الرد على مقال صديق الزيلعي: أزمة الفكر أم أزمة التنظيم؟
تاريخ النشر: 30th, November 2024 GMT
دكتور هشام عثمان
في مقاله الأخير، أثار الأستاذ صديق الزيلعي العديد من القضايا التي تمس الحزب الشيوعي السوداني، مشيرًا إلى ما وصفه بالأزمات الفكرية والتنظيمية التي يعاني منها الحزب. لكن المقال، بدلاً من أن يكون تحليلًا موضوعيًا بناءً، انطوى على الكثير من التجني والمغالطات التي تستوجب الرد والتوضيح. في هذا المقال، سأناقش أبرز النقاط التي طرحها الزيلعي، وأبين كيف أن رؤيته تنطلق من قراءة سطحية ومغلوطة لطبيعة الحزب ودوره التاريخي والحالي.
هل دعا الاستاذ السر بابو إلى تصفية المخالفين؟
ادعى الزيلعي أن الكاتب "السر بابو" يدعوه للخروج من الحزب وتأسيس حزب اشتراكي جديد، واصفًا ذلك بالدعوة للتصفية الفكرية والتنظيمية. ولكن، وفق لوائح الحزب الشيوعي منذ تأسيسه وحتى المؤتمر السادس، يحق للأقلية الاحتفاظ بآرائها مع الالتزام بقرارات الأغلبية، في إطار المركزية الديمقراطية التي تحكم عمل الحزب. دعوة "السر" ليست دعوة للتصفية بقدر ما هي تعبير عن موقف تنظيمي وفكري يرى أن أطروحات الزيلعي لا تنسجم مع خط الحزب الفكري والتنظيمي، وبالتالي فإن تأسيس إطار تنظيمي مستقل قد يكون أكثر توافقًا مع قناعاته.
قداسة النصوص أم الالتزام بالمنهج العلمي؟
اتهم الزيلعي بعض كوادر الحزب بتقديس نصوص ماركس ولينين، مدعيًا أنهم يتعاملون مع أفكار كتبت قبل قرنين كما لو كانت حلولًا جاهزة لكل قضية. هذا الاتهام يعكس فهمًا مشوهًا لطبيعة الماركسية، التي هي ليست مجموعة نصوص مقدسة، بل منهج علمي لتحليل الواقع وتغييره.
إن النصوص الكلاسيكية لماركس وإنجلز ولينين ليست جامدة، بل تشكل أساسًا فكريًا يمكن تطويره. وهذا ما يفعله الحزب الشيوعي السوداني منذ نشأته، حيث كان دائمًا في طليعة القوى التي تتفاعل مع خصوصية الواقع السوداني، مما يتجلى في برامجه ونضالاته الشعبية.
الحزب الشيوعي والتجديد الفكري
يدعي الزيلعي أن الحزب عاجز عن مواكبة التغيرات العاصفة التي شهدها العالم في القرن الماضي، وهو ادعاء مردود عليه. فالحزب الشيوعي السوداني كان دائمًا منفتحًا على التطورات الفكرية، وتجلى ذلك في نقاشاته الداخلية، خاصة خلال المؤتمر السادس، حيث جرت مراجعات عميقة لتجارب الحزب وبرامجه.
التجديد لا يعني التخلي عن الأسس الفكرية أو تبني أفكار من خارج السياق الماركسي، بل يعني تطوير أدوات التحليل والممارسة بما يتماشى مع الواقع المتغير. اجتهادات الزيلعي الفكرية، رغم أهميتها، لا تعني بالضرورة أنها أكثر تقدمًا أو تطورًا من أدبيات الحزب.
"النظرية رمادية وشجرة الحياة خضراء"؟
اقتباس الزيلعي لعبارة غوته قد يبدو جذابًا، لكنه يُستخدم هنا لتشويه أهمية النظرية. النظرية الماركسية ليست رمادية إذا كانت قادرة على تقديم تحليل عميق للواقع وإيجاد حلول علمية للتحديات.
تجاهل النظرية لصالح ما يسميه البعض "الواقعية المفرطة" يؤدي إلى ضبابية فكرية. النظرية هي البوصلة التي تنير الطريق، ولا يمكن فصلها عن الممارسة السياسية والاجتماعية.
الانكفاء على النصوص: هل هو حقيقة؟
الزيلعي يتهم الحزب بالانكفاء على النصوص القديمة، متجاهلًا حقيقة أن الحزب قاد نضالات جماهيرية واسعة في السودان، وكان دائمًا في طليعة القوى الديمقراطية. الحزب لا ينكفئ على النصوص، بل يستخدمها كأدوات لتحليل الواقع السوداني وتطوير برامجه السياسية.
النصوص الكلاسيكية ليست قيودًا بل أدوات تُكيف وفقًا للواقع. الحزب الشيوعي كان دائمًا مثالًا على هذا التفاعل بين النظرية والممارسة.
دعوة للحوار البناء
المقال يعكس أزمة فكرية أكثر من كونه نقدًا موضوعيًا. كان من الأفضل للزيلعي أن يطرح اعتراضاته داخل الأطر التنظيمية للحزب بدلًا من التشهير العلني الذي لا يخدم إلا أعداء الحركة التقدمية. الحزب الشيوعي السوداني يتبنى نهجًا ديمقراطيًا يسمح بالنقاشات الفكرية، لكنه لا يقبل تحويل هذه النقاشات إلى معاول هدم للوحدة التنظيمية.
خاتمة: تحديات اليسار ومستقبل الحزب
اليسار في السودان، كما أشار الزيلعي، يواجه تحديات كبيرة. لكن هذه التحديات تتطلب من الجميع فتح العقول للأفكار الجديدة مع الالتزام بالمنهج الماركسي الذي أثبت جدارته عبر الزمن. الانكفاء على النصوص ليس خيارًا، لكن التخلي عنها أو تشويهها ليس حلًا أيضًا.
الحزب الشيوعي السوداني يقف في مفترق طرق، لكنه يظل متماسكًا بأفكاره وقاعدته الشعبية، وسيظل رائدًا في تقديم الحلول لقضايا الشعب السوداني، بعيدًا عن المهاترات والانقسامات.
hishamosman315@gmail.com
دكتور هشام عثمان
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الحزب الشیوعی السودانی على النصوص کان دائم ا
إقرأ أيضاً:
العمل السياسي: من تأسيس التنظيم إلى تأسيس البودكاست
ما لفتَ نظري لكتابة هذا المقال، أني، ومنذ السابع من أكتوبر، قد شاهدت كثيرا من حلقات البودكاست التي تروي التجارب التاريخية والأيديولوجية في العمل التنظيمي للحركات والأحزاب السياسية، في مصر ولبنان وسوريا والأردن وفلسطين وغيرها من بلدان منطقتنا العربية. وهنا المقال ليس نقدا لصناعة المرئيات وفي قلبها البودكاست، بل هو محاولة لسؤالك هل انتقلنا من زمن الفعل السياسي لزمن الحكي السياسي؟
منذ بضع سنوات أصدر المركز العربي لدراسة السياسات والأبحاث سلسلة "مذكرات"، وهي تعنى بنشر وتحرير ونقل تجارب شخصيات تاريخية ومعاصرة نظموا وشاركوا في العمل السياسي والفكري والعسكري. أيضا، منذ سنوات، برنامج بذات الاسم "مذكرات" على قناة العربي يتناول سير أهم الشخصيات السياسية والفكرية والرسمية الذين تركوا أثرا في تاريخ المنطقة العربية، مثل أبي ماهر اليماني، شفيق الحوت، فاروق الشرع، على القزق، دلال بزري، جورج حبش، كمال عدوان، وغيرهم من شخصيات عاشت ورحلت بتاريخ وأحداث مثيرة غير عادية.
الاطلاع على ما في داخل هذه المذكرات فضلا عن الأحداث المعقدة؛ تعطيك إدراكا أوسع لفهم حجم التفاصيل التي مرَّ بها التاريخ السياسي والفكري للمنطقة العربية في القرن الماضي، لا سيما النصف الثاني منه، هذا بجانب إدراك المجهود الكبير الذي بُذل في تأسيس العمل السياسي بما يشمل من تدوين فكري مُتباين، ومختلف عليه، ما يُؤسس فيما بعد لعمليات انشقاق وتأسيس تنظيمات جديدة. أيضا توضح لك تفاصيل الأحداث، كما في مذكرات السياسي الفلسطيني شفيق الحوت، كيف ساعد عمل التنظيمات غير المهني؛ لماذا في وقتنا الحالي لا نفكر في إعادة تأسيس تنظيمات سياسية أخرى، نعمل من خلالها لتحقيق مفاهيم الحرية والتحرر، ونتعلم مِن أخطاء مَن سبقونا؟ ولماذا صِرنا نكتفي بقراءة الماضي وسرده في برامج البودكاست وكتابة المقالات دون أن نمارس السياسة في حاضرنا؟من حيث توظيف الكفاءات والاستفراد بالقرار السياسي وعدم وجود الشفافية، إلى انحدار هذه التنظيمات وموتها تدريجيا بفعل عدم قدرتها على التعاطي مع التغيرات الداخلية والخارجية، مستحضرا حركة فتح كمثال قوي على هذا الانحدار.
كذلك في حوارات جورج حبش التي صدرت العام الماضي، بتحرير الباحث والكاتب الفلسطيني صقر أبو فخر، حيث يجيب "الحكيم" على عشرات الأسئلة التي وُجهت له من قبل المناضَلين الراحلَين شريف الحسين وسائدة الأسمر. من إجابات حبش، نفهم حجم الصعوبات التاريخية التي تأسست عليها هذه التنظيمات، وحجم المعاناة التي خاضتها قادة هذه الحركات من أجل تحقيق أهدافها، سواء معاناة الحشد والاستقطاب وجمع الأموال والسلاح والتنسيق والتخطيط والتحالفات مع الأنظمة البعثية والقومية، مثل نظاميَّ سوريا الأسد ومصر عبد الناصر.
مع كل هذه الكواليس التي أقرأها، وأحاول من خلالها فهم كيف كانت تتأسس وتعمل التنظيمات وسط مناخ فكري نشِط، أتساءل: لماذا في وقتنا الحالي لا نفكر في إعادة تأسيس تنظيمات سياسية أخرى، نعمل من خلالها لتحقيق مفاهيم الحرية والتحرر، ونتعلم مِن أخطاء مَن سبقونا؟ ولماذا صِرنا نكتفي بقراءة الماضي وسرده في برامج البودكاست وكتابة المقالات دون أن نمارس السياسة في حاضرنا؟
والإجابة على أسئلة مثل هذه تتطلب طرح أسباب وقراءات ورؤى كثيرة، لكني هنا أود ذكر بضعة أسباب رئيسية بإيجاز؛ وهي أن واقع الأنظمة العربية وقتها سمح بتأسيس هذه التنظيمات لأسباب متباينة. لبنان كان ساحة سياسية لهذا التأسيس، ومن ثم قابلية أنظمة مصر وسوريا والأردن والعراق، والكويت من بعدها، ولم يكن لديها مانع في وجود بعض هذه التنظيمات حتى لو حاربت وجودها فيما بعد، فكانت أنظمة برغم استبدادها تحمل أيديولوجيات "تحرّرية"، وإن كانت شكلية في الممارسة. أما الأنظمة الحالية، فهي أنظمة قمعية تحظر الجماعات والتنظيمات وتنشئ وتترك الأحزاب المؤيدة لها كي تصفق لها في البرلمانات على التعديلات الدستورية فحسب، كما أنها لا تحمل أي أيديولوجيات، بل هي أنظمة ترعى بيدها الأمنية قوى النيوليبرالية وسردياتها المُتجددة من أجل السوق والربح.
نعيش في حالة صراع قوي مع كل المنظومات التي تُدير حياتنا والتي تُبعدنا عن العمل السياسي، بشكل مباشر قمعي أو غير مباشر، رمزي ومفاهيمي. لكن الجزم بأن حالة الموات السياسي مستمرة لزمن طويل ليس حتميا، بل هي حالة ظرفية، ربما تطول وتقصر حسب التغيرات التي تمر بها الحالات الاجتماعية والفكرية للشعوب العربية
من جانب آخر، نحن في عصر الإعلام الرقمي، الصورة والفيديو وكافة أشكال الظهور المرئي. هذا العصر وفَّر فضاءات كثيرة للوجود والشهرة، أي نيل الاعتراف، والكلام عن السياسة لا العمل من أجلها، فضلا عن التربّح المالي سواء الذي توفره المؤسسة لمقدّمي المحتوى أو حتى الذي توفره المنصات ذاتها مثل فيسبوك ويوتيوب وغيرهما بسبب المشاهدات. الآن، الكلام عن السياسة، في أحايين، يجلب الراحة من حيث الوجود والاعتراف والمال، عكس العمل من أجلها، فالثاني يجلب المتاعب والسجون وكل تمثلات العذاب، الأول يتطلب الظهور والثاني يتطلب الخفاء، وربما لم يعد كثيرا يتحمّل مشقَّات القهر والقمع.
هنا أيضا، يجب فهم أن الشعوب العربية، بما فيها من نخب ثقافية وصحافية وسياسية وغيرها ممن عملت في الشأن العام، هي نخب مُنهكة، فقد طالها القمع في الميادين والسجون والمنافي، من ستينات القرن الماضي وصولا إلى ثورات الربيع العربي، وربما لم تعد هذه الأجيال قادرة على المواجهة وبناء الفعل السياسي ذاته، على قدر ما هي قادرة عن الكلام واسترجاعه وغير ذلك.
من هنا، ربما نحاول أن نرى أو نستشرف الماهية السياسة للأجيال القادمة في منطقتنا العربية، والتي لم تتعرض لتجارب قمعية استطاعت تذويب واستنفاد طاقتها في العمل والبناء، لكنها أجيال نشأت في حرب مع أنظمة وسرديات ليست قمعية بالمعنى المباشر، بل سرديات تمتلك عنفا رمزيا، غير مرئي، عنفا أيديولوجيا متمثلا في مفاهيم صاعدة جديدة ترعاها منظومات اقتصادية وتقنية وثقافية تحاول القضاء على العمل السياسي، والتفرغ فقط للعمل من أجل ظهور الذات فحسب؛ راحتها وتلميعها وشهرتها وفردانيتها وابتعادها عن كل ما يمثل الآخر من أفراد أو تنظيمات.
نحن نعيش في حالة صراع قوي مع كل المنظومات التي تُدير حياتنا والتي تُبعدنا عن العمل السياسي، بشكل مباشر قمعي أو غير مباشر، رمزي ومفاهيمي. لكن الجزم بأن حالة الموات السياسي مستمرة لزمن طويل ليس حتميا، بل هي حالة ظرفية، ربما تطول وتقصر حسب التغيرات التي تمر بها الحالات الاجتماعية والفكرية للشعوب العربية، فكل عقد يختلف عن سابقه، من حيث تطورات وتغيّرات المفاهيم والتمثلات للمجتمعات. ربما في سنوات قادمة، ننتقل أو نحاول العمل السياسي مع الكلام في تاريخ السياسة ذاتها، فيكون الوعي والعمل، البودكاست والتنظيم، أدوات وفضاءات مشتركة تُكمل بعضها نحو تحقيق مزيد من الحرية والكرامة والمساواة والعدالة لمنطقتنا العربية.