أن يكون في المكتبة ذخائر طبعت قديمًا
تاريخ النشر: 21st, December 2024 GMT
شغفت منذ سنين بقراءة كتب الأدب القديمة، تلك المؤسسة للثقافة العربية، وسكنتني حقيقة أن الكتاب الذي مرَّ على تأليفه ألف عام لا محالة مهم، وإلا ما بقي قرونًا من السنين، يتنفس الحياة بين يدي النسَّاخ، والمحققين والشرَّاح، ويخرج من دور النشر بطبعات مختلفة، كل دار تقدمه في شكل طباعي متميز، وكأنه يرتدي في كل مناسبة أبهى حلة.
ثم جاءت مني نظرة أخرى لكتب الأدب خاصَّة، ورأيت أن الكتب الصادرة قديمًا أقرب إلى القلب، وأشهى إلى ذوقي القرائي، حتى أني كلما سمعت بجُمَل من قبيل: «كتب نفيسة»، أو «نفائس كتب الأدب»، أو «كتب الذخائر»، ينصرف ذهني إلى التي أخرجتها المطابع قبل عقود من السنين، حاملة خصوصية تلك المرحلة، متمثلة في دور النشر، التي أصبحت من الماضي وفي طي النسيان، وأسماء الشرَّاح والمُحققين والمُراجعين اللغويين، الذين ظهروا في تلك الفترة، ولم تطبع مرَّة أخرى، وغيرهم ممن يخدم الكتاب حتى يصل إلى يد القارئ.
تلك المطبوعات القديمة، تحمل روح الأمس البعيد، وذاكرة الأيام الماضية، وبالتأكيد ليست ذاتها المطبوعات التي صدرت حديثًا، ولأن الكتب اليوم غير التي صدرت بالأمس، في شكلها الإخراجي، وأنواع الورق، والألوان التي تُضْفَى على بعض الكلمات والحروف، بل إن الكتب الثقيلة بسبب سَمَاكة الورق والأغلفة، أصبحت خفيفة الحِمْل، مع ذلك فمن الجميل أن يكون في المكتبة ذخائر من الكتب القديمة، تتجاور مع المطبوعات الحديثة، وتكون أشبه بالأمهات الحنونات، تلك الكتب التي قرأت سابقا، أو عاشت سنوات في المكتبات العامة والخاصة، وتناقلتها الأيادي، بين مستعير وآخر، حاملة روائح الأيادي المعروقة، ولهاث العيون وهي تنتقل بين فصل وآخر.
هذه الكتب يتوفر بعضها في المكتبات المختصة ببيع الكتب المستعملة، وللأسف الشديد نفتقد في عمان إلى مثل هذه المكتبات، غير أن الزائر لبعض العواصم الثقافية كالقاهرة وبيروت وبغداد ودمشق، فحتما سيعود بكثير منها، لو أراد إلى وصولها ووصالها سبيلا، وسيجد طبعات قديمة ونادرة، تحمل هُوِيَّة الماضي، وخصوصية النشر في تلك الأيام، التي كانت تطبع فيها الكتب وتُجَلَّد يدويًا.
ورغم شكل تلك الكتب التقليدي، وورقها الثقيل، وحروفها الحجرية المتداخلة، وكلماتها المتزاحمة، إلا أنها تبقى أنموذجًا لنشر الكتب في الماضي، واشتهرت في زنجبار خلال سنوات القرن التاسع عشر الميلادي، «المطبعة السلطانية بزنجبار»، أنشأها السلطان برغش بن سعيد بن سلطان، في محلة «كيبونجا» بزنجبار سنة 1297هـ/ 1880م، اشتراها من الآباء اليسوعيين في بيروت، لتطبع الكتب والمؤلفات العمانية، وصدر عنها مجموعة كثيرة من الكتب، يؤرخ لهذه المطبعة الباحث سلطان الشيباني في كتابه التوثيقي: تاريخ الطباعة والمطبوعات العمانية عبر قرن من الزمن (1878 – 1977م).
وفي مصر اشتهرت «مطبعة بولاق الأميرية»، خرَّجت للعالم العربي كتبًا أصبحت اليوم من الندرة بمكان، وتعد تلك الكتب من ذخائر المطبوعات القديمة، وفي السياق ينبثق هذا السؤال: لماذا الحديث عن تلك الكتب التي صدرت قديمًا بهذه الحميمية والتبجيل، ألم يُغنِ تطور النشر والطباعة عن تلك الكتب الثقيلة؟، ويقينًا من أن طباعة الكتب هي إحدى مراحل البناء في صرح المعرفة، فإن تلك المطبوعات القديمة مهمة للباحث والمؤرخ على سواء، لما تقدمه من صورة رائعة لحركة الطباعة في بداياتها الأولى، وبما تحمله من أسماء ثقافية في مجالات خدمت الكتب، كالتصحيح والمراجعة والتدقيق اللغوي، ثم تحقيق وشرح المتن، ثم الأسماء المشتغلة على صناعة الكتب في شكله الورقي.
وهذه بعض الكتب التي صدرت قديمًا، وفي متناول يدي الآن كتاب «الكامل» في الأدب، وهو كتاب شهير جدًا، وأحد الكتب الأربعة التي اعتبرها ابن خلدون أصول فن الأدب وأركانه، ووُصِفَ هذا الكتاب بأوصاف جعلت منه تحفة أدبية، وعلامة مضيئة من علامات الأدب العربي، صدر الكتاب عن دور نشر ، وعملت على تحقيقه وشرحه قامات أدبية كبيرة، أشهرهم الشيخ سيِّد علي المرصفي (ت: 1931م)، في شرحه المطبوع بعنوان: «رغبة الآمل في شرح الكامل»، فقد اعتنى بكتاب الكامل، ودرَّسه لطلابه في الأزهر الشريف، من بينهم الدكتور طه حسين (ت: 1973م)، وقد ذكره باسمه في كتابه «الأيام».
والحديث عن كتاب «الكامل» ذو شجون ولا ينتهي، غير أني سأتحدث باختصار عن نسخة وقعت في يدي منه، وكانت بشرح العلامة الشيخ إبراهيم بن محمد الدلجموني الأزهري، من علماء الجامع الأزهر الشريف، صدرت الطبعة في مجلد واحد، عن مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده، عام 1347هـ/ مطلع عام 1929م، ما يعني أنه قد مضى على هذه صدور هذه الطبعة 95 عامًا ميلاديًا.
تحمل الطبعة رائحة ذلك الزمن الجميل، الذي تنتشر فيه المطابع، خاصَّة في القاهرة، طبعة نادرة، وقلما توجد في مكتبات بيع الكتب المستعملة، وقبل أن أغلق الكتاب، لمحت اسم: عبدالستار أحمد عبدالواحد، محفورًا في أسفل الكعب، من ترى يكون صاحب هذا الاسم؟، لعله مُجلِّد الكتاب، فحتى مصمم ومنفذ التجليد يذكر اسمه، وينقش في كعب الكتاب، لما له من دور مهم في حفظ الكتاب من التمزق والاهتراء، والمصنوع من جلود الحيوانات، ومعه زخرفة رائعة في الصفحات الأولى والأخيرة من الكتاب، يفتح القارئ عينيه عليها، وينتهي بها بعد قراءته للكتاب.
وهذا كتاب آخر، يحمل اسم: «فلسفة النشوء والارتقاء»، للدكتور الكاتب شبلي شميل (ت: 1917م)، طبع الكتاب بمطبعة «المقتطف» بمصر سنة 1910م، أي إنه مضى على طباعته 114 عاما، يتضمن الكتاب مجموعة من المقالات التي كتبها الدكتور شبلي، مع صور ضوئية لكبار المفكرين والفلاسفة، الذين كتبوا حول نظرية داروين الشهيرة، من بنيهم: هكسلي، ولويس يختر، وآرنست هيكل، وهوبرت سبنسر، بما يجعله كتابًا نفيسًا، يجمع بين العلم والأدب، كما جمع بين داروين في نظيرته، وأبي العلاء المعرِّي في إشراقات شعره، ولا تخلو مقالة من مقالات الدكتور شميل، إلا ويُقدِّمها باستهلال شِعْري من المَعرِّي، وفي صفحات الكتاب خطوط بقلم الرُّصاص، أسفل بعض الجمل، وكأنَّ روح قارئ ذكي ونهم، تتخفى وراء تلك السطور.
وهذا كتاب آخر يحمل اسم «دلائل الإعجاز»، الشهير في علم البيان، لإمام البلاغة عبدالقاهر الجرجاني، خرج إلى الوجود الثقافي في طبعته الثانية، عن مطبعة «المنار» بشارع مصر القديمة، سنة 1331هـ/ 1913م، وتكشف الصفحة الأولى منه، أن أصل الكتاب صححه علامة المعقول والمنقول، الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده (ت: 1905م) مفتي الدِّيار المصرية، والأستاذ اللغوي المحدِّث، الشيخ محمد محمود التركزي الشنقيطي (ت: 1904م)، ثم قرأه الأستاذ الإمام درسًا في جامع الأزهر، فظهر له فيه أغلاط كثيرة، صحح منها هامش أدخل في الأصل، وطائفة من الكلام، ذُكِرتْ في موضعين، وضبط كثيرًا من ألفاظه، وعلَّق عليه هوامش كثيرة، وقد أخذ هذه الهوامش والضوابط، وزاد عليها في الطبعة الثانية هذه، المصححة على نسخة الدرس ناشر الكتاب السيد محمد رشيد رضا (ت: 1935م)، منشئ «مجلة المنار»، وحقوق الطبع محفوظة له، وفي أسفل الكعب نقش اسم أحمد رزق سالم، ولعله اسم من قام بتجليده في تلك الأيام.
وتظهر أسماء المجلدين في بعض الكتب بأسماء أخرى، ففي كتاب «حياة محمد» المطبوع عام 1935م، للدكتور محمد حسين هيكل (ت: 1956م)، يظهر في كعب كتابه اسم محمد غنيم، وفي كتابه «في منزل الوحي» المطبوع عام 1937م، يظهر في كعبه اسم علي عشماوي، وهذه المَزيَّة لا نراها إلا في الكتب القديمة، بتجليدها الفاخر الفخم.
ومن الكتب العمانية الشهيرة، التي طبعت مرارا وتكرارا، منذ الربع الأول من القرن العشرين، كتاب «جوهر النظام» للشيخ عبدالله بن حميد السالمي (ت: 1914م)، تحتوي الطبعة الأولى من الجوهر، الصادرة في القاهرة عام 1925م، على قصيدة رائية تقريظية، كتبها الشيخ إبراهيم بن سعيد العبري (ت: 1975م)، تقع في 27 بيتًا، على قافية الراء الممدودة، مطلعها: (يا مَنْ بعِلمِ الشَّرْعِ رَامَ الظَّفَرَا .. وقدْ سَعَى لِنيلهِ مُشَمِّرا).
هذه بعض من أمهات الكتب، وما أكثرها في أرفف المكتبات العامة والخاصة، أو في سوق بيع الكتب المستعملة، والمشغوف بجمعها تقوده الصدفة إليها، في لقاء له وقعه المحبب في النفس، وشراؤها يمدُّ في عمرها، وتكون بين الكتب أشبه بالأم المؤنسة بحكاياتها.
محمد الحضرمي كاتب عمان
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التی صدرت تلک الکتب قدیم ا کتاب ا
إقرأ أيضاً:
في يوم حقوق الإنسان.. رسائل حب وإنسانية تتصدر ندوة دار الكتب
نظمت دار الكتب والوثائق القومية، برئاسة الأستاذ الدكتور أسامة طلعت، في إطار اهتمام وزارة الثقافة بنشر الوعي المجتمعي وتعزيز ثقافة حقوق الإنسان، فعالية ثقافية بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي لحقوق الإنسان.
أقيمت الندوة التثقيفية بقاعة الأمم المتحدة بدار الكتب تحت عنوان "الإنسان أولًا.. نحو عالم أكثر عدلًا وإنصافًا"، بقاعة علي مبارك
بدأت الندوة فعالياتها بالسلام الجمهوري، ثم قامت الأستاذة حنان نور مدير قاعة الأمم المتحدة بالترحيب بالحضور، مؤكدة دور دار الكتب في نشر الوعي الإنساني، وتعزيز القيم التي تكرس مبدأ كرامة الإنسان وتعايشه مع الآخر، كما عرضت فيديو توضيحي عن الاحتفالية أعده فريق قاعة الأمم المتحدة احتفالًا باليوم العالمي لحقوق الإنسان.
وجدير بالذكر تخلل فقرات الندوة مشاركات الأطفال الموهوبين، حيث قدموا فقرات شعرية عكست جمال الرسالة الإنسانية للندوة، وهم: أدهم الجمال، وعبد الله محمد، فريدة محمود عطية، يوسف محمود عطية، نورين وياسين، وقد لاقت مشاركاتهم ترحيبًا كبيرًا من الحضور.
استهل الدكتور عبد الحميد يحيى، أستاذ الإدارة والتنمية البشرية – جامعة حلوان، الندوة بكلمة أوضح فيها أن حقوق الإنسان ليست مفهومًا قانونيًا جامدًا، وإنما هي منظومة قيمية تبدأ من داخل الإنسان وتمتد إلى المجتمع كله.
وتحدث عن أهمية تنمية الوعي الذاتي، ودور المؤسسات التعليمية والثقافية في تشكيل سلوك الفرد ليكون قادرًا على ممارسة حقوقه باحترام ومسؤولية، وأكد أن المجتمعات لا تتقدم إلا حين يعي الإنسان دوره وحقوقه وواجباته، لافتًا إلى أن التنمية البشرية الحقيقية تقوم على احترام الإنسان لذاته أولًا، ثم احترامه للآخر المختلف في الدين أو الثقافة أو الاتجاه.
ثم تحدث الأستاذ وحيد الأسيوطي، رئيس مؤسسة مصر العربية لحقوق الإنسان، مؤكدًا أن حقوق الإنسان غير قابلة للتجزئة أو التنازل، لأنها حقوق أصيلة يولد بها الإنسان.
وأشار إلى أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان – منذ صدوره في 10 ديسمبر 1948 – وضع إطارًا موحدًا لتلك الحقوق عبر العالم، وأن الدولة المصرية قطعت شوطًا مهمًا في مجالات الحماية الاجتماعية، وتمكين الفئات الأولى بالرعاية، وتعزيز الحريات المدنية.
كما شدد على ضرورة نشر ثقافة احترام الآخر، وأن بناء مجتمع يحترم حقوق الإنسان يبدأ من الأسرة، مرورًا بالمدرسة، وصولًا إلى الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني.
قدم اللواء دكتور محمد فخر الدين – مدير عام مركز التنمية البشرية، مداخلة تفاعلية ثرية مع الجمهور، تناول فيها العلاقة بين القيم الدينية وحقوق الإنسان، مستشهدًا بحديث النبي ﷺ لمعاذ بن جبل حول "حق الله على العباد وحق العباد على الله"، موضحًا أن الإسلام وضع أساسًا راسخًا لحقوق الإنسان وكرامة النفس البشرية.
وانتقل للحوار المباشر مع الجمهور من خلال أسئلة حياتية واقعية حول حرية الاختيار، وحقوق الأبناء، والحدود الفاصلة بين التقاليد الاجتماعية والمواثيق الدولية، مؤكدًا أن الوعي هو أساس ممارسة الحقوق دون صدام أو تطرف.
اختُتمت الندوة بكلمة للدكتور مينا رمزي، رئيس الإدارة المركزية لدار الكتب، الذي أكد أن حقوق الإنسان هي حقوق أساسية غير قابلة للتنازل، وأشار إلى ضرورة النظر إلى قضايا حقوق الإنسان نظرة شاملة غير مجتزأة، مؤكدًا أن تقييم أي قضية من زاوية واحدة يؤدي إلى صورة ناقصة، تمامًا كمن يرى وجهًا من جانب واحد دون رؤية تكوينه الكامل.
واستعرض ما قامت به الدولة المصرية من جهود ملموسة، خاصة في مجال الصحة، مشيرًا إلى مشروع التأمين الصحي الشامل، وجهود القضاء على الفيروسات والأمراض المزمنة التي كانت تؤرق المجتمع لسنوات طويلة، مثل القضاء على فيروس سي نهائيا، بالإضافة إلى الكشف المبكر عن الأورام، والاهتمام بصحة المرأة، والفحوصات الدورية للأطفال في المدارس.
وتحدث باستفاضة عن جهود الدولة المصرية في تعزيز الحق في الصحة، مستعرضًا تجربة شخصية لإنسان مسن استطاع إجراء جراحة دقيقة لتغيير مفصل بعلاج على نفقة الدولة، دون أي تكلفة مالية، معتبرًا ذلك نقلة نوعية في الخدمات الصحية.
وفي ختام كلمته، تناول الدكتور مينا رمزي البعد الإنساني العميق لحقوق الإنسان، موضحًا أن احترام الآخر يبدأ من الحب الإنساني، أيًا كان دينه أو لونه أو جنسه.
وسرد قصة الحكيم الذي قال: أنا لا أخاف الله… لأني أحبه، والحب يطرد الخوف خارجًا"، مبينًا أن هذه الرسالة تمثل جوهر الإنسانية، وأن الحب حين يسود بين البشر تنتهي الصراعات ويزدهر السلام، وختم كلمته متمنيًا أن يكون هذا اليوم العالمي فرصة لتعزيز الرحمة والتقارب والتفاهم بين البشر في كل مكان.
واختتمت الندوة بتوجيه الشكر لجميع المتحدثين والحضور، مؤكدة استمرار دار الكتب في أداء رسالتها التنويرية في دعم قيم العدالة وحقوق الإنسان وبناء وعي مجتمعي مستنير.