علي جمعة: العلم والعقل وأهمية المنهج في الفكر الصحيح
تاريخ النشر: 28th, December 2024 GMT
في حديثه عن أهمية المنهج العلمي في بناء العقلية السليمة، استرجع الدكتور علي جمعة، مفتي الجمهورية السابق، تجربة مميزة من صغره في الأزهر الشريف، حيث حفظ نظماً شعرياً يجسد حواراً بين العلم والعقل، ويطرح السؤال أيهما أعلى شأناً.
وقد كانت تلك الأبيات في البداية بمثابة طُرَفٍ بالنسبة له، ولكنه مع مرور الوقت، ومع تطور التجربة الحياتية، أدرك عمق هذه الأبيات في مواجهة الفوضى الفكرية التي نعيشها اليوم.
أكد جمعة أن العديد من المتاهات الفكرية التي نعيشها اليوم تنبع من غياب المنهج العلمي السليم. فبينما يُعتقد أن الهواية قد تكون كافية للمعرفة، أو أن الإخلاص المفرط دون العلم قد يفضي إلى الحقيقة، فإن الحقيقة تختلف تمامًا عندما نتحدث عن بناء عقلية علمية حقيقية.
مشيراً إلى أن العلم لا يُكتسب من خلال التلقين وحده، بل من خلال منهج واضح يشمل التفاعل بين الطالب والأستاذ والمنهج العلمي، مما يضمن أن تكون المعلومات متصلة بعضها ببعض وليست جزراً معزولة.
وأضاف أن الإنسان إذا افتقد المنهج العلمي، يصبح عرضة للتوهمات والتفكير في قضايا لا تمت للعلم بصلة، مما يضعه في دائرة من الجدال العقيم الذي لا يؤدي إلى إنتاج معرفة حقيقية. كما أشار إلى أن الفكر يجب أن يظل جاريًا ليغذي العلم بكل جديد، فالعلم دون تفكير مستمر يصبح جامدًا، ويواجه تحديات عديدة.
العقل والعلم: حوار قديم ومتجددوأوضح جمعة أن هذه الأبيات تسلط الضوء على الصراع القديم بين العقل والعلم، حيث أن الكثير من الناس يميلون إلى اتباع العقل فقط، ظنًا منهم أنه الطريق الأقصر إلى الحقيقة، بينما العلم يحتاج إلى الجهد المستمر والتفاعل مع العقل بشكل منهجي ومنظم.
كما أشار إلى أن العقل إذا لم يُستخدم تحت عباءة العلم والمنهج العلمي، فإنه يصبح عرضة للخطأ والتوهيمات الفكرية.
العقل دون علم: خطر فكريالحديث عن بعض الاتجاهات الفكرية التي تدعو للاكتفاء بالعقل دون العلم كان جزءًا آخر من حديث الدكتور علي جمعة.
ففي الوقت الذي يدعي البعض أن العقل هو السبيل الوحيد للوصول إلى الحقيقة، حتى في قضايا الشرع، فإن ذلك قد يؤدي إلى تصرفات غير مسؤولة. وأشار إلى أن من يدعو إلى نبذ العلم لصالح العقل قد يزج الناس في طرق ضالة تحت غطاء الدين، في محاولة لتقليل التكليف الديني دون فهم حقيقي لأبعاده.
وأضاف أن هذه العقلية قد تجد إعجابًا مؤقتًا، لكنها تفتقر للعمق والاستمرارية، كما ذكر الله تعالى في القرآن الكريم: "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الأَرْضِ". فالمؤمن يجب أن يظل على صراط مستقيم، لا ينحرف وراء دعوات غير علمية تنتهي بصاحبها إلى الضلال.
دعوة لبناء عقلية علمية منهجيةوفي ختام حديثه، دعا الدكتور علي جمعة الشباب إلى بناء عقلية علمية تقوم على المنهجية الواضحة والبحث المستمر بعيدًا عن الخرافات والتوهيمات الفكرية. كما حذرهم من الانجراف وراء الشخصيات التي تظهر بين الحين والآخر وتثير ضجة فكرية دون أساس علمي، معتبرًا أن هذه الشخصيات قد تضل أصحابها بعيدًا عن الطريق الصحيح.
وفي هذا السياق، ختم الدكتور علي جمعة بآية من القرآن الكريم: "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِى مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ".
إذن، العلم لا يتناقض مع العقل، بل هو يحتاجه ليتم استثماره بشكل صحيح ومنهجي، وهو السبيل الأمثل لبناء أمة قادرة على مواجهة التحديات الفكرية والعملية.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: جمعة الدكتور علي جمعة الدکتور علی جمعة المنهج العلمی إلى أن
إقرأ أيضاً:
إشكالية التخصص والإبداع
كثيرا ما نسمع أن شخصا ما يتحدث أويكتب في غير تخصصه، ويعتبره البعض نقيصة ويعتبره البعض الآخر مبادرة، ومسألة التخصص لم تكون موجودة عند العلماء في العصور الوسطى وما قبلها، فكان الطبيب رجل الدين وفيلسوف والشاعر.
التخصص هو من نتاج الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر التي وفرت كثيرا من العلوم، أكبر مما يستطيع المرء استيعابه، ومحاولة الإضافة إليه، مشكلة اختيار التخصص كثيرا ما تكون لأسباب اجتماعية أو قانونية تخص الدولة، رغم ذلك الأشخاص الذين يطلبون النجاح في عملهم وأبحاثهم لهم فرص كبيرة للتفوق في مجال التخصص الذي يخدم العلم أكثر من خدمة المجتمع، ولذلك كثيرا ما يكون التخصص ضيق المجال قليل الفائدة للمجتمع لأنه لا رابط له بقضايا الوطن بقدر أنه مرتبط بقضايا العلم على مستوى العالم، فالرجل الذي يقدم ورقات علمية في تطوير التربينات الغازية أو تصميم أجسام ذات ديناميكا هوائية جيدة أو حتى تصنيع الخلايا الشمسية أو زرع قلب الحيوان في الإنسان يخدم العلم والدول الكبرى المصنعة لتلك الأجهزة، أما نحن في العالم الثالث فنحتاج إلى توطين تقنيات أكثر من بحوث أساسية.
بسبب هذه الظروف ينتج نوع آخر من المبادرين الذين يعتمدون على فهم العلوم وتمعنها وربطها بالواقع ومحاولة إيجاد الحلول للمختنقات النظرية والعملية التي يواجهها المجتمع بطريقة إبداعية يشترك فيها العلم والمهارة مع الشغف، وهؤلاء جلهم ليسوا من المتخصصين، وحيث أنهم تدفعهم النظرة الشمولية للأحداث والشغف في الإضافة فإنهم يبدعون فيما اختاروا من موضوعات، وهم جل العلماء في القرون الوسطى وما قبلها وكثيرون في العصر الحاضر: نذكر منهم مالك بن نبي وهو مهندس كهربائي أبدع في دراسة الحضارات، والعقاد فني لم يتحصل سوى على الشهادة الابتدائية وهو من أبدع في الدراسات الإسلامية، والشيخ طاهر الزاوي والأديب بعيو وفشيكة كتبوا في التاريخ، والألباني عمله تصليح الساعات أصبح من رجال الحديث، على المستوى الدولي نيوتن مكتشف الجاذبية هو موظف في سك النقود، وبل كان مخترعا للتلغراف وهو موسيقي ومخترع مكتشف المعادن وتطوير الطائرات.
والشاعر نزار قباني هو حقوقي في الأصل، أما عبد الرحمن منيف وهو روائي عراقي لأم سعودية، كان متخصصا في مجال النفط، والروائي حنا مينا لم يصل للصف السادس الابتدائي وعمل حمالا في ميناء اللاذقية، وغادة السمان دكتورة في اللغة الإنجليزية، وروائية وشاعرة كبيرة، وإبراهيم ناجي كان طبيبا، وعندما تسمع قصيدته (الأطلال) من أم كلثوم تشعر بروعة كلماته، والكثيرين غيرهم، في حين أن هناك ملايين من المتخصصين الذين يقضون حياتهم في تكرار رتيب لأعمال روتينية لا تغيير فيها، ولا إبداع يطور في آلياتها أو تقدم في أهدافها.
الإبداع حالة وجدانية وقودها الشغف لأجل المبادرة في العمل والفهم ثم الإنتاج لسد فراغ لم يستطيع المتخصص تغطيته، ولا شك أن المتخصص الشغوف يكون مبادرا مبدعا يُلبي حاجات المجتمع بأقل جهد، والمجتمع في حاجة إلى الصنفين أن يكونان مبدعين في زمن لا يفرق الكثيرين بين الإبداع والبدعة فيصفون بالتبديع.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.