر الخبراء لتلك النتائج الروسية بشكل سلبي وفقا للمعايير المتوقعة، وقياسا على حروب سابقة مناظرة للبيئة العسكرية على الجبهة الروسية الأوكروانية.
بحلول منتصف 2025، كانت روسيا تسيطر على نحو 19% من الأراضي الأوكرانية، بما في ذلك القرم وأجزاء من دونباس التي سيطرت عليها منذ 2014، وكل مكسب جديد تتضاعف تكلفته الباهظة، حيث يُقدِّر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية أن روسيا في طريقها للوصول إلى مليون قتيل هذا العام.
أضف إلى ذلك أن الخسائر الروسية تفوق نظيرتها الأوكرانية، إذ تشير بيانات للمعارك إلى نسبة تتراوح بين 1-2 أو 1-5 لصالح أوكرانيا في خسائر المعدات واستنزاف القوى البشرية.
وهناك عدة أسباب لارتفاع خسائر الروس، على رأسها تكتيكات "الهجوم الجماعي"، فكل تقدُّم روسي صغير، يهدف مثلا إلى الاستيلاء على قرية أو قطع طريق إمداد واحد، يتحقَّق عن طريق موجات من الهجوم، وغالبا ما تعاني من خسائر فادحة، ويأتي ذلك بفضل تعزيز الأوكرانيين خطوط المواجهة، التي يبلغ طولها أكثر من ألف كيلومتر بدفاعات متعددة الطبقات.
ومع تجهيز روسيا لهجوم جديد هذا الصيف، عزَّز القادة الأوكرانيون من خطوطهم الدفاعية، مما حال دون تحقيق اختراقات روسية كبرى. مثلا، عندما حاولت روسيا التقدم نحو مدينة سومي (شمال شرق أوكرانيا) في يونيو/حزيران الماضي، تمكَّن الدفاع الأوكراني من خنق الهجوم وأوقفه مع نهاية الشهر.
في هذا السياق، يلاحظ أنه منذ أوائل عام 2025 هناك تناقص في المكاسب الروسية، وفي مارس/آذار لم تستولِ روسيا إلا على 240 كيلومترا مربعا، وهو أقل مكسب شهري منذ بدء الهجوم المُكثَّف في منتصف عام 2024.
إعلانباختصار، وبدلا من أن تشن روسيا حربا خاطفة، فإنها وجدت نفسها في أتون حرب استنزاف يُقاس فيها التقدُّم بالمتر لكل ألف قذيفة. دفع ذلك بعض الخبراء إلى تصوير الأمر وكأنه أشبه بـ "مفرمة اللحم"، ويبدو أنه طريق محتم أن تخوضه روسيا بالقوات البرية، حيث لا يمكن اختراق التحصينات إلا بقوات المشاة.
ولم يتوقف الأمر على المجازر البشرية، فقد لحقت بها مجازر الدبابات والمدرعات العسكرية، ففي فوهْلِدار شرق أوكرانيا عام 2023، دُمِّرَت أو أُصيبت آلاف المركبات المدرعة والدبابات الروسية.
وباتت الأسلحة الأوكرانية المضادة للدبابات والمُسيَّرات، مهيأة لكشف أي رتل دبابات متحرك، وتدميره. وقد أدت تلك الخسائر الثقيلة إلى تسلح القادرة الروس بالحذر الشديد، مما أثقل قراراتهم بشأن استخدام المدرعات بكثافة.
تكتيكات جديدة لكن بطيئة .. جدًا!لكن تجاوبا مع تلك المشكلات، لجأ الروس إلى تكتيكات الوحدات الصغيرة باستخدام المشاة الراجلة أو المركبات الخفيفة. وبدلا من الهجمات المدرعة بحجم كتيبة، تهاجم الوحدات الروسية الآن في مجموعات صغيرة من 5 إلى 10 جنود، وأحيانا سيرا على الأقدام، وأحيانا على متن منصات رخيصة مثل الدراجات الرباعية أو حتى العربات المدنية غير المدرعة.
وتستكشف هذه المجموعات المُغِيرة الخطوط الأوكرانية بحثا عن نقاط ضعف أو لجذب النيران، وهي تفعل ذلك في حالة تخفٍّ وبتطبيق تكتيكات التشتيت، وعندها تضرب المدفعية والمُسيَّرات الروسية المواقع الأوكرانية المكشوفة إذا ظهرت ثغرة.
تبدو تلك طريقة فعالة في المرحلة الحالية، حيث تُخفِّف من الخسائر في الآليات، لكنها بطيئة بطبيعة الحال، وتتطلب جهدا كبيرا، وخسائر في الأرواح، مما دفع بعض الخبراء إلى افتراض أن هذا المعدل يعني أن روسيا لو أرادت احتلال أوكرانيا كاملة، فإنها ستحتاج إلى قرن من الزمن أو أكثر بمثل هذا الزحف البطيء الذي لا يتجاوز مئة متر يوميا.
المشهد إذن تُشكِّله هجمات مشاة متفرقة تحت غطاء مدفعي يشمل إطلاق عشرات الآلاف من القذائف يوميا، دون عمليات مُعقَّدة، ودون عمليات أسلحة مشتركة، مثل تلك التي تُدمَج فيها قوات المشاة والمدرعات والمدفعية والمهندسون والدعم الجوي لاختراق الدفاعات المجهزة.
من الناحية الإستراتيجية، أدى الزحف الروسي البطيء إلى تقليص هدف بوتين لهذا العام، إذ إنه يقتصر الآن على احتلال منطقتَيْ دونيتسك ودونباس في أوكرانيا بالكامل، إلى جانب السيطرة على الجنوب. ويُصوِّر المسؤولون الروس العمليات الحالية على أنها ضرورية لتأمين "منطقة عازلة" وحماية الأراضي الروسية، ولذلك ركَّز الهجوم الروسي هذا الصيف على دونيتسك، وبحلول منتصف العام، كانت روسيا قد حقَّقت بعض التوغلات، لكنها لا تزال بعيدة عن المدن الرئيسية التي قد يُحدِث سقوطها تحوُّلا سريعا في مجريات الحرب.
المُسيَّرات والدفاعات الحديثةإذا كان هناك تطوُّر واحد يُفسِّر تعثر الهجوم الروسي، فهو الاستخدام غير المسبوق للمُسيَّرات في ساحة المعركة، والدفاعات القوية على الأرض. في الواقع، نشر الجانبان أسرابا من المُسيَّرات تجعل هذه الحرب الأكثر استخداما للمُسيَّرات في التاريخ. ولذلك تُعَد محاولة شن تحرُّك روسي واسع النطاق أو هجوم جماعي بمنزلة انتحار. ولذا لا سبيل للروس إلا التقدُّم البطيء بالوحدات الصغيرة، التي تتحرك ليلا أو تحت غطاء سوء الأحوال الجوية أحيانا.
يجري الهجوم الروسي بمساعدة مُسيَّرات هجوم "منظور الشخص الأول" (FPV)، وهي في الأساس قنابل طائرة يُتحكَّم فيها عن بُعد، وتنقض على الخنادق والمركبات المدرعة بدقة قاتلة. وتستهدف المُسيَّرة الروسية الخنادق والمدفعية الأوكرانية بشكل متكرر، وفي الوقت نفسه، تحاول وحدات الحرب الإلكترونية على كلا الجانبين التشويش على مُسيَّرات العدو أو اختطافها.
إعلانوالنتيجة هي لعبة قط وفأر عالية التقنية في السماء، إلى جانب القتال البري العنيف. ومع ذلك، فإن استخدام أوكرانيا المبتكر للمُسيَّرات بمساعدة معلومات استخبارية غربية منحها ميزة دفاعية، وهجومية أحيانا.
هنا يمكن أن نتذكر عملية "شبكة العنكبوت" التي أعلنت عنها أوكرانيا في يونيو/حزيران الماضي، بشنِّ ضربة بالمُسيَّرات في العمق الروسي. وقد أفادت بعض التقارير الغربية أن الضربة الأوكرانية دمَّرت أو عطَّلت أكثر من 40 طائرة عسكرية روسية في قواعد جوية متعددة.
وتضمَّنت العملية عشرات المُسيَّرات وضربات متزامنة لأهداف عسكرية حيوية في روسيا. ووفقا للخطاب المُسجَّل الذي أذاعه الرئيس الأوكراني زيلينسكي في أعقاب الهجوم، استُخدمت 117 مُسيَّرة في العملية، وأصابت نحو 34% من حاملات صواريخ كروز الإستراتيجية الروسية في المطارات والقواعد المستهدفة.
بالإضافة إلى استخدام المُسيَّرات، شيَّدت أوكرانيا تحصينات ميدانية قوية كانت من أهم أسباب بُطء التقدم الروسي، وهي ليست تحصينات عشوائية، بل تعتمد على مفهوم عسكري قديم يُعرف بـ"الدفاع في العمق"، وهو نظام دفاعي يقوم على عدة طبقات متتالية من التحصينات، بحيث إذا تمكَّن العدو من اختراق أول خط، فإنه يجد نفسه في مواجهة خط ثانٍ وثالث، وهكذا، مما يستهلك وقته وموارده ويُعرِّضه لنيران مستمرة من عدة اتجاهات.
وقد زرعت أوكرانيا كميات ضخمة من الألغام المضادة للأفراد والألغام المضادة للدبابات في المناطق التي تتوقع أن تتقدم منها القوات الروسية، وهي ألغام تُخفَى تحت الأرض ولا يمكن رؤيتها بسهولة، وعند ملامستها تنفجر، مما يؤدي إلى تدمير المركبات والدبابات، وقتل أو جرح الجنود، وإجبار القوات الروسية على التوقف أو الالتفاف، مما يزيد من بطء الزحف الروسي. أما إذا حاولت القوات الروسية إزالة الألغام، فإنها سرعان ما تُستهدف بواسطة المُسيَّرات.
علاوة على ذلك، بُنيَت عوائق مضادة للدبابات مثل أسنان التنين، وهي كتل خرسانية كبيرة هرمية الشكل ويبلغ طولها أكثر من متر، وتُوضَع في صفوف تعوق تقدُّم الدبابات، وتُجبرها على المرور عبر ممرات مُحدَّدة سلفا، وهي ممرات غالبا ما تكون مغطاة بالألغام أو تقود نحو كمائن نارية. وقد حفر الأوكرانيون خنادق طويلة للجنود تحميهم من القصف وتُمكِّنهم من الحركة بأمان نسبي، كما أن بعض الخنادق متصلة بأنفاق تؤدي إلى مواقع خلفية أو مخازن ذخيرة.
من منظور عسكري أوسع، يُسلط انتشار المُسيَّرات والدفاعات القوية في أوكرانيا الضوء على نقطة رئيسية، وهي أن الهجوم مهما كان كبيرا، سواء من حيث عدد الجنود أو عدد الآليات العسكرية، فإنه يظل مُقيَّدا بالبيئة التي يتحرَّك فيها على خطوط المواجهة، إذ إن الحلول الرخيصة نسبيا، مثل المُسيَّرات وخطوط الدفاع، مرسومة بناء على معلومات دقيقة، ويُمكنها إبطاء الخصوم، بل وتحويل المعركة إلى حرب استنزاف باهظة الثمن وطويلة الأمد بشكل لم يكُن في حسبان القوة الغازية، وهو درس تتعلمه الآن كل جيوش العالم بينما تشاهد ما يجري في أوكرانيا، بما في ذلك الجيش الروسي نفسه، وهو جيش يتجاوب مع تحوُّلات المعركة رغم كل شيء، ويحاول الابتكار من أجل التقدُّم ولو ببطء.
تُسلِّط هذه التطورات الضوء على بعض المشكلات "التكتيكية" المعقدة التي تواجهها موسكو في ساحة المعركة الأوكرانية. ولا تكمن مشكلة روسيا في أنها أخطأت تقدير نِيَّات الأوكرانيين في عملية استثنائية واحدة فحسب، بل وفي سوء التقدير والتجاهل المتكرر لنقاط قوة الأوكرانيين في الحرب، والتعامل معها على أنها "طفرات مؤقتة".
فبحلول منتصف عام 2022، كانت أجزاء كبيرة من شرق أوكرانيا وجنوبها تحت سيطرة روسيا، ومنها بلدة خاركيف، القريبة من الحدود الروسية وذات الأهمية الإستراتيجية الكبيرة، ولذلك كانت استعادة خاركيف هدفا أساسيا بالنسبة إلى كييف.
وفي سبتمبر/أيلول من العام نفسه، شنَّ الأوكرانيون هجوما مضادا سريعا تمددت أثناءه القوات بسرعة إلى داخل خاركيف، مستغلةً نقاط الضعف في الخطوط الروسية، واستعادت أراضي شاسعة وقتها، في عملية استُلهِمَت جزئيا من تكتيكات "الحرب الخاطفة".
وعلى المنوال نفسه، يُنظَر إلى هجوم خيرسون، الذي شنَّته القوات الأوكرانية في أواخر عام 2022 لاستعادة منطقة خيرسون جنوبي أوكرانيا، القريبة من شبه جزيرة القرم والبحر الأسود، على أنه هجوم حَمَل بعض بصمات الحرب الخاطفة.
إعلانفي كلتا المعركتين، كان تقدُّم الأوكرانيين سريعا وحاسما، ويبدو أن التكتيك نفسه استُخدم أثناء الاستيلاء الأوكراني على كورسك. فقد بدأت الأمور بحرب خاطفة إلكترونية، حيث أسقط الأوكرانيون المُسيَّرات الروسية المسؤولة عن الاستطلاع والمراقبة، ويُعتقد أن ذلك حدث عن طريق مُسيَّرات اعتراضية جديدة متصلة إلكترونيا برادار الدفاع الجوي.
ثم أدخل الأوكرانيون أجهزة تشويش قصيرة المدى إلى الخط الأمامي كي تستمر عملية التعتيم لأطول فترة ممكنة، وجرت برمجة هذه الأجهزة ببيانات جُمِعَت مسبقا عبر وحدات استطلاع الحرب الإلكترونية.
نتيجة لذلك، توقَّف تماما عمل المُسيَّرات الروسية المستخدمة لتحديد الأهداف وتوجيه المدفعية، وهي مُسيَّرات لعبت دورا محوريا في نجاح المدفعية الروسية سابقا، فكانت تُحدِّد الهدف بدقة بحيث تُضبَط المدفعية والأسلحة الأخرى باتجاهه، كما تشير بعض التقارير إلى أن لها الفضل في تدمير قرابة ثُلثَيْ الدبابات التي فقدتها كييف في الحرب.
الآن، ومع تحييد المدفعية الروسية بطمس أهدافها، دخلت أسراب المُسيَّرات الأوكرانية وضربت بدقة وكثافة الدفاعات المستقرة في كورسك، بما في ذلك الخنادق الأرضية المُحصَّنة، وبعد ذلك تقدَّمت القوات البرية لمسافة آمنة عبر الأرض التي أمَّنتها للتو، وأحضرت معها أجهزة التشويش، ثم بدأت العملية الخاطفة نفسها من جديد، فاستمر التقدُّم للأمام عبر التكتيك نفسه.
تنتمي كل هذه التكتيكات الحربية الأوكرانية إلى ما يُعرف بـ"الحرب الهجينة"، وهو أمر لم تتوقعه القوات الروسية على الأرجح، حيث إنها نوع من الحرب لم تتجهز لها روسيا بالكامل، في حين تجهَّزت لحرب نظامية معتادة مع كييف.
وتوظِّف الحروب الهجينة مزيجا من القوات والأدوات النظامية المعروفة (جنود ودبابات ومدفعية وطيران) إلى جانب تكتيكات الحرب غير النظامية، مثل حروب العصابات، وعمليات الكر والفر، ونصب الكمائن، وتخريب البنية التحتية مثل الجسور والسكك الحديدية، والاغتيالات. وتستخدم كييف تكتيكات الحرب الهجينة لتقليص فارق القوة مع القوات الروسية الأكبر والأكثر تجهيزا، مستفيدةً من تبادل المعلومات الاستخبارية مع القوى الغربية.
الغرب في قلب المعركةإن الدور الذي لعبته تقنيات المراقبة والاستطلاع والاستخبارات يفتح الباب لفهم أحد أهم أسباب إبطاء الحرب، وهي أن روسيا في الواقع لا تحارب أوكرانيا فحسب، بل تحارب من ورائها الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا في النهاية.
فمنذ عام 2022، قدمت الولايات المتحدة ودول أوروبا عشرات المليارات من الدولارات من الأسلحة والذخائر والتدريب للقوات الأوكرانية.
ويتراوح ذلك بين الأسلحة المتطورة المضادة للدبابات، مثل صواريخ جافلين التي صدَّت الهجمات المدرعة، وأنظمة إطلاق النار الدقيقة بعيدة المدى، مثل قاذفات صواريخ هيمارس التي استهدفت مستودعات الإمدادات الروسية، والدفاعات الجوية المتطورة، مثل بطاريات باتريوت وناسامز التي تحمي الآن المدن الأوكرانية من الصواريخ.
لكن العامل الصامت "المُضاعِف للقوة" في هذا السياق كان تبادل المعلومات الاستخباراتية مع الغرب، حيث تُزوِّد الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) أوكرانيا بصور الأقمار الصناعية في الوقت الفعلي، ونتائج اعتراض الاتصالات والموجات اللاسلكية، ورصد شبكات الهاتف والإنترنت والاتصالات العسكرية، وبيانات الطيران والمراقبة من الطائرات الاستطلاعية فوق البحر الأسود أو على حدود أوكرانيا.
يمنح ذلك الجيش الأوكراني القدرة على معرفة مكان خصومه بدقة وفي الوقت الحقيقي، وعندما يتحرك رتل عسكري روسي أو تنقل روسيا معدات إلى جبهة معينة، يمكن للأقمار الصناعية الغربية كشف ذلك. وتصل هذه المعلومات إلى القيادة الأوكرانية في غضون دقائق، فيستعدون للهجوم أو للكمين.
وبدلا من أن يعتمد الجيش الأوكراني على المُسيَّرات وحدها أو الرصد المباشر، فإنه يحصل على صورة دينامية ثلاثية الأبعاد للميدان، مما يجعل التخطيط أكثر فاعلية ويُقلل من المفاجآت.
يساعد ذلك أيضا في تحديد الأهداف عالية القيمة بدقة، مثل مراكز القيادة الروسية، ومخازن الذخيرة، والرادارات، ومنظومات الدفاع الجوي، وحتى السفن. وأشهر مثال على ذلك هو غرق الطراد الروسي "موسكفا" في أبريل/نيسان 2022، حين أطلق الأوكرانيون صواريخ "نِبتون" محلية الصنع، لكن المكان الدقيق للطراد في البحر الأسود، ومسار حركته، كان قد حُدِّد عبر الأقمار الصناعية الأميركية.
وفي كل مرة صعَّدت فيها روسيا (باستخدام مُسيَّرات "شاهد" الإيرانية مثلا)، رد الغرب بتزويد أوكرانيا بأدوات للمواجهة (مثل الأنظمة المضادة للمُسيَّرات والرادارات).
إن إدراك الأوكرانيين وجود حلفاء أقوياء وراءهم يشجعهم بالطبع على الاستمرار في الحرب، وعلى العكس من ذلك، تُدرك القوات الروسية أنها لا تواجه جارا ضعيفا، بل تواجه خصما مُسلحا جيدا بمعدات غربية متطورة، وهو بُعد نفسي تسبَّب في تراجع الروس عن هدف إرهاق أوكرانيا أو احتلالها بالكامل.
والواقع أن هذه المعركة، في جانب كبير منها، تُعَد معركة على "جدوى المساعدات الغربية"، ففي حال تكبَّدت أوكرانيا خسائر فادحة، فقد يتراجع الدعم الغربي، فلا أحد يرغب في دعم قضية خاسرة، وهو ما يُفسِّر دأب الأوكرانيين في استغلال الدعم الغربي بكل الوسائل المُمكنة.
علاوة على كل ذلك، يأتي ملف العقوبات الاقتصادية على روسيا، التي لم تُوقِف الحرب، لكنها قيَّدت المجهود الحربي الروسي إلى حدٍّ كبير. وقد استهدفت هذه العقوبات كل شيء، من البنوك الروسية وصادرات النفط إلى سلاسل التوريد العسكرية.
على سبيل المثال، أعلنت الدول الغربية ضوابط تصدير أشباه الموصلات وغيرها من المكونات عالية التقنية إلى روسيا، ومن ثمَّ أجبرتها على البحث عن بدائل رديئة لمعداتها العسكرية، مثل إزالة الرقاقات الدقيقة من الأجهزة المنزلية لاستخدامها في أنظمة استهداف الدبابات، كما اضطر الإنتاج الدفاعي الروسي إلى اعتماد تصاميم قديمة لا تحتاج إلى رقاقات مُستوردة، أو تبسيط التصاميم الأحدث.
مع مرور الوقت، يُضعِف هذا من جودة الترسانة الروسية. وقد شهد المراقبون بالفعل سحب روسيا دبابات "تي-62" من حقبة الستينيات من مخازنها لتعويض خسائرها في الخطوط الأمامية عام 2023، وحتى مدافع الهاوتزر السوفياتية القديمة بدأت تظهر في المقدمة. لذا، خلق الدعم العسكري والاقتصادي الغربي حرب صمود لم تتوقعها روسيا، ويبدو أن بوتين افترض عام 2022 حين غزا أوكرانيا أن حلف الناتو سيكون منقسما أو مترددا في تسليح أوكرانيا، أو أن العقوبات ستكون فاترة.
يعمل الجيش الروسي حاليا على زيادة مهاراته وقدرته على الاستجابة والتكيُّف مع نقاط الضعف التي كشفت عنها الحرب، حيث تُكثِّف موسكو جهودها لمنع الولايات المتحدة والغرب من دعم أوكرانيا بأسلحة ذات مدى أوسع، وفي الوقت نفسه ضبط التقدُّم الشرقي لخصمها ومحاولة عكسه في أقرب فترة ممكنة.
وستتعامل موسكو بجدية أكبر مع الجيش الأوكراني عبر حِرمانه من مكامن قوته ومحاولة استكشاف نقاط ضعفه الحقيقية التي أظهرتها الشهور الماضية، وعلى رأسها محدودية تأثير القوة الجوية.
فحتى مع وصول إمدادات "إف-16" الأميركية، حافظت روسيا على قوة جوية أكثر تقدما، ورغم وصول أنظمة الدفاع الجوي الغربية إلى كييف، فإنها لا تزال تواجه تحدي تأمين مجالها الجوي بالكامل ضد الصواريخ والمُسيَّرات الروسية.
أضف إلى ذلك أن الحفاظ على خطوط الإمداد للذخيرة والوقود بات تحديا صعبا بالنسبة لأوكرانيا، لا سيَّما في المناطق المتنازع عليها. وفي ظل نقص القوى العسكرية العاملة، يظل الحفاظ على القتال المكثف لفترة طويلة أمرا مرهقا للأوكرانيين، خاصة مع الخسائر المستمرة للأفراد ذوي الخبرة.
ويزداد الوضع صعوبة مع اضطرار الأوكرانيين للدفاع بطول خط مواجهة كبير وممتد، مما يتطلَّب موارد واسعة، ويجعل من الصعب تركيز القوات في مكان واحد، ومن ثمَّ يجعل بعض المناطق عُرضة للخطر.
في عام 2024، أطاح الرئيس بوتين بوزير الدفاع سيرغي شويغو، وقد خلفه أندريه بيلوسوف، الذي يعتقد أن لديه خلفية أفضل في إدارة الموارد لمعركة طويلة الأمد، وفي المقابل، حلَّ شويغو محل نيكولاي باتروشيف رئيسا لمجلس الأمن، الذي يُشرف على أجهزة الاستخبارات الروسية.
التعديلات في القيادة الروسية، واستبدال وزير الدفاع، تشير إلى استعداد لحرب طويلة. روسيا تسعى الآن لتقليص أهدافها إلى السيطرة الكاملة على دونيتسك ودونباس، وتأمين الجنوب، مع مواصلة البحث عن نقاط ضعف أوكرانية، خصوصاً في الإمدادات والقدرة الجوية. ويتعيَّن على روسيا أيضا بذل جهد أكبر لإصلاح وضعها الداخلي.
مهَّد هذا التعديل الطريق لحرب استنزاف طويلة في أوكرانيا، إذ يحاول الفريق الجديد ضبط الاقتصاد ليعمل بحالة من التوازن مع استمرار الحرب.
وإذا كانت نقطة قوة كييف هي تعديل بيئة المعركة ومن ثمَّ إبطاء التقدم الروسي، فإن الأخير لا يزال يتقدم ويتكيَّف هو الآخر، وبما أن الحروب ليست خطية، فلعل منعطفا قادما مثل سقوط إحدى المدن الكبرى يقلب الموازين ويُسرِّع من وتيرة تقدم الروس من جديد.
وتبقى الحروب على إطلاقها لعبة زمن ومسافة. ففي فردان قبل قرن، كان ثمن المتر مئات الأرواح، واليوم، في سهول أوكرانيا، لا يزال المتر نفسه يكلف مئات الأرواح.
قد لا يتذكر التاريخ عدد الأمتار التي أحرزتها موسكو أو كييف في صيف 2025، لكن الجنود الذين عاشوا تحت طنين المسيّرات وأزيز المدفعية، سيذكرون أنهم كانوا يقيسون أيامهم بعدد الأمتار التي تقدموها والخطوات التي لم يقطعوها.