الابتزاز الإنساني.. كيف تستخدم بعض الدول سياسة تجويع شعوبها للضغط على الغرب؟
تاريخ النشر: 18th, August 2023 GMT
منذ ما يقرب من عقد من الزمان، يعتمد ما لا يقل عن أربعة ملايين شخص يعيشون في أجزاء من شمال غربي سوريا تسيطر عليها الجماعات المتمردة على الأمم المتحدة للحصول على الغذاء والدواء والخدمات الأساسية، لكن هذه المساعدات لا تزال تخضع لحسابات القوى الكبرى.
وينقل تحليل من مجلة "فورين بوليسي" أنه في عام 2014، مع اندلاع الحرب الأهلية في البلاد، حصلت الأمم المتحدة ووكالات الإغاثة الأخرى على موافقة مجلس الأمن لإيصال الإمدادات الأساسية عبر الحدود السورية التركية دون إذن من النظام السوري.
لكن كل ذلك تغير، في 10 يوليو من هذا العام، عندما استخدمت روسيا، الحليف المقرب من رئيس النظام السوري، بشار الأسد، حق النقض "الفيتو" ضد تمديد إيصال المساعدات عبر شريان الحياة الإنساني هذا.
وفي أغسطس الجاري، أعلنت الأمم المتحدة أنها توصلت إلى اتفاق لمدة ستة أشهر مع نظام الأسد لإعادة فتح المعبر واستئناف تسليم المساعدات، ولكن مقابل تنسيق المساعدات الإنسانية مع النظام.
وبالنظر إلى رفض النظام تقديم المساعدات للمتواجدين في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، فإن الاتفاق يبطل فعليا الغرض الأصلي من دعم الأمم المتحدة لعمليات التسليم عبر الحدود، والتي كان تهدف إلى توفير المساعدات المنقذة للحياة لملايين الأشخاص، وفق التحليل.
وما يحدث في سوريا لم يعد فريدا، إذ بعد أسبوع من سحب موسكو تسليم المساعدات في سوريا، انسحب الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، من مبادرة حبوب البحر الأسود، التي سمحت لأوكرانيا بتصدير جزء من منتجاتها الزراعية إلى العالم على الرغم من الحرب. ونتيجة لذلك، بدأت أسعار الغذاء العالمية في الارتفاع.
ويحتاج المانحون إلى نهج جديد لحل الصراعات في عالم متعدد الأقطاب، وعليهم أن يدركوا أن المفاوضات الإنسانية ليست بديلا عن حل الصراعات.
ومنذ عام 2005، تضاعف عدد النزاعات في جميع أنحاء العالم، وتضاعفت مدتها المعتادة ثلاث مرات، وفقا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية. وفي مواجهة الأولويات الجيوسياسية المتنافسة والمنافسة المحتدمة بين القوى العظمى، يتضاءل الاستثمار السياسي والاهتمام اللازمين لإنهاء هذه الصراعات.
وإثيوبيا وليبيا وميانمار والسودان واليمن نماذج للبلدان المتورطة في نزاعات طويلة الأمد وهي عرضة باستمرار لتجدد العنف.
وبدلا من ذلك، لا تزال الدول المانحة الرئيسية، في المقام الأول الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون، منغمسة في هذه الصراعات من خلال نظام المساعدات الإنسانية الدولي.
ومع استمرار الأزمات، غالبا في الأماكن التي تتمتع فيها الصين أو روسيا بنفوذ كبير، فإن الأمر متروك للجهات الفاعلة الإنسانية للتفاوض على إيصال المساعدات مع الأنظمة التي تحاول عمدا عزل شعوبها وتجويعها.
ويشير التحليل إلى أن معظم المنظمات الإنسانية الدولية غير سياسية، وبالتالي فهي غير راغبة في استخدام ما لديها من نفوذ ضئيل للحد من الأزمات التي تعالجها، حتى لحماية المدنيين.
وتلتزم المنظمات الإنسانية الدولية بمبدأ الحياد الأساسي على أمل أن يشجع ذلك المتحاربين على حماية العاملين في المجال الإنساني وإيصال المساعدات. ومع ذلك، من الواضح بشكل متزايد أن الحياد لا يؤدي إلى الهدف المنشود، إذ تم استهداف العاملين في المجال الإنساني ومنع المساعدات، وهو تكتيك حربي، بحسب تحليل المجلة.
ومع ذلك، تواصل الأمم المتحدة والدول المانحة الرئيسية الاعتماد على مفاوضات إيصال المساعدات الإنسانية رفيعة المستوى لإدارة النزاعات.
وتخلص المجلة في تحليلها إلى أن الدبلوماسية الإنسانية ضرورية لمعالجة معاناة المدنيين، ولكنها غير كافية لحل صراعات العالم، وبدلا من ذلك، ينبغي على الدول المانحة التركيز على الدبلوماسية رفيعة المستوى لحل النزاعات، بدعم من أدوات سياسية أخرى، بما في ذلك الأدوات الاقتصادية، مثل سياسة العقوبات.
المصدر: الحرة
كلمات دلالية: الأمم المتحدة
إقرأ أيضاً:
هل يتقوض المجتمع الدولي والهيئات الأممية؟
أقرت الحكومة الأمريكية الأسبوع الماضي عقوباتها على المقررة الخاصة لحقوق الإنسان فرانشيسكا ألبانيز الحقوقية الإيطالية المتخصصة في القضية الفلسطينية. كما قامت بالضغط على هيئة الأمم المتحدة ورئيسها للاستغناء عن خدماتها؛ وذلك إثر رسائل ألبانيز المثيرة والفاضحة للجرائم الإسرائيلية، والمعززة بالأدلة. بينما علقت ألبانيز على ذلك بما يعكس وعيها وموقفها قائلة: «علينا أن نركز الأنظار على غزة الآن، لكن يبدو أني لمست الوتر الحساس».
اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية -بفعل سياسات الحكومة الحالية- يبدو الوضع طاردًا للكثيرين لا سيما الأمريكيين أنفسهم، حتى بدأنا نرى الأكاديميين يخرجون بالمئات إلى جامعات العالم وخاصة فرنسا. وتلك السياسات أغلبها يتعلق بحرية التعبير، ومناهضة الجرائم الإسرائيلية تحت الغطاء الأمريكي. كما يبدو أن تقدم عالمنا التقني لا ينعكس بنفس المستوى على تقدمنا الأخلاقي والإنساني، بل العكس؛ صارت التقنية اليوم في خدمة الإجرام والتخلف الحضاري، وتحولت التقنية بسرعة مفزعة إلى سلاح سيطرة وتحكم، بل قتل وإجرام.
مع ذلك ما انفك أنطونيو غوتيريش الأمين العام الحالي للأمم المتحدة يدين الجرائم الإسرائيلية منذ بدايات الحرب على غزة، لكن الهيئة الأممية التي يرأسها تبدو اليوم في ذكرى تأسيسها الثمانين في حال يرثى لها من العجز والضعف وانعدام الفاعلية، خاصة تجاه قضية إنسانية ملحة كقضية أهل غزة المقتلين المحاصرين الجياع.
منذ نهاية القرن الماضي وبداية هذا القرن بدأت الدول الكبرى ترى نفسها فوق الهيئات الدولية، وأوجدت لنفسها المبررات والصيغ المختلفة لتقويض تلك الهيئات الدولية وتجاوزها، وهو الأمر الذي جر كوارث لاحقة على الدول الأضعف إذا استعدنا وضع العراق وأفغانستان وليبيا وسوريا مثلًا، بعد أن وضعت الدول الكبرى ثقلها في تفتيتها، وتسليمها ليد الخراب بشكل مباشر وغير مباشر. وكل ذلك جرى بتحالفات خاصة خارج مظلة الشرعية الدولية الأممية.
واليوم يرى الناس في الأمم المتحدة هيئة أممية ضعيفة عاجزة عن محاسبة الدول القوية، وأصبحت قراراتها معطلة، وغير ملزمة، هي وبقية المنظمات والهيئات الدولية التي تتعرض اليوم لضغط كبير معنوي ومادي يأتي من الدول الكبرى نفسها كما شهدنا في سحب الدعم الأمريكي عن منظمة الصحة العالمية. وكل هذا يهدد بلا شك بتقويض مجتمعنا الدولي المعاصر، ويفضي لمنطق الغاب وتسيد الأقوى، وهو المنطق الذي لن يؤدي إلا إلى الهلاك المحتم؛ فكما لا يمكن للمجتمع البشري الصغير أن يمارس حياته دون مرجعيات التنظيم الاجتماعي، فكذلك المجتمع العالمي لا يمكنه أن يحقق شيئًا يذكر إذا عاد لمنطق سيادة الأقوى في غياب الشرعية الدولية.
لم تعد الشرعية الدولية خيارًا في عالمنا المعاصر، بل ضرورة. وبدون تلك الشرعية يتهاوى العالم المعاصر، ويعود إلى عصور الظلمات عصور صراع القوى المختلفة، والحروب الطاحنة التي لا تتوقف، ولا تجد من يوقفها. وجزء كبير من الطغيان الأمريكي والإسرائيلي اليوم، واستباحاتها المتعددة لسيادة الدول سببه غياب فاعلية الشرعية الدولية. كما أن غياب الشرعية الدولية وفاعليتها هو الذي يكاثر الجماعات المسلحة الممولة من الخارج التي تستبيح الدماء، وتنشر الفوضى خدمة لمصالح خارجية كما نراه اليوم في الانقسامات والانشطارات الداخلية التي لا تتوقف، والحكومات العاجزة لفقرها وتفشي الفساد داخلها من الوقوف في وجه تلك الجماعات المسلحة، والحفاظ على وحدة بلدانها وأمن سكانها، دون دعم المنظومات الدولية المتفككة.
لا شك أن هيئة مثل الأمم المتحدة حملت في تأسيسها جزءًا من بذور ضعفها؛ وذلك بالأفضلية التي أعطتها للدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية. ولكن ذلك العجز كان يمكن إعادة هيكلته وتنظيمه وتطويره بحيث يحقق المزيد من العدالة بدل تلبية المصالح الحصرية للدول «الدائمة». ورغم حدوث بعض التعديلات الطفيفة اللاحقة خاصة في نظام مجلس الأمن؛ لكنها كانت مبشرة بالاتجاه أكثر لفك الارتباط بهيمنة الكبار، إلى هيئة دولية تتوخى العدالة أكثر في نظمها، وذلك أفضل من تدمير هيئة الأمم المتحدة برمتها، والمثل العربي يقول ما لا يُدرك جله لا يُترك كله. لكن ذلك النظام الأممي كما يبدو لم يعد يناسب الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها منذ سقوط الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن الماضي.
ولعل القضية المفصلية التي تكشف عجز الأمم المتحدة اليوم هي القضية الفلسطينية، وهي قضية كاشفة على كل الصعد؛ ذلك أن عدم الانصياع الإسرائيلي المستمر للقرارات الأممية بلغ مداه، وذلك بفضل كل الدعم والاستخدام الأمريكي لحق النقض «الفيتو» تجاه كل إدانة أممية لإسرائيل، إلى الدرجة التي منعت فيها اليوم منظمات الإغاثة من العمل على تقديم المساعدة الإنسانية الأساسية للمنكوبين في غزة، فأين يفضي ذلك بالعالم بأسره؟
إن تعطيل أعمال الأمم المتحدة وهيئاتها التي ظلت تعمل من أجل مبدأ إنساني سام، وكل تدخلات الدول الكبرى، خاصة أمريكا، ومحاولاتها للتحكم والسيطرة على هيئة الأمم المتحدة، وجعلها هيئة مطواعة لخدمة أغراض الهيمنة والسيطرة والتحكم- كل تلك التدخلات أفسدت، بل خربت قيمة ووزن هيئة الأمم المتحدة لدى الدول المختلفة. ولا شك أن حالات النقض المستمرة لإدانة إسرائيل ومحاسبتها على جرائمها كانت المثال الأبرز.
وفي الواقع؛ إن استمرار هيئة الأمم المتحدة وبقية الهيئات الدولية في العمل يمضي بخط معارض ومناقض لسياسات الهيمنة والسيطرة، وإن لم يكن ذلك بارزًا جدًا فإن مجرد التركيز على حجم التعارض اليوم بين سياسات إسرائيل ومنهج الأمم المتحدة يبين لنا حجم الخلاف ونقاط الصدام بين الطرفين؛ وكل ذلك لسبب بسيط أن الهيئات الدولية تنطلق من مبادئ حقوق الإنسان والعدالة، بينما الأخرى تنطلق من مبدأ القوة والنفوذ، فلذلك نجد إسرائيل لا تلتزم بالقوانين الدولية، ولا تحترم المنظمات الدولية، بل تعتبرها، أو تريد أن تصورها، كمنظمات مهمتها العمل من أجل إسرائيل لا أكثر.
لا نعني بذلك أن هيئة الأمم المتحدة هيئة منزهة، أو خالية من المشكلات الإدارية المختلفة، أو شبهات الفساد والإفساد، كما هو حال أغلب نظمنا اليوم بنسب مختلفة. لكن ذلك ليس مبررًا لتقويض الأمم المتحدة، وإغفال أدوارها للمساعدات، وحفظ السلام، وحل المشكلات بين الدول، وإدانة الانتهاكات، فالسعي لتقويضها وتهميشها أصبح من الوضوح بحيث يروج في أوساط كثيرة، حتى خارج الدوائر السياسية، كما كتب الأسبوع الماضي الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا مقاله الذي يقول فيه بصراحة: إن السعي لتقويض المجتمع الدولي وهيئاته خطأ محقق، وهو خطأ بكل تأكيد، ولا يخدم غير الفوضى، وهي الفوضى التي تظن الدول المتسلحة حتى أسنانها بأنها المناخ الأنسب لبقائها وممارساتها وسياساتها.
لو افترضنا أن العالم دخل في الفوضى فعلًا، وأن كل دولة عليها أن تعمل بنفسها على حماية نفسها ومصالحها دونما أي مرجعية قانونية أو دولية غير اعتباراتها الذاتية، واعتبارات حكوماتها؛ فإن الناتج هو أن كل الدول ستسعى بالتالي للنموذج الإسرائيلي الحالي؛ لأنه هو المثال الأبرز، وما الذي يحصده هذا النموذج الإسرائيلي اليوم على الأرض نفسها؟ نظام يحترف السرقة، ويحث مواطنيه ويسلحهم لهذا الغرض، ومواطنون مرعوبون يهرعون للهرب خارج البلاد، وسكان أصليون يعيشون محاصرين بجدران العزل العنصرية محرومين من حرية التنقل داخل بلادهم وخارجها، حياتهم اليومية مقطعة الأوصال بنقاط التفتيش العسكرية، معرضين لصنوف القتل بمختلف الوسائل وأبشعها كما نرى إلى اليوم في غزة، وباختصار نموذج دولة النظام العسكري الفاشي الذي يعود للنصف الأول من القرن العشرين ذلك الذي يسجن نفسه بنفسه حتى ينهار بثقله الذاتي، ويطلق على نفسه أو يجبر العالم على أن يطلق عليه رصاصة الرحمة. تلك النظم القومية المتعصبة في آخر نماذجها الحية متجسدة في إسرائيل الربيبة المزدوجة للنازية والحلفاء معًا. وأي نكبة هي للعالم إذا كانت إسرائيل التدميرية هي نموذج المستقبل؟
إبراهيم سعيد شاعر وكاتب عُماني