لجريدة عمان:
2025-11-23@03:24:11 GMT

كوريا وثمن الديمقراطية

تاريخ النشر: 14th, December 2024 GMT

مع بداية هذا الشهر فوجئنا بما تناقلته وسائل الإعلام عن استقالات عدد من نواب رئيس كوريا الجنوبية ومساعديه بسبب ما قيل من أن زوجة الرئيس (يون سوك يول) قد تدخلت في عمل الحكومة، وإنها تلقت هدية عبارة عن حقيبة يد ماركة كريستيان ديور، قدمها لها قس كوري تجاوزت قيمتها ٢٠٠٠ دولار، بينما القانون لا يسمح بقبول الهدية لأكثر من ٧٥٠ دولارا، فضلا عن اتهامات أخرى بالفساد، بعدها انتفض الشارع الكوري ومعه البرلمان، لذا لجأ الرئيس إلى إصدار قرار بحل البرلمان وإعلان الأحكام العرفية، وهو ما أثار زوبعة كبيرة من الغضب، فاجتمع أعضاء البرلمان وصوتوا على إلغاء قرار الرئيس، وقد سيطر الجيش على البرلمان وطرد أعضاءه بعدها تفاقم المشهد السياسي، لدرجة اتهام الرئيس بالعمالة لكوريا الشمالية، وخرج الناس إلى الشوارع مناصرين لأعضاء البرلمان، وأعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت حاضرة في المشهد، لأن كوريا الجنوبية تعد إحدى الدول ذات العلاقة الوثيقة بالولايات المتحدة الأمريكية، وخصوصًا في المجالين الاقتصادي والسياسي، وهي الشريك الأهم بحكم موقعها الجغرافي وبحكم الخبرات والدعم الكبيرين اللذين تلقتهما كوريا خلال تجربتها الطويلة، ولم يكن أمام الرئيس الكوري مجال إلا الرضوخ لقرار البرلمان، وإلغاء كل القرارات التي أصدرها، والنزول على رأي البرلمان فيما قيل بأن شبهة فساد قد قامت بها زوجته ومعها بعض مساعديه، بعدها عاد المجتمع الكوري لكي يمارس دوره في التنمية، وانتهت الأزمة بالنزول على رأي الشعب الذي يمثله البرلمان، وقدم الرئيس اعتذاره للشعب الكوري.

زرت كوريا الجنوبية مرتين أو ثلاث مرات خلال العقدين الماضيين، كانت الزيارة الأخيرة ربما في عام ٢٠١١، وكنت بصحبة مجموعة من الأصدقاء (جمعية الصداقة العربية الكورية)، وفي كل مرة كنت أحاول فهم ماذا حدث في كوريا، المدن الصناعية العملاقة، المجتمع الكوري الذي قفز اقتصاديا وأصبحت كوريا خلال 20 عاما واحدة من الدول الصناعية الكبرى، وأصبح التصدير هو عنوان المرحلة التي جعلت من كوريا واحدة من أغنى عشر دول في العالم، تراجع الفقر لدرجة أن مستوى الدخل قد قفز إلى مستويات تجاوزت الكثير من الدول الأوروبية، كنت حريصا في كل زيارة على التعرف على التجربة الكورية، التي أصبحت الصناعة فيها عنوانا كبيرا في مجالات صناعة السفن الأكبر في العالم، وصناعة البرمجيات والحاسبات، وصناعة السيارات، والأهم هو مقدرة الإنسان الكوري على التكيف مع الحياة الصناعية الجديدة في بلد لا يملك أيًَا من مقومات الصناعة، جميع المواد الخام يتم استيرادها، بما فيها منتجات البترول ومشتقاته، والنظام السياسي والاجتماعي مستقر وينعم بمنظومة قانونية وتشريعية قادرة على ضبط الحياة في هذا البلد.

كل مرة ألتقي فيها بشخصية سياسية أو اقتصادية كورية أحاول معرفة ماذا حدث، وجميع الإجابات لكل من التقيت بهم تبدأ عن التعليم، وقصة التعليم في كوريا تجربة تستحق الدراسة، فالمدارس موزعة على المدن والأحياء والمجتمعات الصناعية، وكل مدرسة لديها مشروع مختلف عن المدرسة الأخرى، حتى ولو كانت في حي واحد، ومجلس أمناء المدرسة هو الجهة المخول لها الإشراف والمراقبة واختيار المناهج واختيار المعلم والإدارة، وتقييم أداء المدرسة والمعلمين، فلا توجد مركزية في إدارة التعليم، فلكل مدرسة كافة الصلاحيات، وكل برامج التعليم يتم تحديثها عاما بعد آخر وفق التطور العلمي والصناعي، المدرسة مسؤولية المجتمع الذي اختار التعليم وسيلة للحاق بركب الحضارة المعاصرة، لا تهاون مع أي مسؤول أو جهة ما في سبيل أن تحقق المدرسة أهدافها، وهناك فروق واضحة بين المدارس من حيث الأهداف والبرامج وفق قواعد فنية يتم تقييمها يوما بيوم من خلال مجلس الأمناء الذي لا يتهاون أبدا مع أي مسؤول في المدرسة، والبرامج الفنية والثقافية والرياضية التي تشكل وجدان الطلاب هي جزء رئيس من البرامج الأكاديمية، وعندما سألت أحد المسؤولين، أجاب بأن البرامج الدراسية في مجملها تستهدف وعي الناشئة والطلاب، وتنمية مهاراتهم، تستوي في ذلك المقررات الأكاديمية والفنية والثقافية والرياضية.

المدن الصناعية مسؤولة عن إقامة المدارس، التي تستهدف الصناعة في كل مجالاتها، صناعة السيارات والسفن والبرمجيات وغيرها، ورجال الصناعة هم من يمولون هذه المدارس ويشرفون عليها ويختارون البرامج الفنية التي تستهدف خدمة مجالاتهم الصناعية، وعندما سألت أحد رجال الصناعة عن طبيعة الأيدي العاملة في كل هذه المجالات، أجابني بأن لديهم مشكلة تتعلق بندرة الأيدي العاملة، لذا فهم في حاجة إلى استقدام مليونين أو ثلاثة خلال السنوات العشر القادمة، لذا فهم يستقدمون أيدي عاملة جديدة من دول آسيا الوسطى، يوفرون لهم التدريب والتأهيل والحياة الاجتماعية والصحية والخدمات، ويوفرون لهم المدن التي تتوفر فيها كل سبل الحياة الكريمة، المجتمع الكوري لا يعرف الرفاهية بالقدر الذي تعرفه الدول الأوروبية، فالرفاهية لديهم هي الإنتاج والمنافسة والتصدير، لذا فالمجتمع يعمل كخلية نحل من المصنع إلى المنزل، الجميع يعمل دون كلل أو ملل.

تلقينا دعوة خلال إحدى زياراتنا من رئيس مجلس إدارة شركة سامسونج بصحبة بعض الزملاء من جمعية الصداقة العربية الكورية، واستقبلنا الرجل في المصنع وحكى لنا كثيرا عن قصة نجاح شركته والمصاعب التي واجهها في سبيل أن تصبح واحدة من أكبر الشركات الصناعية في العالم، بعدها اصطحبنا إلى المطعم الملحق بالمصنع، والذي يتناول فيه العمال طعامهم طوال اليوم، بعد أن طلبوا منا في اليوم السابق اختيار اللحوم أو الأسماك، وقد اخترنا الأسماك، وطال انتظارنا لفترة طويلة، بعدها دخل مقدمو الطعام في مشهد لافت حيث يحملون الشموع وقد انتظمت حركتهم بدقة شديدة، ووضعوا أمامنا المقبلات لاحظنا أنها بكميات قليلة جدًّا، ثم رحنا ننتظر الأسماك التي سوف يقدمونها، وبعد أن قدموها في لفافات من ورق الألومنيوم رحنا ننزع الغطاء الخارجي طبقة بعد أخرى، بعدها وصلنا إلى سمكة صغيرة للغاية قضمناها في واحدة أو اثنين وكنا جوعى، ورحنا ننظر إلى بعضنا ونحن مندهشون من أن مدير الشركة وصاحبها راح يتناول سمكته بالعصي لمدة تجاوزت الساعة بدون مبالغة! بعدها تناولنا القهوة وشكرنا الرجل وخرجنا بعدها نتحدث عن شعب لا يعرف رفاهية الغذاء، فهم يأكلون بالقدر الذي يستطيعون به أن يعيشوا ويعملوا وينافسوا، إنها تجربة شعب وضع أمامه هدفا كبيرا.

تجربة كوريا قصة نجاح تستحق الدراسة، فالتنمية بكل مجالاتها هي مسؤولية المجتمع، في التعليم والاقتصاد والتكنولوجيا، حتى في المتاحف فقد زرت متحفا للقطاع الخاص يوثق حياة الكوريين منذ العصور الوسطى، وعند دخول المتحف رحت أتفقد حياة الكوريين منذ فترة مبكرة من التاريخ، الحياة المعيشية في المأكل والمشرب وصناعة الحرف والزواج، بعدها تأتي فترات متلاحقة تجسد كل تفاصيل الحياة وصولا إلى كوريا المعاصرة، وما لفت نظري تزاحم تلاميذ المدارس والجامعات مع المعلمين يشرحون، والتلاميذ جميعا يحملون بين أيديهم (بلوك نوت) يكتبون ويسجلون وهم في حالة تركيز وعناية، هو متحف فريد يحمل رسالة وطنية لبلد يعمل بكل جهد لملاحقة كل ما هو جديد في كل مناحي الحياة، لدرجة أنه بإمكان الزائر أن يجلس ليتناول طعامه وشرابه لنفس الطعام والشراب خلال الحقب التاريخية ، والعاملون على الخدمة في هذه المطاعم يرتدون ملابس وإكسسوارات عن كل حقبة تاريخية، الجميع يعمل كخلية نحل بمنتهى الجدية والتركيز، وكأنهم يؤدون عملاً وطنيًّا كبيرًا.

كانت هذه المشاهد التي استدعتها ذاكرتي من زياراتي إلى كوريا، بعد أن عايشنا الأزمة الكورية منذ أسابيع قليلة، وكيف استطاع الشعب الكوري أن يستعيد ديمقراطيته التي كانت السبب الأهم في تلك النهضة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت موضع فخار لكل الدول النامية.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

الانتخابات الديمقراطية في دولة الثعالب

آخر تحديث: 22 نونبر 2025 - 3:04 م بقلم:علي الكاش قال تعالى في سورة النحل/118((وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)). المقدمة
اغرب ما جرى في الانتخابات العراقية الأخيرة، المرشحون يدلون بدولاراتهم، والناخبون يدلون بأصواتهم. لا عجب المظلوم صوت لصالح الظالم، والمسروق صوت لصالح السارق، والفقير صوت لصالح الثري، والمطالب بالإصلاح صوت لصالح الفاسد، والعلماني صوت للمتدين. بلا أدنى شك، سيتحول العرس الانتخابي الى مأتم انتخابي، والقوادم من الأيام شواهد على ما نقول، ولنا في الدورات الانتخابية السابقة موعظة وعبرة، ولات ساعة مندم. تساؤلات غير بريئة
سألني بعض القراء الافاضل لماذا لم تكتب هذه المرة عن الانتخابات الأخيرة، وقد اشبعت الانتخابات السابقة بسلسلة من المقالات؟
في الحقيقة لم يفاجئني هذا السؤال، فكنت اتوقعه، ولكني وقفت مع نفسي لحظة، استذكرت وتساءلت، ما الفائدة من الكتابة عن هذا الموضوع؟ هل ستتغير بوصلة صوت الشعب العراقي للتعبير عن حقيقة احوالهم والرغبة في الاصلاح؟ هل برحت خيمة الجهل التي تظلل عقلية العراقيين وغادرتها فعلا؟ هل جزرت موجة الطائفية والعشائرية والقومية وحصل المد الوطني الشامل؟ هل لكتاباتنا تأثير على من هو مستعد ان يتخلى عن شرفه الوطني في التصويت مقابل دولارات مثيرة للشهية ينظر اليها بشغف لتدخل في جيبه الفارغ؟ هل سيستمع الحكام من الإرهابيين واللصوص والعملاء الى صوت الضمير؟ هل ستودي حبوب الممانعة في المشاركة الى عدم تخصيب عقول العراقيين؟ هل ستتوقف اذرع الولي الفقيه عن العبث بعذرية الانتخابات العراقية؟ هل ستتخلى الولايات المتحدة التي أتت بكل هذه الشراذم والطفيليات الحقيرة عن دعمها لهم، وتبارك نتائج الانتخابات قبل الاعلان الرسمي وليس الأولى عن نتائجها (بارك المبعوث الأمريكي (مارك سافايا) نجاح الانتخابات الأخيرة، وقدم التهنئة للفائزين قبل ظهور النتائج الأخيرة)؟
هل ستقف مرجعية النجف صامتة في العلن ولاعب أساسي في السر اتجاه الانتخابات؟ اذا كانت المرجعية لا تتدخل في الانتخابات، او السياسة بشكل عام، كيف يخرج ممثل المرجع الاعلى (عبد المهدي الكربلائي) ويحث الناخبين على التصويت؟ مما جعل مقتدى الصدر يوجه له رسالة عتاب.
لماذا يصر مقتدى الصدر على مقاطعة الانتخابات، بدلا من دعم المرشحين الوطنيين والشرفاء؟ وهل سيبقى الصدر متفرجا على مظاهر الفساد، وماسكا البوق منددا بالفساد الحكومي فقط، وهو من سلم الاطار التنسيقي مقاليد الحكم بانسحابه المهين؟ اليس من الأجدر ان لا يكون الاطار التنسيقي ناكرا للجميل، ويقدم رسالة شكر وامتنان لمقتدر الصدر لموقفه الداعم للاطار في الانتخابات السابقة والحالية كما ذكر الأستاذ مهدي قاسم في مقال رائع؟ هل أدت المقاطعة الصدرية الى أي هدف إصلاحي؟ الم تخدم المقاطعة الأحزاب الفاسدة، كما اثبتت الانتخابات الأخيرة؟ الى متى يبقى الصدر متفرجا على الأحداث، وهل سينفرط العقد الصدري بسبب مواقف زعيمه الأوحد، قول بلا فعل، وشعار بلا تطبيق؟
اين احترام الدستور الذي يتشدق به جميع الزعماء وهو يدوسون على نص قانوني لا يجيز الدخول في الانتخابات لمن يمتلك اذرع مسلحة؟ توجد (15) ميليشيا عراقية دخلت الانتخابات امام مفوضية الانتخابات من الأبواب الرئيسة وليس من الأبواب الخلفية، بتسميات مختلفة في مخالفة صريحة (للمادة/9 ب من الدستور) ابرزها، ميليشيا عصائب اهل الحق تخت مسمى حركة صادقون، كتائب حزب الله تحت تسمية حقوق، كتائب الامام علي تحت مسمى تحالف خدمات، كتائب جند الامام تحت تسمية تحالف سومريون، ميليشيا ريان الكلداني تحت مسمى بابليون وغيرها. صدق ستالين بقوله” السؤال المهم ليس من يحق له الانتخاب؟ بل من الذي سيتولى مهمة فرز الاصوات”.
الم تحرم المادة 200 من قانون العقوبات العراقي: الطائفيين، حيث ورد تُعاقب بالسجن لمدة تصل إلى سبع سنوات على الأفعال والسلوكيات التي تثير الكراهية بين فئات المجتمع، بما في ذلك التحريض على الطائفية؟ وانه لا نسمح لعبد الزهرة ان يخدم عمر، وقول عمار الاصفهاني لا تضيعوها، وقول خطيب المرجعية الولائي صدر الدين القبانجي محذرا الشيعة بأن المقاطعة ستجعل الآخرين (اهل السنة) يتسلموا الحكم، وغيرها.
طالما ان المفوضية العليا المستقلة للانتخابات هي غير مستقلة وتخضع للمحاصصة الطائفية، ومجلسها يضم عناصر من الأحزاب الحاكمة، فكيف يضمن المرء استقلالها؟ لقد شهدنا التلاعب مع المرشحين سجاد سالم وحسين عرب، وآخرون تتلاعب بهم اهواء المفوضية وفق الاملاءات الحزبية من خلال فقرة حسن السيرة والسلوك، بالتنسيق مع القضاء الولائي المسيس.متى تدرك الولايات المتحدة بان مهمتها كما جاء في اتفاقية الاطار الاستراتيجي هي حماية الديمقراطية في العراق، وليس حماية العملية السياسية؟ وهل الانتخابات في العراق تجري وفق السياق الديمقراطي؟
أين مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية من الخروقات الدستورية؟ اليس من مهامهم الرئيسة الحفاظ على الدستور وتطبيق نصوصه وضمان عدم خرقها؟ هل طُبق النص الدستوري على المرشحين، أي مرشح لابد ان يحصل على (100000) صوت من الناخبين للمقعد البرلماني الواحد؟
متى يستفيق رئيس الجمهورية حامي الدستور الذي 99% من العراقيين يجهلون اسمه من نومه العميق ويمنع انتهاك الدستور من قبل السياسيين، وهو حسب توصيف الدستور (حامي الدستور)؟
اليس من المفروض ان يكون ولاء الجيش والعناصر الأمنية للوطن وليس للأحزاب السياسية؟ لماذا يُزج بهم في الانتخابات ويكونوا زبائن لزعماء الأحزاب السياسية، في الوقت الذي يُحرم على العراقيين في الخارج التصويت؟
أسئلة محيرة فعلا
كانت نسبة التصويت لحد الساعة الثانية عشر ظهرا في المراكز الانتخابية لا تزيد عن 15% ، ولكن خلال (6) ساعات ارتفعت الى 56%! الاغرب منه هو انخفاض عدد الناخبين من (22) مليون ناخب في الانتخابات السابقة الى (20) مليون ناخب في الانتخابات الحالية، مع ان ما لا يقل عن ثلاثة ملايين اضيفوا الى الانتخابات الحالية بحكم الولادات التي شملتها الانتخابات. من العجائب ان (56) مرشحا حصل على صوت واحد، و(54) مرشح حصلوا على صوتين، اليس لهؤلاء المرشحين والمرشحات زوجات وازواج واخوة وخوات وأبناء واقارب ليصوتوا لهم؟ يقال حدث العاقل بما لا يعقل فان صدق فلا عقل له.
بعض مما كتبنا عن الانتخابات السابقة.
لكي تكون الانتخابات شفافة ومقنعة للمواطن، لا بد من تَحييد المفوضية العليا للانتخابات من وباء المحاصصة الطائفية، واختيار هيئة رئاسية لها من القضاة النزيهين المتجردين من الميول الطائفية. وعناصر شريفة ووطنية تعمل فيها، لابد ان يكون القضاة مهنيون، ذوو خبرة متراكمة، ومشهود لهم بالفضيلة والسمعة الحسنة والأمانة، وأهم منها العدل باعتبارهم رجال عدول. وكذلك أن يكونوا من المستقلين سياسيا وليس لهم قرابة أو علاقة بالمرشحين. الحقيقة ان القاضي عندما ينتمي الى أي حزب سياسي يسقط مهنيا وأخلاقيا، وحري به أن لا يلبس جبة القضاة. إن الاستقلالية من شأنها ان تؤمن العدل والنزاهة في العملية الانتخابية في كل مراحلها. وفي المقابل أن تسن عقوبة شديدة لمن يخون أمانة الشعب بغض النظر عن موقعه في المفوضية، وتعتير جريمة كالخيانة العظمى مخلة بالشرف. مع مصادرة الاموال المنقولة وغير المنقولة لمن ينحرف عن بوصلة النزاهة والأمانة. فسرقة أموال الشعب لا تقل إجراما عن سرقة أصواتهم.
إن الانتخابات فرض وطني دنيوي، وليس دينيا، ولا يحتاج إلى الدوافع الروحية والإرشادات ومواعظ المنابر الحسينية، ولحساسية موضوع الانتخابات وما يرافقها في الغالب من ألاعيب سياسية، لذا من الأولى أن لا يحشر رجال الدين أنوفهم فيها، وأن يلتزموا بالصمت المطبق احتراما لمكانتهم عند الناس، فقد أسبغوا رضاهم وبركاتهم على اللصوص والمجرمين فزكوهم وزينوهم أمام العراقيين في الانتخابات السابقة، فدفع العراقيون جميعهم ثمن تلك الأخطاء التي نمت ونضجت وتحولت إلى خطايا.
لقد زرعوا بتدخلهم هذا الاشواك بين أقدامنا، وتركوها تنخز بأجسادنا، وتورمنا، وهم بمنأى عنها يتاجرون بعقول الجهلة والسذج، كان تدخلهم في الانتخابات جريمة بشعة أثارت غضب الأرض والسماء معا.
يجب أن يعلم الشعب العراقي أن الانتخابات هي عملية سياسية بحته، وهناك فرق بين المجد والتمجيد، الشعب لا يختار فيها خليفة للمسلمين بل حاكما سياسيا، وإذا تدخل رجال الدين فيها فأنهم آجلا أم آجلا سيُحتذون من قبل السياسيين. وتدخل رجال الدين في الانتخابات ان أدى إلى خير فهم لا يشكرون عليه، وأن أدى الى شر سيلامون عليه، فعلام التدخل إذن؟
الانتخابات أمر دنيوي يتعلق بتعاليم أرضية متمثلة بالدستور، وليس سماوية، وإن أدخال الشعارات الدينية في الدعايات الانتخابية هي مناورة سياسية قذرة، وإساءة بالغة للدين، واستغلال بشع ورخيص لأسمى عامل في الوجود، يعكس قلة الوعي بنواميس التأريخ البشري. وقد شممنا في الانتخابات السابقة روائح الغليان الطائفي التي سدت منافذ عقول الكثيرين وأعيتهم، ليس الغرض من عرضنا هذا أن ننكأ الجراح الماضية، بقدر ما نرغب باستخلاص الدروس واستخرج العبر، لكي لا نلدغ من جحر واحد.
ان نتائج الانتخابات هي جريمة بحق الشعب العراقي نفسه، الذي ذبح نفسه من الوريد إلى الوريد قبل أن ان تقوم الأحزاب المنتخبة بسلخ جلده. لقد ضيع نفسه قبل أن يضيعه الحاكمون، وخسر حاضره ومستقبله قبل أن يربحه الخونة والعملاء. بصراحة نقول أن المسؤولين عن وجود برلمان فاشل، وحكومات قطاع طرق، ودستور يتبع أسلوب النعامة فيرفع رأسه عند الأمان ويخفيه عند الشعور بالخوف مظهرا مؤخرته للآخرين. ذلك كله من نتاج الجهل وقصور الوعي الجماهيري، وعدم الشعور بالمواطنة. الخلاصة
هذه المرة اختار العراقيون حكامهم للفترة القادمة، وليس عليهم ان يلوموا أي كان عن المحن القادمة، فهنيئا لهم الفقر والجوع والبطالة والمرض والرشاوي والتزوير وأزمة الكهرباء وجفاف الرافدين والاهوار، وعدم وجود موازنات، وانتفاء الخدمات، وتردي الأوضاع التربوية والصحية، وسرقة المليارات من الدولارات، والصفقات الفاسدة، وانتفاء السيادة الوطنية، وانتشار ظاهرة المخدرات واللواط والمثلية وزواج القاصرات والمتعة، هنيا لهم انتخاب العملاء والجواسيس وزعماء الميليشيات والمافيات وتجار الأعضاء البشرية. هنيئا لمن دفع الدولارات لشراء الأصوات وقبض ريعه من خلال الأصوات. هذا ما جنيتم به على أنفسكم، ولا فائدة من عض للأصابع البنفسجية او التلاعب في صناديق الانتخابات والحاسوب.الحقيقة كما وصفهم طرفة:
كُلهمُ أروغ من ثعلب … ما أشبه الليلة بالبارحة

مقالات مشابهة

  • الشباب يتصدر مشهد التصويت في مقر السفارة المصرية بموسكو
  • «الرعاية الصحية»: حفظ الحياة يبدأ من وعي صغير وبرنامج الاستخدام الأمثل لمضادات الميكروبات برنامج استراتيجي
  • الرعاية الصحية: الوعي أساس إنقاذ الحياة.. وبرنامج ترشيد المضادات مشروع وطني استراتيجي
  • الانتخابات الديمقراطية في دولة الثعالب
  • خسائر ضخمة لـ بي بي سي.. أكثر من 1.1 مليار جنيه إسترليني خلال عام
  • لا نخشى في الحق لومة لائم .. الوطنية: لن نسمح لأي شخص بدخول البرلمان إلا بإرادة الناخبين
  • الرئيس الكوري في جامعة القاهرة: أنتم القوة التي ستصنع مستقبل العلاقات بين مصر وكوريا
  • رئيس كوريا الجنوبية: التعاون مع مصر وثيق ويقوم على الاحترام المتبادل
  • آخرها افتتاح المتحف الكبير.. رئيس كوريا يشيد بالإنجازات التي حققتها مصر
  • بيان مشترك بين الإمارات وجمهورية كوريا بمناسبة زيارة دولة التي قام بها فخامة لي جيه ميونغ