محمود ربيع يكتب: تدمير الحروب للآثار وطمس هوية الشعوب.. معركة على الذاكرة الثقافية
تاريخ النشر: 14th, December 2024 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
لطالما كانت الحروب مصدرًا للدمار، ليس فقط فى الأرواح والممتلكات، ولكن أيضًا فى الثقافة والتراث، ففى خضم الصراعات الدموية، لا يقتصر أثر الحرب على القتل والتشريد فحسب، بل يمتد ليطال الهوية الثقافية لشعوب بأكملها، حيث يتعرض التراث الثقافى الذى يشكل جزءًا لا يتجزأ من تاريخ وهوية الشعوب، للتدمير المتعمد أو الإهمال خلال الحروب، مما يؤدى إلى خسارة لا يمكن تعويضها ليس فقط للبلدان المتأثرة، بل أيضًا للإنسانية جمعاء.
فى العصر الحديث، أصبح تدمير التراث الثقافى إحدى الأدوات التى تستخدمها الأطراف المتصارعة فى الحروب لتقويض هوية الأمم المستهدفة ولم يعد الأمر مقصورًا على القتل والتدمير المادي، بل أصبح أيضًا حربًا على الذاكرة، والتاريخ، والانتماء من خلال تدمير الآثار والمعالم الثقافية، يتم مسح جزء كبير من تاريخ الشعوب، مما يسهل إعادة كتابة التاريخ وصياغة هويات جديدة قد تتوافق مع رغبات القوى المسيطرة.
الحروب لا تقتصر على معركة فى الجبهات الأمامية فحسب، بل تشمل أيضًا معركة على الأرضية الثقافية، حيث تصبح المعابد، المكتبات، المساجد، الكنائس، والمزارات، أهدافًا عسكرية تستهدف التدمير فى العديد من الأحيان، يرافق التدمير عمليات نهب لأثمن القطع التاريخية، مما يضاعف من حجم الخسارة المادية والمعنوية، ففى سوريا على سبيل المثال، تعرضت العديد من المواقع التاريخية لدمار هائل خلال الحرب الأهلية، حيث تم تدمير آثار تدمر التاريخية والمكتبات العامة، ما أثر على تاريخ مدينة كانت واحدة من أعظم العواصم الثقافية فى العالم القديم.
إحدى أخطر نتائج تدمير التراث الثقافى فى الحروب هو طمس الهوية الثقافية لشعب ما، الهوية الثقافية لا تتكون فقط من اللغة والديانة، بل من التاريخ والآثار والممارسات الثقافية التى تميز كل مجتمع عن غيره، وعندما يتم تدمير هذه الآثار والمواقع التاريخية، فإن الشعب يفقد مرجعيته الثقافية، وتصبح ذاكرته الجماعية مشوهة أو غائبة.
هذا ليس مجرد فعل من أفعال القتل العشوائي، بل هو محاولة ممنهجة لإعادة تشكيل هوية شعب، فى سياق نزاع طويل الأمد، على مر التاريخ استخدمت الحروب أدوات محو الهوية جنبًا إلى جنب مع أسلحة القتل والتدمير، من هدم المعابد القديمة وحرق المكتبات فى العصور القديمة، إلى تسوية المبانى بالأرض واستهداف دور العبادة فى الحروب الحديثة، حيث يصبح من السهل على القوى المتصارعة فرض تاريخ جديد أو هوية جديدة على شعوب بأكملها.
فى العراق، على سبيل المثال، دمرت الجماعات الإرهابية مثل داعش العديد من المعالم الأثرية الهامة فى مدينة الموصل، بما فى ذلك جامع النورى ومنارة الحدباء، هذه المواقع لم تكن مجرد أماكن عبادة بل كانت رموزًا ثقافية مهمة للهوية العراقية، وتحمل ذاكرة الشعب العراقى بكل تنوعه الدينى والإثني، وما زال هذا التدمير يشكل جرحًا عميقًا فى وجدان الشعب العراقي، ويمثل خسارة ثقافية عظيمة.
التراث الثقافى لا يشمل فقط الآثار المعمارية، بل يمتد ليشمل الرموز، العادات، الحرف، والموسيقى والقصص الشعبية التى تحدد كيفية عيش الشعب وتفاعله مع العالم من حوله، وعندما يتم تدمير هذه المكونات الأساسية للثقافة، يصبح من الصعب على الأجيال القادمة الحفاظ على الرابط مع تاريخهم وهويتهم.
إن محو هذه الذاكرة الجماعية لا يضر فقط بالحاضر، بل يؤثر بشكل طويل الأمد على قدرة الأجيال المقبلة على فهم تاريخها وإعادة بناء وطنها على أسس ثقافية قوية، فالأمة التى تفقد ثقافتها وذكرياتها التاريخية تصبح بلا جذور، ولا يمكنها التفاعل مع العالم من حولها بشكل كامل.
وفى ظل تزايد استخدام التراث الثقافى كهدف فى الحروب، تزداد الحاجة إلى آليات فعالة لحماية هذا التراث أثناء النزاعات المسلحة، وقد بدأت بعض المنظمات الدولية، مثل منظمة اليونسكو، فى اتخاذ خطوات للحفاظ على المواقع التاريخية والمعالم الثقافية أثناء الصراعات، فى بعض الحالات، تم تفعيل اتفاقيات دولية لحماية المواقع الأثرية والمعمارية من التدمير، ومنع تهريب الآثار.
إلا أن هذه الإجراءات لا تكفى إذا لم يتم تطبيقها بشكل صارم على الأرض، فالواقع الميدانى فى مناطق النزاع غالبًا ما يعكس غياب الرقابة أو عدم القدرة على تنفيذ هذه الاتفاقيات، لذلك يتعين على المجتمع الدولى تعزيز التعاون لتوفير الحماية اللازمة للمواقع الثقافية خلال الحروب، بما فى ذلك من خلال فرض عقوبات على الأطراف التى تقوم بتدمير هذه المواقع بشكل متعمد.
تدمير التراث الثقافى ليس مجرد جريمة ضد التاريخ، بل هو جريمة ضد الإنسانية بأسرها، إذ يؤدى إلى مسح هويات الشعوب وتحويلها إلى أسطورة، مما يجعل من الصعب إعادة بناء الوطن أو استعادة الماضى الثقافى المفقود فى عالمنا اليوم، حيث تزداد الحروب والنزاعات المسلحة ومن الضرورى أن نعى أهمية حماية التراث الثقافي، وأن نعمل على جعل هذه القضية أولوية دولية، ليس فقط من أجل الحفاظ على الآثار، بل أيضًا من أجل الحفاظ على ذاكرة الشعوب وتاريخهم وهويتهم.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: الحروب الشعوب الذاكرة الثقافية التراث الثقافة التراث الثقافي الآثار التراث الثقافى فى الحروب
إقرأ أيضاً:
كواليس مثيرة| كيف يتم تقسيم سوريا وفق خرائط دولية؟
كشف الخبير الدولي في العلاقات السياسية الدكتور محمد العزبي، جانبًا مظلمًا من كواليس المشهد السوري، لافتا إلى أن ما يجري في سوريا اليوم ليس نتيجة قرارات داخلية أو صراعات محلية فقط، بل نتيجة إدارة كاملة تُفرض من الخارج منذ سنوات طويلة، بينما تُترك الشعوب تتخبط في روايات متضاربة ومعلومات مضلِّلة.
وأوضح العزبي خلال مشاركته في برنامج "خط أحمر" الذي يقدمه الإعلامي محمد موسى على قناة الحدث اليوم، أن الشعوب في المنطقة خُدعت عبر ضخ إعلامي مكثف صور الأحداث على أنها مواجهة داخلية بين قوى متصارعة، بينما الحقيقة أن “الخيوط الحقيقية تُسحب من عواصم كبرى، وأن اللاعبين المحليين مجرد أدوات يتم تحريكها وقت اللزوم”.
وكشف العزبي أن التحركات الدولية الأخيرة، ومنها الاتصالات المرتبطة بإعادة بشار الأسد إلى الواجهة ضمن صفقة سياسية معقدة، تؤكد أن القرار السوري يتم تصنيعه خارج الحدود ثم يعاد تصديره للداخل على شكل تسويات أو تفاهمات.
وأشار إلى أن زيارة أبو محمد الجولاني إلى الولايات المتحدة، وما تبعها من مؤشرات على تفاهمات غير معلنة، تؤكد أن هناك “مخططًا جاهزًا يعاد ترتيبه بعيدًا عن إرادة السوريين”.
وأضاف أن تصريحات مسؤولين في حكومة الجولاني حول “عدم استهداف إسرائيل” ليست مجرد جملة عابرة، بل دليل على وجود اتفاقات ضمنية تحدد من يقاتل من، ومن ينسحب، ومن يُسمَح له بالبقاء، في إطار خريطة جديدة لإعادة توزيع مناطق النفوذ.
وقال العزبي إن الشعوب تترك لتتجادل حول شعارات وصور ومقاطع فيديو، بينما القرارات الحقيقية تُتخذ في غرف مغلقة بين قوى دولية، مؤكدًا أن ما يراه الجمهور مجرد “واجهة إعلامية تخفي ما هو أعمق وأخطر”.
وختم العزبي بأن فهم ما يجري في سوريا لا يمكن أن يتم من خلال متابعة البيانات الرسمية أو تصريحات الفصائل، بل من خلال قراءة التحركات الدولية التي تكشف أن المشهد برمّته “تتم برمجته من الخارج، بينما يتم استخدام الداخل فقط كمساحة للتنفيذ”.
https://www.facebook.com/MohamedMusaOfficial/videos/1607747776899004/