الفن الكوري.. تجليات التقليد وجماليات المعاصرة
تاريخ النشر: 19th, August 2023 GMT
نوف الموسى (دبي)
الحوارات الفنية العالمية، واستمرارها في إثراء المجتمع الفني بدولة الإمارات، تُعد أحد أبرز المؤشرات النوعية، على مستوى التواصل الثقافي وإيجابيته في طبيعة المخرجات الإبداعية، وفي هذا السياق لاشك أن ما قدمه «Keumsan» غاليري، المتخصص في تقديم أعمال الفنانين الكوريين من مختلف أنواع الفن المعاصر الكوري، ضمن البرامج الثقافية السنوية لأبرز الفعاليات الفنية بالدولة، أسهم في بناء منصة تفاعلية لمشهدية التساؤلات بين تجليات التقاليد والموروث البصري الكوري، ودور الفنانين المعاصرين في إبراز جمالياته برؤى أقرب إلى تعددية المواد القادرة على رسم منهجية ساحرة للعلاقة اليومية بين الإنسان والطبيعة.
فمن خلال تبيان اللغة الحسية، ومقدرتها اللامحدودة، في قياس التأثير الحدسي بين الموجودات بفطرتها في الطبيعة، يتوصل الباحث إلى تشكلات الفكر والمعتقدات التي من شأنها أن تؤسس للحركة والسلوك الإنساني في الفضاء المكاني والزماني. وكلما تحاورت المقاربات الفنية لمختلف الثقافات بهذه الفضاءات، كلما اتضحت مرتكزات التجربة الإنسانية بوصفها تحمل دلالات كامنة متصلة ووثيقة رغم اختلافاتها الظاهرة.
مشهد في الحلم
ومن بين أبرز الفنانين الكوريين الذين حضرت أعمالهم في المجتمع الفني المحلي، من قبل «Keumsan» غاليري، سلسلة أعمال «مشهد جديد في الحلم» للفنان الكوري «سوك شول جو» SUK Chul Joo. إلى جانب الأعمال الفريدة لسلسلة «جرة القمر» التي تمثل موضوعاً رئيساً للفنان «شوا يونج ووك» Choi Young Wook، حيث تمثل الجرة وعاء من الخزف كان رائجاً بين عامة الكوريين خلال أواخر عهد مملكة جوسون (1392-1910).
والتأملات الجوهرية لأعمال الفنان الكوري SUK Chul Joo، كما أوضح «مينجاي شونج» Minjae chung، الذي يعمل في الإشراف على المعارض في «Keumsan» غاليري، في حواره لـ«الاتحاد»، تمتلك ميزة استثنائية في خلق مساحات طبيعية تهدي المشاهدين قدرة الانتقال بعفوية متقنه بين كل التفاصيل اليومية لحياة تلك اللوحات. وقد يتراءى للناظر أن هناك مسافة شفافة بينه وبين المرئيات الناعمة والحساسة لتلك الجبال البعيدة في اللوحات، ولكن بشكل نألفه جميعاً، تكون قريبة جداً من حساسية الذاكرة الخاصة بنا، وكأننا نعيد اتصالنا بما هو موجود فينا ويشكلنا، ونصور وجهة نظرنا حوله، بناء على تفاعلنا اللحظي مع اللوحة.
أما الناقد الفني سانغ تشيول كيم، فيعتبر أن أعمال الفنان سوك شول جو، شفيفة للغاية، كما لو كانت تطفو في الهواء، قائلاً: «في الواقع، الجزء الذي يجب أن ينتبه المرء إليه في أعماله ليس المحتوى المعبر عنه، بل بالأحرى آثار الحظ الناتجة عن تراكم حركاته، والنظام غير النمطي الذي صنعته هذه الصدفة الفنية. وبالنسبة له، لا ينعكس نشاط الرسم كنتيجة ولكن كعملية منح. ينعكس تراكم الأنشطة التي لا تعد ولا تحصى على هيئة تشكيل لأشكال خرسانية من خلال الاصطدام والتباين والانسجام والتوازن. والعمل هو تناغم للنسبية المعقدة، مثل الصدفة والحتمية، المرئية وغير المرئية». وأشار سانغ تشيول كيم، في قراءته النقدية إلى أن سوك شول جو: يرسم الجبال ولكنه لا يعرض الجبال، فقد قام بتقليص شكل الجبال للتعبير عن الهواء وجذب الانتباه إلى الفضاء السلبي البعيد. وبهذه الطريقة، تم بناء منظره الطبيعي لخلق مسافة معينة من المتفرجين. وهذه المسافة، التي توجد مثل الهامش، هي النقطة الدقيقة التي يندمج عندها المثالي والحقيقي.
ويرى مينجاي شونج، أن الاقتراب من لوحات «جرة القمر» للفنان شوا يونج ووك، يكشف في كل مرة مدى التناغم الذي يحدثه اللون الأبيض الشفيف، وتأثيره على الإيقاع الروحي في الحوارات الضمنية بين المتلقي واللوحات، مبيناً أن العائلات في كوريا تفضل وضع لوحات «جرة القمر» عند مدخل البيت، حيث يشعر الضيف بمجرد الدخول، بحالة من التوازن والهدوء والسلام التام، لافتاً إلى أن حضورها في الفعاليات المحلية بدولة الإمارات، إنما هو فرصة نوعية ليتعرف فيها الفنانون والنقاد والمهتمون بقطاع الفنون في المنطقة على تاريخية ثقافة الشرق وتداخلاتها الأدبية الممتدة في الإنتاجات المكتوبة والمرسومة.
ندوب الحياة
ومن جهته، وثق المنسق والناقد الفني شيا تشي جايسون وانغ، كيف أن الفنان شوا يونج ووك، يكشف لنا جماليات العلاقات الإنسانية من خلال أعماله، والتي تمتد إلى القيم الأخلاقية في العالم الواقعي، وكتب حول ذلك: يأخذ «البياض» من الخارج نوعية مختلفة تماماً عن البياض الأصلي عندما يكون طازجاً من الفرن. تتخلله ندوب الحياة، غالباً ما يزداد التزجيج المتشقق على السطح الخارجي لجرة القمر في تعقيد أنماطه المتصدعة، مما يؤدي إلى اختلاط الجديد مع القديم. يقوم الفنان بتمديد التغييرات الدقيقة في جرة القمر، والتي أحدثها الوقت للإشارة إلى ذكريات الحياة العالمية التي تتشاركها البشرية بشكل جماعي. وهكذا أصبحت الأنماط المتشققة للتزجيج رمزاً لصلات المصير المشترك. ومن هنا نتوصل إلى أن تلك الأنماط بحسب رؤية الفنان إنما هي المسارات في رحلة الحياة، ممثلة الخطوط المتغيرة باستمرار، والتي يمكن أن تتحد رغم هذه الاختلافات.
المصدر: صحيفة الاتحاد
إقرأ أيضاً:
العلاج بالفنّ.. اتجاهٌ نحو آفاق أوسع وأكثر شمولاً
"العُمانية": وجدت الفنانة التشكيلية هبة بنت علي العبدوانية ملاذًا للتعبير عن مشاعرها وأفكارها عبر الفن، فكانت موهبة الرسم تسكنها منذ الصغر، حيث اكتشفت ذاتها من خلاله وزاد شغفها في عالم الفن. كما أنها وظفت الفن في العلاج باعتباره دعمًا للصحة النفسية وتحقيق التوازن العاطفي من خلال الإبداع. وأنتجت عددًا من اللوحات بموضوعات متنوعة، عرضتها في معارض فنية محلية ودولية، وكانت تلك الخطوة بداية رحلة جديدة تمزج بين الفن والطب والعلم والإحساس.
وقالت الفنانة التشكيلية: "تتنوع الموضوعات التي أتناولها في لوحاتي بين استلهامٍ من الثقافة العُمانية الغنية، وتجسيدٍ لمشاعر الأمل والسعادة. وأجد في التراث العُماني مصدر إلهام لا ينضب، فأرسم الحلي التقليدية بتفاصيلها الدقيقة، وأُجسد القلاع العُمانية شامخةً في لوحاتي كأنها رموز للهُوية والتاريخ. وأحرص أن تحمل بعض أعمالي رسائل إيجابية تعبر عن النور الداخلي، والأمل في المستقبل، والسعادة مثل قيمة إنسانية أساسية. وأسعى من خلال فني إلى المزج بين الماضي الأصيل والحلم المتجدد، ليكون لكل لوحة حكاية نابضة بالحياة".
وأضافت: يُعد العلاج بالفن أداة فعالة للتعبير غير اللفظي عن المشاعر، ويهدف إلى تعزيز الوعي الذاتي، وتقليل التوتر والقلق، وتحسين مهارات التواصل، ودعم العمليات النفسية العميقة بطريقة آمنة وبنّاءة. ويستهدف العلاج بالفن شريحة واسعة من الفئات، منها الأطفال الذين يعانون من صعوبات سلوكية أو تعليمية، والمراهقون في فترات التغير النفسي، والبالغون الذين يواجهون ضغوطًا حياتية، والمرضى النفسيين، وذوي الإعاقة، والمسنين، وحتى العاملين تحت ضغوط العمل.
وذكرت أنها قدمت هذا العام حلقتين عن العلاج بالفن تضمنت فئات مختلفة مثل الأطفال والبالغين وفئة الصم والبكم، وكانت الحلقة الأولى عن (شجرة العائلة) والحلقة الثانية عن (عجلة المشاعر) ولمست خلالها التأثير العميق للفن في نفوس المشاركين، حيث تحوّلت اللوحات إلى نوافذ للتنفيس والتعبير والشفاء.
وتحدثت عن إحدى القصص الملهمة، فكانت لطفلة خجولة لم تكن تتحدث كثيرًا، لكنها عبّرت عن مشاعرها من خلال الألوان، ومع الوقت بدأت تبادر وتشارك أفكارها بثقة. وقصة أخرى لشاب يعاني من القلق المزمن استطاع أن يترجم مشاعره المبعثرة إلى عمل فني صادق، مما ساعده على فهم ذاته وبدء رحلة التعافي. هذه التجارب وغيرها تؤكد على أن الفن لا يعالج الجروح النفسية فحسب، بل يزرع الأمل، ويُعيد بناء الإنسان من الداخل بلطف وهدوء.
وأشارت إلى أن التكنولوجيا أحدثت تحولاً كبيرًا في مجال العلاج بالفن، حيث أتاح الفن الرقمي والتطبيقات الذكية أدوات جديدة للتعبير والإبداع، خصوصًا في البيئات التي يصعب فيها توفير الأدوات التقليدية وأصبح من الممكن أن يعبّر الأفراد عن مشاعرهم عبر الرسم الرقمي، والكولاج، وتحريك الصور، واستخدام الواقع الافتراضي. وتتيح هذه الوسائل سهولة الحفظ والمشاركة والمتابعة عن بُعد، مما يعزز الوصول للفئات التي يصعب حضورها جسديًا مثل المرضى أو ذوي الإعاقات.
ووضحت أن التطور التكنولوجي في مجال العلاج بالفن يواجه تحديات منها: ضعف الجانب اللمسي والتفاعل الحسي الذي توفره الخامات التقليدية، مما قد يؤثر في عمق التجربة العلاجية. كما يواجه البعض صعوبات تقنية أو قلة مهارة في التعامل مع التكنولوجيا. ويبقى التوازن هو الحل، حيث يمكن دمج الأدوات الرقمية والتقليدية بما يخدم الهدف العلاجي ويحترم احتياجات كل حالة.
وعن مستقبل العلاج بالفن، بينت أنه يتجه نحو آفاق أوسع وأكثر شمولاً، حيث من المتوقع أن يزداد اعتماد العلاج بالفن على التكنولوجيا مثل التطبيقات التفاعلية، والواقع الافتراضي (VR)، والذكاء الاصطناعي، ما يتيح تجارب علاجية غامرة تتجاوز حدود الحلقة التقليدية.
وسيمنح العلاج عبر الإنترنت الأشخاص في المناطق النائية أو من يعانون من صعوبة الحركة فرصة أكبر للوصول إلى الدعم النفسي من خلال الفن. وباستخدام البيانات والتقنيات الذكية، ستُصمم جلسات علاج بالفن مخصصة بناءً على احتياجات الفرد، سواء من حيث الألوان، الأنماط، أو نوع التفاعل الفني. كما سيزداد الاهتمام بدراسة تأثير الفن على الدماغ عبر تقنيات مثل التصوير العصبي، مما يساعد في تطوير ممارسات علاجية مبنية على فهم أعمق لوظائف الدماغ والانفعالات.
وأكدت العبدوانية كونها طبيبة ورسامة، أنها تؤمن بأن مستقبل العلاج بالفن يحمل إمكانيات هائلة ستعيد تشكيل مفهوم الرعاية النفسية والعاطفية. وسيصبح الفن أداة علاجية أكثر تكاملاً مع الطب، كما تتطلع إلى أن تكون جزءًا من هذا التحول من خلال تطوير برامج علاج بالفن تراعي الجوانب النفسية والطبية، وتدمج بين أدوات الفن التقليدي والرقمي. وأن تجعل من الفن مسارًا للتعافي، ومكانًا يجد فيه الإنسان ذاته، بين اللون والخط، وبين الصمت والبوح.