من الرباعية إلى الحوار المباشر: التحول الأمريكي وتراجع الدور الإماراتي في الملف السوداني
مدخل:
بالأمس كتبتُ مقارنة تحليلية بين السودان والإمارات، خلصت فيها إلى أن المستقبل – رغم كل ما يمر به السودان من تحديات – سيكون للدولة صاحبة التاريخ العميق، والموقع الاستراتيجي الحاكم، والموارد الكامنة التي لم تُستثمر بعد.


وفي اليوم ذاته، خرجت أنباء عن لقاء سوداني–أمريكي، تم بطلب من الولايات المتحدة، جرى فيه رسم الخطوط العريضة لمسار جديد للعلاقات بين البلدين، وانتهى بإعلان واشنطن رغبتها في استعادة العلاقات المباشرة مع الخرطوم، وإعادة التنسيق في ملف مكافحة الإرهاب.
هذا التطور لم يكن مجرد خبر دبلوماسي عابر، بل يمثل تحولًا في معادلة إدارة الملف السوداني إقليميًا ودوليًا.
متن:
خلفيات إلغاء اجتماع الرباعية
كان من المقرر أن تستضيف واشنطن في 29 يوليو 2025 اجتماعًا لـ”الرباعية حول السودان” بمشاركة الولايات المتحدة، السعودية، الإمارات، والمملكة المتحدة، لمناقشة مسار السلام في السودان.
لكن قبل أيام قليلة من موعده، ألغت وزارة الخارجية الأمريكية الاجتماع بشكل مفاجئ، وهو ما اعتبر إشارة أولى على تغير المزاج السياسي في واشنطن تجاه آلية الرباعية.
من خلال تتبع سياق الأحداث، يمكن رصد ثلاثة دوافع رئيسية:
1. انعدام الجدوى العملية للوساطة الجماعية
تجربة الشهور الماضية أثبتت أن تعدد الأطراف الوسيطة أدى إلى بطء شديد في اتخاذ القرارات، وتضارب في أولويات الأعضاء، ما جعل الوصول إلى اتفاقات حقيقية أمرًا شبه مستحيل.
2. تنامي الشكوك في دور بعض الوسطاء
تقارير غربية وأفريقية أشارت إلى أن بعض القوى المشاركة في الرباعية – وعلى رأسها الإمارات – لم تكن محايدة بالكامل، بل دعمت أطرافًا بعينها في الصراع، ما جعل دورها كوسيط موضع شك.
3. تغير الحسابات الاستراتيجية لواشنطن
في ظل احتدام التنافس الدولي على البحر الأحمر والقرن الإفريقي، رأت الولايات المتحدة أن التحرك المباشر مع السودان يحقق نتائج أسرع، ويمنحها قدرة أكبر على ضبط إيقاع الأحداث دون وسطاء.
بعد أسبوعين فقط من الإلغاء، ظهر المبعوث الأمريكي في لقاء مباشر مع قائد الجيش السوداني في 12 أغسطس، ما أكد أن المسار الجديد قد تم تفعيله بالفعل.
أولاً: سقوط معادلة الوسطاء
لسنوات، أُديرت قضايا السودان عبر وسطاء إقليميين أو صيغ جماعية مثل “الرباعية” و”الخماسية”، وكانت الإمارات أحد أهم هذه الممرات الإلزامية لأي تحرك دولي تجاه الخرطوم.
لكن التحرك الأمريكي الأخير يشير بوضوح إلى أن واشنطن لم تعد ترى جدوى في الاعتماد على قنوات وسيطة. المرحلة الجديدة عنوانها: التعامل المباشر مع السودان.
ثانياً: ترقية السودان في التصنيف السياسي
اللقاء المباشر لم يكن في سياق إنساني أو لبحث هدنة مؤقتة، بل تناول ملفات استراتيجية، على رأسها الأمن ومكافحة الإرهاب. هذه طبيعة حوارات تُعقد مع دول الصف الأول في الإقليم، ما يعكس أن السودان بات يُعامل كفاعل سياسي إقليمي له وزنه، وليس مجرد “ملف أزمة” يحتاج لإدارة خارجية.
ثالثاً: إعادة التموضع الأمريكي في الإقليم
الولايات المتحدة تُعيد توزيع أوراقها في البحر الأحمر والقرن الإفريقي. بعد سنوات من ترك الملف السوداني تحت إدارة غير مباشرة عبر أبوظبي أو عواصم أخرى، بات واضحًا أن هذه الصيغة لم تحقق مصالح واشنطن الاستراتيجية.
الإمارات، التي بنت نفوذًا عبر الدعم العسكري والمالي لفصائل محددة، تواجه الآن انكماشًا في قدرتها على التحكم بالملف، فيما تستعيد الخرطوم مساحة أوسع للحركة والتفاوض المباشر مع القوى الكبرى.
رابعاً: التحول من الوساطة إلى التعامل المباشر – الفوارق الجوهرية
يمكن تلخيص الفوارق على النحو التالي:
– قناة الاتصال: من اجتماعات رباعية وخماسية عبر وسطاء… إلى لقاءات واتصالات مباشرة بين واشنطن والخرطوم.
– جدول الأعمال: من ملفات إنسانية وإجرائية متقطعة… إلى ملفات استراتيجية تشمل الأمن، مكافحة الإرهاب، والمسار السياسي المباشر.
– وتيرة التقدم: من بطء وتعثر بفعل تباين مواقف الوسطاء… إلى سرعة أكبر في اتخاذ القرارات المباشرة.
– موقع السودان: من “موضوع” على طاولة الوسطاء… إلى “شريك مفاوض” في موقع الندّية.
– دور الإمارات والوسطاء: من ثقل كبير وقدرة على ضبط الإيقاع… إلى انكماش واضح مع تقليص اعتماد واشنطن على قنواتهم.
خامساً: انعكاسات التحول على موازين القوى الإقليمية
1. انكماش الدور الإماراتي: فقدت أبوظبي دورها كمعبر إلزامي لأي مبادرة أمريكية تجاه السودان.
2. تعزيز استقلال القرار السوداني: الخرطوم أمام فرصة لتحديد أجندتها دون إملاءات من محاور إقليمية.
3. إعادة توزيع النفوذ: مساحات كانت تحت سيطرة لاعبين محددين قد تفتح لأطراف أخرى مثل تركيا وقطر.
سادساً: المسار المتوقع
– سياسيًا: انخراط أمريكي مباشر في القضايا السودانية الكبرى مع تراجع دور الوسطاء.
– أمنيًا: تعزيز تبادل المعلومات الأمنية والدعم في مكافحة الإرهاب.
– اقتصاديًا: احتمالات متزايدة لفتح استثمارات ومشروعات تنموية مباشرة مع السودان.
مخرج :
الانتقال من مرحلة “الرباعية والخماسية” إلى الحوار المباشر ليس تغييرًا في الشكل فقط، بل هو إعادة تعريف لموقع السودان في معادلة الإقليم.
إنها لحظة نادرة تمنح الخرطوم مساحة للتأثير وإعادة صياغة توازن القوى من موقع الشريك، لا التابع.
لكن هذه اللحظة، مثل كل الفرص التاريخية، لن تدوم إن لم تُترجم إلى مكاسب سياسية واقتصادية وأمنية مستدامة.
يبقى السؤال: هل يستثمر السودان هذه اللحظة؟

وليد محمدالمبارك احمد

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: الولایات المتحدة الملف السودانی

إقرأ أيضاً:

الوجه الآخر لحرب السودان.. مرتزقة وراء البحار

هذه ليست المرة الأولى التي يظهر فيها مقاتلون أجانب في صفوف قوات الدعم السريع، فهذه الحرب المدمرة أكبر من أن يقودها فصيل تمرد على قيادة الجيش السوداني، فقضى على بنية الدولة السودانية الحديثة التي تجاوز عمرها مائة عام. ومع مرور الأيام، بدأت تتكشف المساهمة الفعلية لدول الجوار والإقليم في حرب السودان، منذ أن أطلق الدعم السريع الطلقة الأولى في الخامس عشر من نيسان/ أبريل 2023. ولم يعد خافيا على أحد مَن هم الذين يحاربون الجيش السوداني، ولصالح مَن يفعلون ذلك.

أخطأت قوات الدعم السريع ومن يخطط لها في تقدير تكلفة الحرب بشريا وماديا، إذ ظنت قيادتها أن الاستيلاء على السلطة لن يكلف سوى بضع ساعات من الزمن، مدعومة بتعزيزات عسكرية احتياطية دفعت بها قبل ساعات من انقلابها الفاشل من خارج الخرطوم، وتمكنت حينها من الانتشار مؤقتا وعزل مقرات الجيش السوداني عن بعضها البعض داخل الخرطوم.

في المقابل، كانت خطة الجيش السوداني طويلة الأمد، وتهدف إلى استنزاف قوات النخبة المزودة بالعتاد الكافي للسيطرة على كامل السودان، فهلك الصف الأول من هذه القوات، وفتحت أبواب الاستنفار على مصراعيها لتعويض الخسائر البشرية الجسيمة.

وبحسب هذه المعطيات، غادر نائب قائد الدعم السريع، عبد الرحيم دقلو، الخرطوم مبكرا لاستنفار الحواضن الاجتماعية في دارفور وكردفان، والاستعانة بمقاتلين أجانب من دول الجوار ومناطق التداخل القبلي مع السودان، مغريا إياهم بأن منازل مواطني الخرطوم المليئة بالذهب والأموال في انتظارهم. وقد استعان الدعم السريع بوحدات متخصصة في المدفعية من جنوب السودان، وقناصين من إثيوبيا، وطيارين لأغراض الإمداد اللوجستي من كينيا، وآلاف المقاتلين في القوات البرية من تشاد وأفريقيا الوسطى وليبيا والنيجر؛ هلك معظمهم في معارك الخرطوم والجزيرة وسنار، بينما تراجع من تبقى منهم إلى دارفور للمشاركة في حصار الفاشر، التي تشهد أزمة إنسانية كارثية، حيث تمنع قوات الدعم السريع عن سكانها الطعام والدواء، رافضة كل المبادرات الإنسانية والقرارات الدولية لفك الحصار عنها.

وإذا وضعنا في الاعتبار دوافع هؤلاء المقاتلين العابرين للحدود، بجانب الارتزاق، فهناك دوافع قبلية وغيرها، لكن تدفق المرتزقة العابرين للبحار إلى السودان يكشف الوجه الآخر للحرب، إذ تُدار من قبل أطراف أكبر من تصورات قوة متمردة حديثة التكوين تخوض حربا لطمس معالم الدولة السودانية.

وعلى مدى العامين الماضيين، أثبتت تقارير ميدانية تورط مرتزقة كولومبيين في عمليات عسكرية داخل الخرطوم وخارجها، مما اضطر سفارتهم في القاهرة للاعتذار لوزارة الخارجية السودانية عن هذه التصرفات. كما شارك خبراء من أوكرانيا في تزويد وتدريب عناصر الدعم السريع على استخدام الطيران المسيَّر في هجمات انتحارية ضد منشآت مدنية وشبكات الكهرباء. إلى جانب ذلك، شارك مقاتلون من مجموعة "فاغنر" الروسية في مهام قتالية وحماية شخصيات وقيادات بارزة في قوات الدعم السريع متعددة الجنسيات.

وقد انخرط جميع هؤلاء في حرب لا دوافع لهم فيها سوى جلب المال والغنائم، ومن أجل ذلك مارسوا جرائم منظمة تمثلت في نهب البنوك والأسواق والممتلكات الخاصة والعامة، وتدمير الجامعات والمؤسسات التعليمية، وكل ما يتعلق بطمس الهوية السودانية، إضافة إلى القتل الجماعي والتعذيب والاغتصاب وانتهاكات ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بموجب القانون الدولي الإنساني.

وكشفت معارك الفاشر الأخيرة عن مشاركة مرتزقة كولومبيين في حصار المدينة واستهداف المدنيين بالقصف المدفعي، وتدريب مقاتلين، بينهم أطفال، على حرب المدن، إضافة إلى إدارتهم للعمليات الجوية في مطار نيالا، الذي تستخدمه قوات الدعم السريع كقاعدة عسكرية للإمداد العسكري وإجلاء الجرحى إلى خارج السودان، وكمنفذ جوي لحكومته الافتراضية.

كما أظهرت الهجمات الأخيرة على مدينة الفاشر تحالفا جديدا بين مليشيات قبلية ومرتزقة من وراء البحار، يمارسون القتل خارج القانون والتهجير القسري لمواطنين عزّل، وسط تجاهل المجتمع الدولي الذي لم يحرك ساكنا لفك الحصار عنهم، رغم أنهم ضحايا صراع دولي وإقليمي مستمر تجاوز مرحلة الخلاف الداخلي، وبات مهددا لأمن المنطقة بأكملها. ولا مبادرات جديدة بعد فشل الرباعية الدولية، سوى الزج بالمزيد من المرتزقة متعددي الجنسيات إلى السودان.

في المحصلة، بدأت معركة جديدة في سبيل مقاومة "الاستعمار الجديد" الذي أطل برأسه عبر مشروع رعاة الدعم السريع الرامي إلى تفتيت السودان. وقد عبّر عن ذلك اجتماع مجلس السلم والأمن الأفريقي في أديس أبابا، الذي رفض التدخلات الخارجية في السودان، وأدان الحصار المفروض على الفاشر، والمحاولات المستميتة لتقسيم البلاد ووضعها تحت الوصاية الدولية والإقليمية.

مقالات مشابهة

  • NYT: هل تستطيع أوروبا تعويض غياب الدور الأمريكي في إنهاء حرب غزة؟
  • واشنطن تصنف الانفصاليين البلوش كجماعة إرهابية والجيش الباكستاني يعلن مقتل 50 مسلحاً
  • عناوين الصحف والمواقع الإلكترونية اليوم 12 أغسطس 2025
  • توجيه عاجل من “المركزي” إلى كل البنوك السودانية
  • الوجه الآخر لحرب السودان.. مرتزقة وراء البحار
  • السوداني يستقبل لاريجاني.. على الطاولة مذكرة أمنية وتأييد للحوار الأمريكي-الإيراني
  • 4 محاور مصرية في السودان تهددها خلافات “الرباعية”
  • أكدت أن النووي «حق أصيل».. إيران: التفاوض مع واشنطن ليس تراجعاً
  • الهلال السوداني مع جاموس من جنوب السودان.. قرعة دوري أبطال أفريقيا تسفر عن مواجهات نارية للفرق العربية