محمود حامد يكتب: حروب الإبادة الثقافية.. كارثة تواجه المجتمع الدولى
تاريخ النشر: 13th, December 2024 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
الحروب على أشكالها تقع، سواء كانت غزوًا بالجيوش الأجنبية أو الجماعات الإرهابية أو حتى الحروب الأهلية أو الصراع بين أطراف متعددة فى الدولة الواحدة.. تعانى الشعوب من كل هذه الحروب أيًا كان شكلها ونمطها، ذلك أنها تأتى على الأخضر واليابس ولا تفرق بين الحجر والبشر ومثلما راح ملايين من الناس ضحية الحروب، فقد دُمرت الآلاف من الآثار التى تمثل هوية أى شعب وتعبر عن ماضيه وتجعله يزهو بتاريخه العظيم.
سمعنا عما أحدثته الحرب العالمية الثانية من تدمير للآثار فى العديد من الدول الأوروبية التى كانت طرفًا فى القتال، ولعلنا رأينا بأنفسنا بعد تطور وسائل الاتصال ما فعلته التنظيمات الإرهابية من تدمير لآثار الشعوب سواء فى العراق أو سوريا أو فلسطين أو اليمن أو أفغانستان أو غيرها من البلدان، فى حملة محمومة ومجنونة فيما يمكن اعتباره «إبادة ثقافية» لذاكرة الشعوب.
وبعد أن سكتت المدافع فى الحرب العالمية الثانية يوم ٧ مايو ١٩٤٥ باستسلام القوات الألمانية للحلفاء، تم الإعلان عن انتهاء الحرب رسميًا فى اليوم التالى ٨ مايو والذى أُعتبر يوم النصر فى عموم أوروبا.
وظل المجتمع الدولى يفكر ويفكر فى كيفية حماية تراث الشعوب، واستمر التفكير نحو تسع سنوات حتى تفتق الذهن عما يُعرف بـ«اتفاقية لاهاى لحماية الملكية الثقافية فى حالة النزاع المسلح»، وهى معاهدة دولية تطلب من الموقعين عليها حماية الملكية الثقافية فى الحرب، وتم التوقيع عليها فى ١٤ مايو عام ١٩٥٤ فى مدينة لاهاي، فى هولندا، وصدق عليها أكثر من مئة دولة ودخلت حيز التنفيذ فى ٧ أغسطس ١٩٥٦.
كانت الاتفاقية انتصارًا للإنسانية وعم الارتياح بين الشعوب والمسؤولين وكل عارفى ومقدرى قيمة الأثر فى تاريخ الشعوب وحياتها، فقد وضعت قواعد لحماية السلع الثقافية أثناء النزاعات المسلحة. وكانت أول معاهدة دولية تهدف إلى حماية التراث الثقافى فى سياق الحرب، وسلطت الضوء على مفهوم التراث المشترك وأدت إلى إنشاء «اللجنة الدولية للدرع الأزرق» لحماية التراث.
ومرت الأيام والسنوات حتى رأينا اليوم «الأزرق»، ونحن نتابع تدمير الآثار فى أكثر من دولة دون أى وازعٍ من ضمير أو أى إحساس بقيمة البشر والحجر. ولم يقتصر الأمر على هذا التدمير، فقد تواترات الأنباء عن سرقة الآثار بفعل فاعل هو جيش الغزاة، وكان أوضح مثال على ذلك ما أقدم عليه جنود وضباط من الجيش الأمريكى عقب احتلال العراق، والتفاصيل يعرفها القاصى والدانى فى كل بقاع الأرض.. [هامش: من غرائب الطبيعة ما ذكره كاتب أمريكى يدعى بيتر ستون فى تقرير بموقع «ذى كونفرزيشن» الأمريكي، إذ قال إن «الولايات المتحدة أول دولة تجعل حماية الممتلكات الثقافية جزءًا من سياستها العسكرية من خلال قانون ليبر لعام ١٨٦٣ الذى كتب دليلًا مخصصًا للقوات الفيدرالية خلال الحرب الأهلية آنذاك»، ويبدو أن هذا «القانون» صُنع خصيصًا للحرب الأهلية داخل حدود دولته، لكن نهب وسرقة آثار الشعوب الأخرى فهو جائز شرعًاّ!].
وإذا سألنا أنفسنا: ماذا فعلت اتفاقية لاهاى وهل ساهمت فى حماية آثار العالم؟، فسوف نجد الإجابة واضحة للعيان فى العراق حيث اتفقت إرادة التنظيم الإرهابى «داعش» مع إرادة المحتل الأمريكى، فالأول استخدم معاوله للهدم والتدمير والثانى استخدم سطوته فى النهب والسرقة.. وإذا توجهنا قليلًا نحو سوريا المجاورة، نتحسر على ما دمرته التنظيمات الإرهابية.. ومن يدرى؟ فقد يكون أبو محمد الجولانى أحد الذين شاركوا فى التدمير إذ كان يتنقل بين التنظيمات الإرهابية على حسب مزاج مموليه وداعميه، أما لبنان فقد أصابت الغارات الإسرائيلية العديد من آثاره (بالأخص فى بعلبك) خلال الأشهر الماضية.. وإذا كانت عيوننا ترحل كل لحظة صوب غزة الجريحة، فيكفى أن نشير إلى أن المرصد الأورومتوسطى لحقوق الإنسان أكد فى تقرير حديث له، أن «إسرائيل تنتهك على نطاق واسع قواعد القانون الدولى لحقوق الإنسان والقانون الدولى الإنسانى لا سيما اتفاقيات جنيف، ومعاهدة لاهاى الدولية المتعلقة بحماية الإرث الثقافي، من خلال شنها لهجمات عسكرية منهجية ضد الأماكن والآثار التاريخية أثناء عدوانها المتواصل منذ السابع من أكتوبر على قطاع غزة». ولا نريد أن نسترسل فى هذا المجال وقد استعرض الزملاء والزميلات الكثير من أبعاد جريمة «الإبادة الثقافية» على صفحات هذا العدد الذى حاولنا فيه تقديم بانوراما عامة عن هذه الكارثة.
ورغم ما نراه حولنا من أهوال، دعونا نحلم ونقول مثل ديباجة الميثاق التأسيسى لليونسكو «لما كانت الحروب تتولد فى عقول البشر، ففى عقولهم يجب أن تُبنى حصون السلام».. وقد يكون مفيدًا أن نشير إلى الديباجة التى تصدرت اتفاقية لاهاى.. فتعالوا نقرأها معًا:
«إن الأطراف السامية المتعاقدة؛ لاعترافها أن الممتلكات الثقافية قد منيت بأضرار جسيمة خلال النزاعات المسلحة الأخيرة، وأن الأخطار التى تتعرض لها تلك الممتلكات فى ازدياد مطرد نتيجة لتقدم تقنية الحرب؛ ولاعتقادها أن الأضرار التى تلحق بممتلكات ثقافية يملكها أى شعب كان تمس التراث الثقافى الذى تملكه الإنسانية جمعاء، فكل شعب يساهم بنصيبه فى الثقافة العالمية؛ ولاعتبارها أن فى المحافظة على التراث الثقافى فائدة عظمى لجميع شعوب العالم وأنه ينبغى أن يكفل لهذا التراث حماية دولية؛ ولاعتبارها أنه ينبغي، حتى تكون هذه الحماية مجدية، تنظيمها منذ وقت السلم باتخاذ التدابير اللازمة، سواء أكانت وطنية أم دولية؛ ولاعتزامها اتخاذ كل التدابير الممكنة لحماية الممتلكات الثقافية؛ قد اتفقت على ما يأتي»..
والمقصود بـ«ما يأتى» هو نصوص اتفاقية لاهاى التى جاءت فى أربعين مادة تعبر فى جمل متناسقة وجميلة ومحكمة وتناطح بعضها بعضًا فى إثبات حسن النية.. ولكن هل تكفى حسن النوايا فى إدارة مثل هذه الأمور؟.. العالم فى حاجة إلى تطوير أدواته، فلم يعد يكفى إبرام المعاهدات وإصدار البيانات والبكاء على الأطلال.
وعلى أية حال، يمكنك أن تكتب على جوجل عبارة «اتفاقية لاهاى لحماية الملكية الثقافية فى حالة النزاع المسلح» كى تكون أمام ناظريك وأنت تتصفح معنا هذا العدد.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: الجماعات الإرهابية الحروب الأهلية
إقرأ أيضاً:
الحرب تدمر مركز أبحاث المايستوما بالسودان: كارثة صحية تتهدد حياة الفقراء
منتدى الاعلام السوداني
الخرطوم، 31 مايو 2025 (مركز الألق للخدمات الصحفية) – في ضربة قاصمة للجهود الرامية لمكافحة أحد أكثر الأمراض المدارية إهمالاً، أعلن مكتب منظمة الصحة العالمية في السودان عن تدمير مركز أبحاث المايستوما الوحيد في البلاد، نتيجة للاشتباكات العسكرية التي دارت في الخرطوم لحوالي عامين. وفَقَدَ المركز، الذي يُعتبر منارة عالمية لدراسة الورم الفطري، عقودًا من البيانات الحيوية والمحتوى البيولوجي، مما يهدد حياة آلاف المرضى ويعيق الأبحاث المستقبلية.
يُعد المايستوما من الأمراض المتوطنة في المناطق الريفية بالسودان، وينتشر بشكل خاص في ولايات سنار والجزيرة والنيل الأبيض وشمال دارفور. ينتج المرض عن دخول البكتيريا أو الفطريات إلى الجسم، غالبًا عبر وخز الشوك في الأراضي الزراعية، مما يؤدي إلى تدمير خبيث للجلد والعظام والعضلات. وقد صنفته منظمة الصحة العالمية في عام 2016 ضمن قائمة الأمراض المدارية المهملة، نظرًا لعدم وجود علاج فعال وناجع له وتأثيره المدمر على صحة الفقراء، الذين غالبًا ما يعيشون في مناطق يصعب فيها الحصول على الرعاية الصحية.
توضح الدكتورة بخيتة عثمان، الخبيرة الزراعية، لمركز الألق للخدمات الصحفية، أن هذا المرض “يصيب الفقراء، ويصبحون غير قادرين على العمل ويتعرض المرضى للعزلة الاجتماعية، بسبب التقرحات المصاحبة له”. وتضيف أن المايستوما يؤثر عادة على القدمين، مما يؤدي إلى عدوى مزمنة يمكن أن تتطور إلى تشوهات شديدة، وقد تصل في النهاية إلى الإعاقة أو البتر. كما يسبب المرض مضاعفات نفسية، مثل الانطوائية، نتيجة للتشوهات والإفرازات.
يؤكد الدكتور أحمد الفحل، مؤسس ومدير المركز، أن الورم الفطري “يصيب السكان في المناطق النائئة، وأولئك الذين يتنقلون حفاة، وهم الأكثر عرضة لخطر الإصابة به، ومعظمهم من العمال الميدانيين والأطفال”. ويشير إلى أن علاجه يمثل تحديًا بسبب الأدوية باهظة الثمن وغير المتوفرة، والتي غالبًا ما تكون لها آثار جانبية خطيرة. قد يستمر العلاج لأشهر، وفي الحالات الشديدة، يمكن أن يؤدي المرض إلى الوفاة، وغالبًا ما يكون البتر هو الحل الوحيد.
فقدان إرث 40 عامًا من الأبحاثيؤكد أحمد فحل أن تدمير المركز يعني “فقدنا كل المحتوى الموجود في بنوكنا البيولوجية، وكانت فيها بيانات منذ أكثر من 40 عامًا”. هذه البيانات تمثل كنزًا لا يقدر بثمن للباحثين حول العالم، وستؤدي خسارتها إلى تعثر كبير في فهم المرض وتطوير علاجات جديدة.
وقد تعرض حوالي 20% من هؤلاء المرضى، وهم من الفئات الأكثر فقرًا، للبتر (قدم أو ساق أو يد).
رؤية شاملة للعلاج والتوعية حول مرض المابستوماتأسس مركز أبحاث المايستوما عام 1991 برعاية جامعة الخرطوم، وهو المركز الوحيد في العالم المخصص لدراسة الورم الفطري. لم يكن المركز مجرد مرفق علاجي، بل كان منارة شاملة للتعامل مع مرض المايستوما من جوانب متعددة. وقد شملت أنشطته الرئيسية ما يلي:
الرعاية الصحية والعلاج: كان المركز يستقبل 12 ألف مريض سنويًا، مقدمًا الرعاية المجانية للمتضررين من هذا المرض، بما في ذلك التشخيص والعلاج والدعم النفسي والاجتماعي. وقد عالج المركز 9 آلاف مريض مجانًا من جميع أنحاء البلاد منذ تأسيسه، وأجرى العديد من العمليات الجراحية، بما في ذلك عمليات البتر الضرورية. البحث العلمي والتطوير: أجرى المركز بحوثًا علمية متقدمة في مجال المايستوما، بما في ذلك التجارب السريرية الرائدة. وقد شارك في تجارب عالمية لعلاجات واعدة مثل عقار “فوسرافوكونازول” بالتعاون مع مبادرة الأدوية للأمراض المهملة (DNDi) وشركة “إيساي” اليابانية للأدوية، مما يعكس دوره المحوري في إيجاد حلول علاجية جديدة. التشخيص المخبري المتقدم: قدم المركز خدمات تشخيصية مجانية، بما في ذلك الفحوصات المخبرية المتقدمة مثل فحص الحمض النووي (DNA) لتحديد المسبب الدقيق للمرض، وهو ما كان متاحًا لأول مرة في السودان بدون تكلفة. التوعية وخدمة المجتمع: اضطلع المركز بدور فعال في توعية المجتمع بخطورة مرض المايستوما وكيفية الوقاية منه وأهمية العلاج المبكر. وقد قام بحملات توعية مستمرة من خلال الملصقات والأفلام التثقيفية، ونظم رحلات علاجية وتثقيفية للمناطق الموبوءة في أنحاء السودان المختلفة. بناء القدرات والتدريب: ساهم المركز في تدريب طلاب الطب والعلوم والعاملين في مجال الرعاية الصحية على تشخيص وعلاج المايستوما، مما يعزز القدرات المحلية لمكافحة المرض. التعاون والشراكات الدولية: أقام المركز شبكة واسعة من التعاون والشراكات مع منظمات ومؤسسات دولية مثل منظمة الصحة العالمية، ومبادرة الأدوية للأمراض المهملة (DNDi)، وشركة “إيساي”، وجامعة ناغازاكي، مما مكنه من تبادل الخبرات والمساهمة في الجهود العالمية لمكافحة الأمراض المهملة. النهج الشامل للرعاية: تبنى المركز نهجًا متعدد التخصصات في إدارة المايستوما، حيث دمج التدخلات الطبية والجراحية والتأهيلية لتقديم استراتيجية علاجية شاملة وفعالة، مع التركيز على رعاية المرضى محورًا أساسيًا. دعوة عاجلة لإعادة الإعمارتسلط هذه الكارثة الضوء على الأوضاع الصعبة التي يواجهها الرعاة والفئات المهمشة في السودان، حيث لا توجد مستشفيات كافية لعلاج الأطفال والنساء وكبار السن والمرضى بشكل عام. وقد كشفت دراسة حديثة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي والمعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية عن تأثير النزاع على دخل الأسر الريفية، مما فاقم ضعفها في الحصول على السكن والبنية التحتية والخدمات.
لذلك، فإن الخسارة التي تعرض لها مركز المايستوما بكل تداعياتها على المرضى والأبحاث، تجعل من الأهمية بمكان تسليط الضوء الإعلامي على هذه القضية، للدفع بجهود إعادة تأسيس المركز ليواصل عمله البحثي وتقديم العلاج المنقذ للحياة للمرضى من المزارعين والرعاة والأطفال.
ينشر منتدى الإعلام السوداني والمؤسسات الأعضاء، هذا التقرير من اعداد “مركز الالق” بهدف ألقاء الضوء على الاضرار التي لحقت بالبنية التحية الصحية في البلاد من جراء الحرب الدائرة في البلاد.
منتدى الإعلام السودانيالوسومالحرب الخرطوم السودان مركز أبحاث المايستوما منتدى الإعلام السوداني منظمة الصحة العالمية