بين الشّتات والأمل: عربي21 تتابع رحلة المعاناة للمغاربة العالقين في سوريا
تاريخ النشر: 19th, December 2024 GMT
من نواحي مدينة حماه السورية، وجّه شاب مغربي تحيّته، عبر مقطع فيديو، يُعرب فيه عن فرحته بسقوط نظام بشار الأسد، بالقول: "الله فتح علينا، وما النصر إلاّ من عند الله". مقطع جاب مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، وأعاد ملف: "المغاربة العالقين بسوريا" للواجهة.
منذ اندلاع الحرب في سوريا قبل عقد من الزّمن، وجد مئات المغاربة أنفسهم غارقين في خضمّ مأساة توصف بكونها "مركّبة"، بين العيش بأرضٍ اشتعلت حربا تحت أقدامهم، وصعوبات أمنية بالجُملة، تحول بينهم وبين العودة لبلدهم.
عرض هذا المنشور على Instagram تمت مشاركة منشور بواسطة Mohamed El Moubarik (@mohamed_el_moubarik)
رحلة العودة للمغرب أشبه بمعجزة بالنسبة إليهم، على الرغم من سقوط نظام بشار الأسد؛ وتعليق وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، ناصر بوريطة، الإثنين 9 كانون أول/ ديسمبر الجاري: "المملكة المغربية تتابع عن كثب التطورات المتسارعة والمهمة التي تشهدها سوريا، وتأمل أن تسهم في تحقيق آمال الشعب السوري في الاستقرار والتنمية".
عدد المغاربة المسجونين أو المحتجزين لدى قوات سوريا الديمقراطية "قسد" يصل إلى 561 شخصا يتوزعون بين 135 رجلا، و103 امرأة، و292 من الأطفال المرافقين لأمهاتهم، و31 طفلا يتيما. وفقا لعائلات المغاربة العالقين والمعتقلين في سوريا والعراق.
ترصد "عربي21" خلال هذا التقرير، كل من الصعوبات الأمنية والدّواعي الإنسانية التي يواجهها المغرب، لإعادة المغاربة العالقين في سوريا، عقب سقوط نظام الأسد.
هنا الرباط.. حيث رجاء العائلات
"هؤلاء مواطنون مغاربة، أبناء هذا الوطن العزيز، يعيشون ظروفا لا يتحمّلها بشر، بعد أن تمّ التغرير بهم" بهذه الجملة أعربت عائلات المغاربة العالقين والمعتقلين في سوريا والعراق، عن حزنها من الصعوبات الأمنية التي يواجهها المغاربة الراغبين للعودة من سوريا، عقب سقوط نظام بشار الأسد، قبل أيّام.
العائلات ذاتها، كشفت بعد ساعات من سقوط نظام الأسد، عن: "خروج معتقلين مغاربة من سجون النظام السوري، بعد الإفراج عنهم من طرف قوات المعارضة لهيئة تحرير الشام".
فيما لا تملك معلومات إضافية عن مصير باقي المعتقلين المغاربة في المناطق السورية المتفرٍّقة.
وأوضحت العائلات، عبر بلاغ، وصل "عربي21" نسخة منه: "نتوجّه بالنداء العاجل إلى الملك محمد السادس، وإلى كل المسؤولين في المغرب بأن ينظروا بعين الرّحمة إلى الوضع المأساوي الذي يعيشه المغاربة العالقون في سوريا، خاصة النساء والأطفال والمعتقلين".
على مدار سنوات مضت، لم تتراجع العائلات يوما عن رغبتها في إعادة أبنائها وأحفادها القابعين في سوريا، حيث ظلّت تُصدر البيانات، وتنزل في احتجاجات متعدّدة بقلب العاصمة المغربية، الرباط؛ فيما راسلت بالوقت نفسه، وزارات الخارجية والداخلية والعدل، إضافة إلى رئاسة الحكومة، موجّهة لهم: نداء مستعجلا بغية إنقاذ أبنائها.
وقالت العائلات، عبر البلاغ نفسه: "إن صرخات هؤلاء المغاربة تصل إلى كل من لديه ضمير حي. نناشدكم أن تجعلوا هذا الملف أولوية قصوى، فإهمالهم أو تأجيل النظر في قضيتهم يعمّق معاناتهم، ويضعنا جميعا أمام مسؤولية أخلاقية ثقيلة".
"إنقاذ هؤلاء الأرواح لا يعكس فقط قيم الإنسانية التي يفخر بها بلدنا، بل يؤكد أيضا التزام المغرب بمسؤوليته تجاه كل مواطن ومواطنة، مهما كانت الظروف. نأمل أن تكون هذه المناشدة بداية لتحرك جاد ينهي معاناة هؤلاء المواطنين، ويعيد لهم حقهم في الحياة الكريمة تحت سماء وطنهم" وفقا للبلاغ نفسه.
المنسق الوطني للتنسيقية الوطنية لعائلات العالقين والمعتقلين المغاربة في سوريا والعراق يناشد عبر إذاعة شدى إف إم الدولة المغربية وجلالة الملك محمد السادس لاسترجاع المغاربة المحتجزون والمعتقلون عند الأكراد بسوريا إلى وطنهم المغرب pic.twitter.com/iy7hOqEjI5 — أبو الزبير (@Garnaouym) December 18, 2024
كيف بدأ كل شيء؟
منذ بدء الأحداث قبل سنوات، توجّه عدد من المغاربة نحو سوريا، وبينما اختلفت أسبابهم، بين راغب في العمل، ومُنظمّ لجماعات مسلحة. فجأة، تشابهت معيشتهم، فوجدوا أنفسهم فيما يوصف بـ"الورطة"، بقلب أرض باتت مصيدة يصعبُ الفكاك منها، بحسب وصف عدد منهم، على مرّ السنوات.
مغاربة كُثر، استوعبوا عُمق المأساة، وتراجعوا عن قرارهم بالبقاء في سوريا، فأرادوا العودة للمغرب، لكن الصعوبات الأمنية حالت دون ذلك، على الرغم من تواصل بعض منهم مع الجهات الرسمية المغربية، إلاّ أن الأمر كان "معقّدا ومتشابكا" حتّى للجهات الرسمية نفسها.
الصحافي المغربي المختص في قضايا الهجرة واللجوء، سعيد المرابط، اشتغل لسنوات على قصص لعدد من المغاربة المتواجدين بسوريا، يقول في حديثه لـ"عربي21": "السلطات المغربية تتعامل مع هذا الموضوع بنوع من الغموض".
وأوضح: "المغرب رفض الاعتراف بالعديد من الأطفال، والمقاربة المعتمدة في التعامل، هي مقاربة أمنية؛ تعتمد على التمييز بين عنصرين أساسيين، المقاتلون، ونساؤهم وأطفالهم".
"المشكل أنهم ليسوا نشطاء حقوقيين، بل مقاتلين وحملة سلاح، وهذا هو ما يجعل عودتهم ذات طابع أمني؛ أما النساء والأطفال، فإن عودتهم تحتاج إرادة سياسية حقيقية، لأنهم في النهاية، ضحايا لواقع لم يختاروه هم" بحسب المرابط.
أطفال بلا هوية..
أشار المختص في قضايا الهجرة واللجوء، في حديثه لـ"عربي21" إلى أن هناك حالة لسيّدة مغربية بتركيا، تنحدر من مدينة فاس، رفضت السلطات المغربية عودتها؛ وعقب أشهر، منحتها بطاقة هويّة، لكنها لم تمنح لأطفالها، وهو ما حال دون عودتها بدونهم.
أيضا، قبل سنوات، ذاع صيت أسرة الزبير الحسناوي، وهي واحدة من أسر كثيرة قرّرت يوما السفر لسوريا، ففتحت أمامها أبواب معاناة انتهت بعُسر؛ حيث لم يكن قادرا على إعادة بناته الثلاث للمغرب، وظلّ جاهدا في الأمر، على مدار أربعة سنوات.
أسرة الحسناوي، دقّت جميع الأبواب، إلى أن وجّهت الطفلات الثلاث، العالقات آنذاك في تركيا، رسالة للملك المغربي محمد السادس، عبر مقطع فيديو قالت فيه: "أنت ملكنا وأبانا الكبير وكل ما نريده هو العودة إلى بلدنا؛ نحن محرومات من التعليم والتطبيب والحرية، وأمنيتنا العودة للمغرب".
وبعد أشهر، قرّرت السلطات المغربية السماح بعودته رفقة زوجته وبناته الثلاث؛ فيما قال الحسناوي في تصريحات صحافية: "ليس لديّ أي مشكل في المساءلة القانونية، لأنني أعي تماما ما قمت به، ولولا بناتي كُنت عدت قبل زمن بعيد، لكي أبدأ حياتي من جديد".
ولأكثر من عشر سنوات، أمضى الحسناوي حياته بسوريا، قضى خلالها السجن، مع محاولات عدّة للهروب نحو تركيا، قبل أن يتمكّن من ذلك هو وزوجته وبناته. وفي تركيا، اكتشف من القنصلية المغربية، أن عودته هو وزوجته مسموح بها، ولكن دون بناته الثلاث، لكونهنّ ولدن بين سوريا وتركيا، ولا يملكن أي وثائق ثُبوتية.
الحسناوي تخلّص من واقعه الصّعب، قبل سنوات، لكن اليوم، هناك آلاف الأطفال العالقين دون أوراق هوية، بلا وطن، ووطنهنّ الأم رافض لعودتهم، إثر صعوبات أمنية بالجُملة. ليشكّلوا الحلقة الأضعف في هذه المأساة الإنسانية الصّعبة، حيث بات هؤلاء الأطفال عالقين بين هويتين لا يملكون أيّ منها.
بين القانون والإنسانية..
العلاقات الدبلوماسية بين الرباط ودمشق، قُطعت رسميا، بعد عام من بداية الثورة السورية، خلال تموز/ يوليوز 2012، حين أعلمت وزارة الخارجية المغربية، السفير السوري بالمغرب آنذاك، نبيه إسماعيل، أنّه: "غير مرغوب فيه في الرباط". بالمقابل غادرت البعثة الدبلوماسية المغربية من العاصمة دمشق. بعد تبليغها ذلك، رسميا.
وخلال أيار/ ماي الماضي، كان المغرب قد رحّب بعودة سوريا إلى الجامعة العربية، معتبرا أن ذلك يجب أن يمثل شُحنة لإطلاق مسار سياسي يفضي لحل شامل ودائم للأزمة في هذا البلد؛ فيما قال وزير الشؤون الخارجية المغربية، آنذاك: "الخير لا يأتي بالفرقة والانقسام بل بالوحدة والتكامل".
كذلك، استحضر بوريطة، في كلمة له خلال الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب بالقاهرة، بشأن سوريا، الرّوابط التاريخية بين المغرب وسوريا، معبّرا عن أسفه لما طال هذا البلد العريق من محنة وعنف واضطراب طيلة الإثني عشرة سنة الماضية.
اليوم، برحيل نظام بشار الأسد المخلوع، الذي شكّل حجرة عثرة لواقع جديد، عادت جُملة من الأسئلة للواجهة: ما مصير آلاف المغاربة الراغبين في العودة لوطنهم؟ وكيف يمكن أن يتعامل المغرب مع هذا الملف الجامع بين المسؤولية الإنسانية والتحديات الأمنية؟؛ خاصة في ظلّ قطيعة بين البلدين دامت لـ12 عاما.
وفي تحليله للوضع الجاري، يقول الأستاذ الباحث في العلاقات الدولية، حسن بلوان: "إثر التغيرات الجذرية التي طالت النظام بسوريا، يمكن الحديث عن الملف، بتضافر شرطين أساسيين: الانتقال السلس والسريع لشأن الحكومة السورية الجديدة. وفتح المغرب قنوات الاتصال مع هذه الحكومة؛ التي لن تنسى وقوف المملكة مع الشعب السوري، وتحفظها الدائم على ممارسات نظام الأسد".
ويرى بلوان، في حديثه لـ"عربي21" أنّ: "العالقين المغاربة في المخيمات بسوريا، لابد أن يجدوا طريقهم لوطنهم الأم على المدى القريب والمتوسّط، بحكم التعقيدات الأمنية والسياسية والحقوقية التي ترافق هذا الملف، ذي الطبيعة الحسّاسة".
وتابع المحلل السياسي نفسه: "إذا ما تراكمت المجهودات السابقة والحالية، لابد أن يتم طي هذا الملف، والمغرب مستعد لاحتضان المغاربة العالقين والمحتجزين، ومن المؤكد أن يستعدّ دبلوماسيا وقانونيا واجتماعيا لذلك".
لطي الملف.. مشوار عسير
تماشيا مع مقتضيات القانون الدولي الإنساني، ظلّت عشرات النّساء المحتجزات في مراكز الاعتقال بسوريا، وهنَّ في الغالب زوجات قادة ومقاتلين، خلال عام 2020، تُطالب بضمان عودتهنَّ للمغرب، خوفا من: "بطش التنظيمات المتطرّفة".
آنذاك، أكّدت السّلطات المغربية تواجد: "280 مغربية رفقة 391 طفلا في بؤر التوتر في الشّرق الأوسط"، مضيفة أن "هناك جهودا من المغرب للتدخل". فيما قالت تركيا إنّها تحتفظ بعدد من النساء المغربيات اللواتي فررن من ويلات الاحتجاز والأسر في سوريا.
ولأن الملفّ يوصف بـ"المعقّد والمُتشابك"، قرّر البرلمان المغربي، خلال عام 2021 تشكيل: "المهمة الاستطلاعية المؤقتة للوقوف على حقيقة ما يعانيه العديد من الأطفال والنساء والمواطنين المغاربة العالقين ببعض بؤر التوتر كسوريا والعراق".
المهمة البرلمانية التي يتداخل فيها ما هو إنساني بالجانب الأمني، أحاطت بما يمكن أن تشكله عودة "مقاتلين مغاربة" تدربوا على صناعة المتفجرات وحمل السلاح وتنفيذ عمليات إرهابية من "خطورة".
وبحسب المهمّة نفسها، آنذاك، فإن: "1659 جهاديا مغربيا غادروا المغرب للانضمام إلى حركات إرهابية مختلفة في المنطقة السورية العراقية، منهم 290 من النساء و628 من القاصرين، وعاد منهم 345 مقاتلا".
وأشارت المعطيات الأمنية المغربية، آنذاك، إلى أنه: "مازال بالمنطقة ذاتها 250 مقاتلا معتقلا (232 في سوريا و12 بالعراق و6 بتركيا) إلى جانب 138 امرأة، من بينهن 134 بالمخيمات التي تحرسها القوات الكردية، إضافة إلى حوالي 400 قاصر، من بينهم 153 فقط تأكد أنهم مزدادون بالمغرب".
وقال وزير العدل المغربي، عبد اللطيف وهبي، حينها: "بعض الأطفال كانوا يلعبون الكرة برؤوس البشر وحضروا عمليات إعدام وتدربوا على حمل السلاح"، فيما أقرّ بـ"صعوبة حل الملف دون تضافر جهود جميع القطاعات المعنية".
وتساءل رئيس المهمة الاستطلاعية، سليمان العمراني، عن ضمانات عدم عودة "المقاتلين" إلى: "تبنّي الفكر المتطرف في حالة إعادتهم إلى البلاد ومحاكمتهم وفق القانون المغربي"، مشيرا إلى أنّ: "المقاربة الأمنية تخشى من حالة العود، خصوصا أن بعض -الجهاديين- نسجوا علاقات دولية في مجال شراء السلاح"، فظلّ الملف على حاله.
وفي عام 2022 نسّقت وزارة العدل مع عدد من الجهات المعنية لـ"تسريع إيجاد حل لملف المغاربة العالقين في سوريا من أجل إعادتهم إلى المغرب، مع إعطاء الأولوية للنساء والأطفال".
إلى ذلك، تتشابك خيوط معاناة المغاربة العالقين في سوريا، بين ما هو أمني وسياسي وقانوني وأيضا إنساني؛ وفيما لا ينكر أحد "حساسية الملف"، يزداد وزن المعاناة يوما تلوى الآخر، خاصة على النساء والأطفال. لتحضر مقولة غسان كنفاني، بين ذاكرتهم: "الغريب هو أن يضيع الإنسان عن وطنه، ثم يضيع الوطن عنه".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة سياسة عربية مقابلات حقوق وحريات سياسة دولية الأسد سوريا المغربية سوريا الأسد المغرب الحكومة المغربية المزيد في سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المغاربة العالقین نظام بشار الأسد سوریا والعراق سقوط نظام هذا الملف إلى أن عدد من
إقرأ أيضاً:
درعا بعد التحرير.. أنوار العودة وحلكة المعاناة
درعا- عبّر اسم درعا دومًا عن بوابة سوريا على التاريخ والكرامة، وهي المدينة التي تعيش اليوم مرحلة ما بعد التحرير متأرجحة بين واقع مأزوم وآمال متعبة ترمق القادم عسى أن يكون أجمل.
منذ إعلان سقوط نظام الأسد وتحرير سوريا لم تتغير تفاصيل المعاناة اليومية كثيرا، بل ربما ازدادت تعقيدا في جوانب عديدة، وكأن الحرب غادرت برحاها الفاتكة، لكنها تركت خلفها معارك طاحنة صامتة تدخل في تفاصيل الحياة اليومية.
في شوارع درعا، تعود الحركة خجلى؛ هناك صبية يذهبون إلى المدارس بأحذية ممزقة وحقائب خالية من الدفاتر، وفي الطرف الآخر كبار يتجولون في الأسواق وأعينهم تدور في رؤوسهم من الهم على أمل العثور على سِعر مقبول أو فرصة عمل عابرة، بينما يعرض الباعة بضاعتهم المحدودة الباهظة الثمن، وفي خلفيّة المشهد لا تستطيع روائح التوابل الفواحة أن تخفي مرارة الغلاء.
وفي جولة بالأسواق التي كانت يوما تعج بالحياة، لا تخطئ العين ما تشاهده من ركود اقتصادي، والسبب لا يعود فقط إلى فقر الجيوب وجفاف السيولة المالية، بل إلى تعقيد الأوضاع الاقتصادية والسياسية التي تلقي بظلالها على كل تفاصيل الحياة اليومية لا سيما المعيشية منها.
يقول أبو خالد وهو تاجر في حي الكاشف منذ 20 عاما، "الناس تعود إلى البلاد بعد طول اغتراب وتهجير، لكن الحياة لا تعود كما كانت أبدا؛ فالكهرباء تأتي 3 ساعات فقط، والمياه لا تصل إلا يومين في الأسبوع، من يستطيع أن يعيش في ظل هذا التهالك والقسوة؟".
على الصعيد الإنساني، فإن قصص العودة تفوق في قسوتها مشاهد النزوح والتهجير، كثيرون رجعوا ليجدوا بيوتهم مهدمة أو منهوبة أو غير صالحة للسكن، فكثير من العائلات تعيش اليوم بين الركام، تصنع من الستائر أبوابا، ومن الأحجار أرائك، ولا تدري أين تذهب.
إعلانبحسب التقارير الأممية، فإن أكثر من 82% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، ولعل المعاين للواقع يكتشف أن النسبة أكبر من ذلك، وذلك ما تجسده درعا بوضوح.
وفي حوران -بالذات- الملقبة "أم اليتامى"، لم يكن الفقر جديدا، لكنه اليوم صار أكثر شراسة ونهشا للإنسان ووضوحا للعيان، ولا سيما أنه يترافق مع انعدام الخدمات وغلاء الأسعار وتراجع الزراعة، وشلل شبه تام في الصناعات المحلية.
تركة ثقيلة
في الوقت ذاته، يبدو أن الحكومة الجديدة لا تزال تعاني من وطأة تركة النظام السابق الثقيلة وهي غير قادرة حتى الآن على تأمين أدنى مقومات الحياة بسبب البنية التحتية التي دمرها وأنهكها النظام المخلوع، فالكهرباء لا تزور منازل السكان إلا لساعات محدودة، وأما مياه الشرب فإنها تصل عبر الصهاريج بأثمان باهظة.
وحتى الخبز الذي هو قوام حياة المواطن السوري، فإنه سلعة "بائسة" من حيث النوعية والقدرة على تحصيلها، فلا يُباع إلا بعد خوض معارك في طوابير طويلة تمتد منذ الفجر، وسط غياب مادة الطحين المدعوم وتراجع في كفاءة المخابز.
وأما عن الوضع الصحي، فإنه لا يقل بؤسا، فالمستشفيات تعمل بطواقم منهكة غير قادرة على تغطية الاحتياج، والأدوية الأساسية إما مفقودة أو باهظة الثمن، فيما تستقبل العيادات الخاصة المرضى الذين يستطيعون دفع أجور المعاينة مع هامش إنساني يتركه الأطباء في عياداتهم الخاصة للمعوزين، لكن عموم الفقراء متروكون أسرى لأوجاعهم.
وبخصوص التعليم، فالمدارس منهكة والمناهج ممزقة والكادر فيه نقص شديد، والطلاب يدرسون في غرف لا تقيهم برد الشتاء ولا حرارة الصيف، فيما أعيد ترميم بعض المدارس بجهود المغتربين بينما بقي كثير منها خارج الخدمة بسبب آثار الحرب المدمرة؛ ففي إحدى المدارس القريبة من مركز المدينة، لا يتجاوز عدد المدرسين 3، بينما الصفوف تعج بأكثر من 50 طالبا في الغرفة الواحدة وما هذا إلا نموذج لصورة كبيرة موجعة.
إعلان
عزيمة وإرادة
ومع ذلك تظل المدينة تنبض بما تبقّى من إصرار وعزيمة وإرادة، فالناشطون المحليون ينظّمون دورات تعويضية، ويشكلون فرقا تطوعية خدمية في مختلف المجالات.
وعلى الرغم من كل هذه القسوة في المعيشة، فإن المدينة لا تفقد روحها، فالناس في درعا معجونون بمعنى الانتماء لوطن ينهض بهم، وقد اعتادوا أن يبنوا من الرماد حلما جديدا. ولا تزال الأمسيات تجمع العائلات حول أحاديث الواجب والهمة والانطلاق، والريادة في العمل وضرورات البذل والعطاء.
ولا تزال المساجد في درعا مراكز انطلاق العمل والبناء والمبادرات للنهوض، كما كانت من قبل مراكز انطلاق الثورة لهدم الاستبداد؛ فدرعا بعد التحرير ليست مدينة خرجت من الحرب فحسب، بل هي تحاول أن تبني نفسها خارج ذاكرة الحرب وداخل صراع جديد عنوانه الصمود، وهي إذ تقف على عتبة المستقبل، لا تنكر وجع الحاضر، لكنها تصر على أن تكون ذات صباح قريب، فهي مدينة تستحق الحياة.