بدأ واضحًا أن الحرب في السودان تدخل طورًا جديدًا لصياغة مسار جديد للسلام. فقد استطاعت المملكة العربية السعودية بثقلها و موقعها وتوازن علاقاتها، أن تستعيد دورها الذي بدأته في مايو 2023 وتقدم صيغة أكثر واقعية لإنهاء الحرب التي أنهكت الدولة والمجتمع والمنطقة.

العودة الأمريكية التي اعلنها الرئيس ترامب جاءت بعد ان أدركت إدارته بأن ترك الساحة لقوى إقليمية مختلفة لن يفضي إلى استقرار، وبأن منصة جدة ، تظل الإطار الأكثر قبولًا وحيادًا.

وهكذا بدأ أن الرياض وواشنطن تتحركان اليوم بشراكة قائمة على “استعادة التوازن”، وتقديم الحلول.

غير أن نجاح هذا التحرك مشروط بأربعة مرتكزات رئيسية: أولًا: العودة الصريحة إلى مسار جدة 2023 بوصفه المرجعية التفاوضية الوحيدة التي حازت اعترافًا دولياً وإقليميًا.

ثانيًا: إصلاح مؤسسة الوساطة الأمريكية بإسناد الملف للخارجية الامريكية لما لها من تجارب سابقة في الملف السوداني، فالمشكلة لم تكن في غياب الحضور الأمريكي، بل في طبيعة هذا الحضور، وأبرزها في شخص المستشار مسعد بوليس ، الذي اعتُبر حضوره عائقًا بسبب تراجع حياده في أعين الأطراف السودانية.

لذلك أصبح استبعاده خطوة أساسية، مع تعيين مبعوث أمريكي جديد يتمتع بصلاحيات تنفيذية واضحة، مستقل عن النفوذ الإقليمي ومرتكز على فريق دعم فني وسياسي متخصص، لضمان حياد الوساطة وفاعليتها. هذا التغيير يعيد للولايات المتحدة دورها كضامن للعملية التفاوضية ويمنح الأطراف السودانية ثقة حقيقية في التزام واشنطن بتطبيق ما يتم الاتفاق عليه.

ثالثًا: ربط السلام بحوافز اقتصادية ملموسة، تعويضات الضحايا وإعادة الإعمار البنية التحتية ودعم المناطق المنكوبة.

رابعًا: الاعتراف بسردية الحرب كما تراها الدولة السودانية وكما أقرتها مؤخرآ الامم المتحدة على لسان المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك. : حرب بالوكالة و تمرد مسلح مدفوع بطموحات خارجية للسيطرة على الموارد الطبيعية للبلاد.

هذه الأسس لا تصوغ مقاربة تفاوضية فقط، بل تحفظ توازنات الدولة السودانية وسيادتها ، وتمنع تمييع حقيقة الصراع أو مساواة الجيش بالتمرد.

التطور الأهم في المشهد يتمثل في اتساع دائرة الترحيب السوداني بالمبادرة السعودية – الأمريكية، وهو تحول سياسي لافت يمنح المسار الجديد قوة دفع لم تتوفر لأي مبادرة منذ اندلاع الحرب.

فقد أعلنت مليشيا الدعم السريع رسميًا ترحيبها بالمبادرة ووصفتها بالجيدة، في إشارة واضحة إلى استعدادها للانخراط في عملية تفاوضية جادة، بعد شهور من التصعيد العسكري والانتهاكات التي أثقلت كاهل المدنيين.

كذلك بدأ المشهد أكثر تفاؤلا حين صدرت مواقف داعمة من أغلب القوى السياسية السودانية، بما فيها أحزاب تاريخية وكيانات مدنية مؤثرة، معتبرة أن التحرك السعودي – الأمريكي هو المسار العملي الوحيد القادر على وقف نزيف الحرب في البلاد.

أما المفاجأة الأبرز فكانت موقف الحركة الإسلامية السودانية التي نظر كثيرون إليها على أنها لا ترغب في وقف الحرب وتدفع باتجاه الحسم العسكري. إلا أن بيانها الأخير، بتوقيع أمينها العام علي كرتي، قدّم قراءة مختلفة تمامًا. فقد عبّرت الحركة عن تقدير بالغ للمبادرة السعودية، ووصفت تحرك ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بأنه “مسعى حميد” يعيد الاعتبار لصوت الحق، ويحمي السودان من أجندات خارجية تسعى لنهب موارده وتقسيم ترابه.

كما أكدت التزامها بسلام عادل يصون كرامة الشعب السوداني ويرفض كل تدخل يستهدف إضعاف الدولة. هذا التحول في موقف الحركة الإسلامية، وهي أحد أكثر الفاعلين تأثيرًا في المزاج السياسي والاجتماعي السوداني، يعكس تبدّلًا عميقًا في مقاربة الحرب، وانتقالًا من منطق “الحسم العسكري” إلى منطق “الاستقرار المشروط”، ما يمنح المبادرة السعودية – الأمريكية مظلة قبول سياسيًا واجتماعيًا لم تكن متاحة من قبل.

وعلى ضوء هذا الحراك والقبول الداخلي، يتوقع أن تتجه الرياض وواشنطن نحو خطوات عملية تشمل: هدنة إنسانية عاجلة لثلاث أشهر للترتيبات الأمنية والإنسانية بضمانات مراقبة دولية تعقبها هدنة أخرى للمسار السياسي لإنجاح الحوار السوداني السوداني بمظلة إقليمية قد تستوجب إدخال أطراف مثل تركيا وقطر ومصر والاتحاد الإفريقي.

ورغم كل هذا التفاؤل، يظل الطريق محفوفًا بتعقيدات محلية وإقليمية، من تشظي القوى المتمردة ، وتعدد مراكز القرار داخلها، وتضارب مصالح دول الجوار، وانعدام الثقة بين الأطراف السياسية. ومع ذلك فإن المبادرة الراهنة تمثل الفرصة الأكثر واقعية منذ اندلاع الحرب، فهي تجمع غطاء دوليًا، وإرادة سعودية قوية، واستعدادًا سودانيًا، لقبول مسار تفاوضي منصف للشعب السوداني والسيادة الوطنية ومفضي لسلام مستدام.

هذا وبحسب #وجه_الحقيقة فإن السودان اليوم على مفترق تاريخي: إما سلام يعيد بناء الدولة، أو استمرار حرب تستنزف الموارد الاقتصادية والشعب. لذلك المبادرة السعودية –الأمريكية، بما حازت عليه من ترحيب واسع، وبإعادة بناء الوساطة الأمريكية على أسس حيادية وفاعلية، قد تكون الجسر الأخير قبل الهاوية، وأفقًا جديدًا يعيد لهذا الوطن مكانته وكرامته واستقراره بعد سنوات من الحرب والنزيف المستمر.
دمتم بخير وعافية.

إبراهيم شقلاوي
السبت 22 نوفمبر 2025م [email protected]

إنضم لقناة النيلين على واتساب

Promotion Content

بعد مماتك اجعل لك أثر في مكة           سقيا المعتمرين في أطهر بقاع الأرض            ورّث مصحفا من جوار الكعبة المشرفة

2025/11/23 فيسبوك ‫X لينكدإن واتساب تيلقرام مشاركة عبر البريد طباعة مقالات ذات صلة تمثال الجندي العائد .. رمزية تتجاوز السياسة2025/11/23 سقوط سردية المدنيين التي دعمت الجنجويد2025/11/22 دارفور… حين تتحول المأسي إلى قوة لطرد الاوباش (عرب الشتات)2025/11/22 توريت… سقوط يكشف هشاشة دولة الجنوب2025/11/22 (التخلي السريع قادم)2025/11/22 خلافات المليشيا حقيقية ولكن2025/11/22شاهد أيضاً إغلاق رأي ومقالات أخيرا العالم يعترف بأن حرب السودان هي حرب تشنها مليشيا مجرمة ضد الشعب السوداني 2025/11/22

الحقوق محفوظة النيلين 2025بنود الاستخدامسياسة الخصوصيةروابطة مهمة فيسبوك ‫X ماسنجر ماسنجر واتساب إغلاق البحث عن: فيسبوك إغلاق بحث عن

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

روسيا التي صنعها بوتين.. كيف أُعيد تشكيل البلاد ؟

قبل أكثر من خمسة وعشرين عاما، ومع مطلع عهد فلاديمير بوتين، كان مستقبل روسيا السياسي يبدو غامضا ومتضاربا. فقد عززت الدولة بعض الحريات وقمعت غيرها؛ وألمحت إلى الديمقراطية، لكنها أبقت على قبضتها المحكمة في إدارة الشؤون السياسية.

فتحت الباب أمام رأسمالية السوق، لكنها سمحت في الوقت نفسه للأوليغارشيين والمقربين من السلطة والمسؤولين بالاستحواذ على تلك الأسواق. وتسامحت مع مساحة محدودة من الصحافة الجريئة وإن كانت تعرض أصحابها للضغوط والتهديد.

والأهم أن ارتفاع أسعار النفط وتحسن مستويات المعيشة وتنامي العلاقات مع الغرب جعلت روسيا تبدو وكأنها توفر حياة مستقرة وواعدة لمواطنيها، ما داموا يلتزمون بالابتعاد عن السياسة.

ما افتقرت إليه الدولة، وليس مصادفة، هو أي توجه أيديولوجي واضح. وكان ذلك انعكاسا مباشرا للواقع السياسي في مرحلة ما بعد 1991، حين اعتاد الروس الشك بعد تجربة تدهور الاتحاد السوفييتي ثم انهياره. فقد أصبح فرض قناعة جماعية مهمة صعبة، ومكاسبها غير مؤكدة.

ومع دخول القرن 21، حمل الروس رؤى متناقضة: هل كانت الشيوعية مشروعا نبيلا أم خطأ فادحا؟ وهل شكل انهيار الاتحاد السوفييتي لحظة تحرر وفرص، أم بداية معاناة؟ في ظل هذا الارتباك، بدا للسلطة أن الحفاظ على مساحة رمادية واسعة - تشبه إلى حد ما عالم السياسة الحزبية الأمريكية - أنفع من فرض عقيدة محددة أو تحديد ما يجب على الناس الإيمان به.

لكن الأمر كان أيضا مسألة قانونية. فقد اعترفت المادة 13 من دستور روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي رسميا بالتنوع الأيديولوجي للدولة، وحظرت تأسيس دولة بأيدولوجية واحدة. حتى بوتين لم يُبدِ أي التزام بهذا المبدأ. كما لاحظ الصحفيان الاستقصائيان الروسيان أندريه سولداتوف وإيرينا بوروجان في كتابهما: أصدقاؤنا الأعزاء في موسكو: القصة الداخلية لجيل مكسور(الشؤون العامة، 2025، 336 صفحة).

أجرى زملاؤهما مقابلة مع بوتين عام ٢٠٠٠، في الأشهر الأولى من توليه منصبه، وسألوه عما إذا كانت روسيا بحاجة إلى أيديولوجية جديدة. رفض الفكرة رفضا قاطعا. وقال: «لا يمكن اختراعها عمدا»، مضيفا أن البلاد بحاجة بدلا من ذلك إلى «تعزيز الدولة والاقتصاد والمؤسسات الديمقراطية، بما في ذلك حرية الصحافة».

اليوم، يبدو هذا وكأنه خيالٌ منسيٌّ منذ زمن. لم يعد الكرملين متمسكا بأي ادعاءات ديمقراطية. يبدو أن بوتين مقدر له أن يحكم إلى أجلٍ غير مسمى، وحتى في المراحل الأخيرة من الانتخابات، يمنع المرشحون المستقلون من الترشح.

اختفت الصحافة الحرة، وكذلك جميع أنواع الحريات الأساسية، مهما كانت محدودة: فضغط «إعجاب» على منشور خاطئ على وسائل التواصل الاجتماعي أو تبرع لمؤسسة تُعتبر غير قانونية يكفيان لعقوبة سجن طويلة.

انقطع الاقتصاد إلى حد كبير عن الغرب؛ السفر إلى أوروبا محفوف بالمخاطر ومكلف ومعقد. والأهم من ذلك كله، استغلت الدولة الأيديولوجية لتبرير نفسها أمام الجمهور وتقديم رواية توجيهية: إمبريالية وعسكرية، محافظة ومعادية للغرب.

كتابان جديدان يتتبعان منحنى هذا التحول، ويعرضان عودة ظهور الأيديولوجية كمسألة محورية لكل من الدولة والمواطن في روسيا اليوم. في كتاب أصدقائنا الأعزاء في موسكو، ينظر سولداتوف وبوروجان إلى جيلهم .

يرويان قصة مجموعة من الأصدقاء والزملاء السابقين، الشباب الروس الذين، على مدار سنوات بوتين، تكيفوا بثبات مع النظام الحاكم، وانجرفوا نحو الأفكار والتبريرات القومية وغير الليبرالية، وانتهى بهم الأمر كمؤيدين لحرب روسيا في أوكرانيا. من خلال تركيز كتابهما على القيم المتغيرة لهؤلاء الأصدقاء، يوضح سولداتوف وبوروجان كيف أن استراتيجية بوتين المتعمدة «لعزل روسيا عن الغرب»، كما قالا، قد قويت من قبل الروس أنفسهم.

في كتابها الأيديولوجية وصنع المعنى في ظل نظام بوتن، (مطبعة جامعة ستانفورد، ٢٠٢٥، ٤١٤ صفحة)، توضح المؤرخة وخبيرة العلوم السياسية الفرنسية مارلين لارويل كيف كانت الديناميكية المتغيرة باستمرار بين الدولة والمجتمع أساسية في قوة بوتن. تشير الكاتبة إلى أن جهود بوتين لبناء أيديولوجية وطنية إمبريالية جديدة لا تعتمد فقط على قيم مفروضة من الأعلى، بل تعتمد أيضا على استغلال الأفكار والتوجهات الفكرية السائدة في المجتمع.

وتشير هذه الكتب مجتمعة إلى أن الأفكار التي حركت حرب روسيا المستمرة في أوكرانيا وصراعها الأوسع مع الغرب، ليست تعسفية أو غير عقلانية، بل إنها نتاج التفاعل الطويل والمتطور بين نظام بوتين والشعب الذي يحكمه.

في الصفحات الافتتاحية من أصدقائنا الأعزاء في موسكو، تم تعيين سولداتوف وبوروجان للتو في صحيفة إزفستيا، صحيفة رسمية سابقة، ثم أصبحت صحيفة مستقلة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.

خلال التسعينيات، اكتسبا قدرا ضئيلا من الحرية الجريئة في قول الحقيقة للسلطة، وسرعان ما وجد المؤلفان أنفسهما مندفعين إلى دائرة نشطة وطموحة من الزملاء والأصدقاء والمنافسين وشركاء النقاش الفكري، وحوارات استمرت لسنوات، وتطورت بالتزامن مع تحول روسيا في عهد بوتين.

منذ بدايات حكم بوتين، بدأت ولاءات أصدقاء موسكو تتغير، حيث صُدم سولداتوف وبوروجان من رد جهاز الأمن الداخلي الروسي على أزمات احتجاز الرهائن في نورماندي- أوستريا ٢٠٠٢ وبيسلان ٢٠٠٤. لاحظا زملاءهم يتأثرون بالجهاز، من كتابة مقالات تصدر مباشرة من الأمن الفيدرالي إلى إنتاج أفلام وثائقية مليئة بنظريات المؤامرة ومعاداة الغرب، وشعرا بأن اثنين من أصدقائهما انتقلوا إلى «الجانب الآخر».

مع نهاية فترة الاستقلال النسبي لصحيفة إزفستيا، بدأ مسار سولداتوف وبوروجان ينحرف عن زملائهم الملتزمين بالقواعد. بدت مقاومة الوضع الجديد بلا جدوى، فتوجه الكثيرون للمسارات المهنية والمالية. في الوقت نفسه، أطلق سولداتوف وبوروجان موقعهما الاستقصائي «Agentura.ru» حول أجهزة الأمن الروسية، مشيرين لاحقا إلى شعورهم بعدم مواكبة جيلهم في منتصف الثلاثينيات.

منذ عام 2008، بدا مسار روسيا السياسي غامضا، مع تنحي بوتين مؤقتا لصالح ميدفيديف، ثم عودته للرئاسة عام 2012 وسط احتجاجات وقمع واسع. مع تصاعد السيطرة السياسية، بدأت الأيديولوجية الروسية الرسمية في الظهور، وبرزت مجموعة من القيم «الروسية» التي دافع عنها بوتين واعتبر معارضوه أعداء للبلاد. وفي هذه الأثناء، تغيّرت مواقف العديد من أصدقاء سولداتوف وبوروجان: بعضهم أصبح مؤيدا قويا للسلطة وشارك في دعم الحروب، بينما اضطر سولداتوف وبوروجان للفرار إلى لندن مع الغزو الشامل لأوكرانيا عام 2022.

يكتشف سولداتوف وبوروجان، أثناء مراجعة مسار أصدقائهما القدامى، أن الكثير من هذه النخبة المثقفة تحوّلت طوعا إلى أدوات في آلة الحرب الروسية، مؤيّدين الغزو وأيديولوجية الكرملين المعادية لليبرالية والغرب.

ويصف المؤلفان كيف يعيش الروس اليوم كما لو كانوا متفرجين على قوى لا يمكن مقاومتها، كما حدث في عهود الاستبداد السابقة. الخيار أمامهم - كما يرونه - إما البقاء خارج النظام مع حتمية الإقصاء والقمع، أو البقاء داخله والقيام بدور فيه. وقد اختار معظم أصدقاء المؤلفَين الطريق الثاني، مدفوعين بالطموح والرغبة في البقاء ضمن المنظومة.

ترى لارويل أنّ قصة أصدقاء سولداتوف وبوروجان تعبر عن القوى العميقة التي شكلت عهد بوتين. فالعلاقة بين النظام والمجتمع ليست استبدادا خالصا، بل علاقة تشاركية قائمة على عقد اجتماعي غير معلن يعاد تشكيله باستمرار.

لكن ثابتا واحدا لم يتغير: قناعة بوتين بأن مهمته هي إعادة روسيا إلى مكانة القوة العظمى. الوسائل وحدها هي التي تغيرت، إذ لجأ النظام إلى خليط من الأفكار- الأرثوذكسية والقيصرية والإرث السوفييتي والشعبوية و»الأوراسية»- لتبرير سياساته وتفسيرها.

توضح لارويل أن نظام بوتين انتقائي ونفعي، لا يقوم على عقيدة سياسية ثابتة، بل يسحب من «مخزن» الأفكار ما يخدم رؤيته ومصالحه في اللحظة. داخل هذه الديناميكية، يمكن للأفكار أن تصعد من النخب إلى القيادة كما يمكن أن تُلقى من فوق نزولا إلى المجتمع.

تضرب مثالا بإيفان إيلين الذي تبنى بوتين بعضا من أفكاره، بينما لم تصمَّم كتاباته أصلا للجمهور العام، بل للنخبة المحيطة بالسلطة. وتشير أيضا إلى «رواد الأعمال الفكريين» الذين يسمح لهم النظام بالدفع بأيديولوجياتهم الخاصة طالما أنها تفيد الدولة أو تتقاطع مع مصالحها- مثل الأوليغارشي المحافظ مالوفيف أو المنظّر المتطرف دوجين، الذي تُستخدم أفكاره بشكل انتقائي كلما احتاجها الكرملين.

وفق تحليل لارويل، بعد عودة بوتين للرئاسة عام 2012، تخلّى النظام بوضوح عن النموذج الغربي الحديث لصالح عقيدة انتقامية تبرز العداء للغرب والليبرالية، وتمجد عظمة روسيا وقادتها عبر التاريخ. تراكمت لدى بوتين والدائرة الأمنية حوله مظالم جيوسياسية- من الثورات الملونة إلى توسع الغرب شرقا- فتحولت إلى رؤية تعتبر النظام الليبرالي العالمي مجرد غطاء للهيمنة الأمريكية ومحاولة لتطويق روسيا.

هذه الرؤية دفعت بوتين إلى تبني دور «مهندس الفوضى» خارج حدوده، ومع تقدم النظام في العمر ازدادت نظرته للعالم تصلّبا. يبرز هنا مفهوم «روسيا الكاتيكونية»، الذي يصور روسيا كقوة مكلفة بحماية النظام العالمي من الانهيار، مستندة إلى مزيج من الأرثوذكسية كدرع روحي والقوة النووية كدرع مادي. في هذا الإطار تبرَر السياسات العدوانية- من ضمّ القرم إلى التدخل في سوريا- وتقدّم كأفعال ضرورية وفاضلة، وهو المنطق نفسه الذي يبرر الحرب الواسعة على أوكرانيا.

منحت الحرب في أوكرانيا نظام بوتين أيديولوجية أكثر تماسكا، إذ أعادت إحياء النزعة الإمبريالية الروسية وجمعت أفكار النظام المختلفة في قضية وجودية واحدة. ثلاثة عوامل خدمت الكرملين: تجنب الهزيمة في الميدان، خوف الروس من خسارة الحرب بغض النظر عن موقفهم من بدايتها، وضمان بقاء سلطة بوتين.

تستعرض لارويل ملامح «الإمبراطورية الروسية» كما يراها النظام: تعزيز نفوذ الدولة خارجيا، واستخدام خطاب قومي، وحماية النظام، ودور بوتين التاريخي الذي لا يُمس. وفي الوقت نفسه، نجحت موسكو في ترويج الحرب للداخل وللجنوب العالمي كـ«حرب تحرير» ضد الهيمنة الغربية، وهو تأطير براجماتي لكنه يعكس جانبا من رؤيتها للعالم.

وبما أن الاندماج مع الغرب بشروط روسية لم يتحقق، ترى موسكو أن التحالف مع العالم غير الغربي لتغيير النظام الدولي هو الخيار الأجدى.

ورغم أن الحرب صنعت دولة أكثر وحدة وأيديولوجية أوضح، إلا أن ذلك لا يعني أن بوتين يملك سلطة مطلقة. فحكمه يوصف بأنه لا يسعى لقولبة عقول الناس بل لتهميش الأيديولوجيات المنافسة وتقديم حوافز ضخمة للولاء. وترصد لارويل بدايات «فاشية مجزأة» يدعو بعض الروس من خلالها إلى عسكرة كاملة، في حين يفضل معظمهم عدم الانجرار للحرب وإبقائها بعيدة عن حياتهم اليومية والاقتصاد الثقافي والمدني.

يستفيد نظام بوتين حاليا من خضوع الناس لا حماسهم، لكن استمرار الحرب سيجبره على تجنيد مزيد من المقاتلين، معظمهم من المناطق الفقيرة التي تُغريها المكافآت المالية. ويعتمد نجاح أيديولوجية الدولة على قدرة الكرملين على حماية الطبقات العليا والمتوسطة من تأثير الحرب.

تتوقع لارويل أن الحرب ستنتهي، لكنها لا ترى أنها ستقود إلى انفتاح ليبرالي جديد؛ فالإعجاب السابق بالغرب تلاشى داخل المجتمع والنخبة. مؤيدو الحرب يرون الغرب عدوا، وحتى معارضوها يشعرون بالمرارة تجاه عجز الغرب وموقفه العقابي من الروس. كما أن الأوروبيين، في 2024، دفعوا لشراء الطاقة الروسية أكثر مما قدموا لأوكرانيا من مساعدات.

جوشوا يافا مراسل صحيفة النيويوركر في موسكو عين زميلا في مؤسسة نيو أمريكا لجهوده في روسيا، وحائز على جائزة برلين من الأكاديمية الأمريكية

عن فورين أفيرز «خدمة تربيون»

مقالات مشابهة

  • الحرب السودانية .. كيف وصلت أسلحة ألمانية لقوات الدعم السريع؟
  • رئيس الوزراء السوداني كامل إدريس يعلق على مبادرة ترامب وبن سلمان لانهاء الحرب في السودان
  • الحكومة السعودية تتجه غرباً… قفزات داخل المشهد السوداني
  • السلام العادل والمنصف.. دلالة العبارة في بيان حكومة السودان
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: السعودية وإحلال السلام في السودان
  • وزير التنمية الاجتماعية السوداني للجزيرة نت: حجم المعاناة أكبر مما يراه العالم
  • روسيا التي صنعها بوتين.. كيف أُعيد تشكيل البلاد ؟
  • رئيس الوزراء السوداني: مستعدون لانخراط جاد مع الرياض وواشنطن لإحلال السلام
  • ترحيب سودانى بالجهود الأمريكية لإحلال السلام العادل والمنصف فى السودان