جريدة الرؤية العمانية:
2025-06-06@22:11:54 GMT

الدين والعلوم العصبية

تاريخ النشر: 30th, December 2024 GMT

الدين والعلوم العصبية

أ.د.حيدر أحمد اللواتي **

شهدت العلوم العصبية تطورًا مذهلًا في العقود الخيرة، إثر التطورات العلمية في مجال تصوير دماغ الإنسان الحي؛ إذ استطعنا أن نقوم بتطوير كم من التقنيات التي تسمح لنا بمتابعة النشاط الدماغي عند القيام بمختلف الأنشطة، وقد لاحظ العلماء أن الدماغ البشري لا يتوقف أبدًا، ما دام الإنسان حيًّا؛ فهو في نشاط دائم حتى عندما يكون الإنسان فاقدًا لوعيه، فإنَّ النشاط الدماغي لا يتوقف كليًا، وكذلك الحال عندما ينام الإنسان.


أما الملاحظة الأخرى والجديرة بالاهتمام هي أن جميع الأنشطة البشرية التي يقوم بها الإنسان ينعكس أثرها على الدماغ؛ إذ إن الشبكة العصبية في الدماغ تتشكل بناءً على هذه الأنشطة، فحتى عندما يجلس الإنسان دون أن يقوم بأي شيء، فإن ذلك يمكن متابعته من خلال متابعة النشاط الدماغي. ومن هنا يرى العلماء أن العلاقة بين النشاط البشري والدماغ علاقة تبادلية؛ فالدوافع نحو العمل يكون مصدرها الدماغ، وبالمقابل فإن الدماغ يتأثر أيضًا بالنشاط الذي تقوم به، فمثلًا عندما تذهب للعمل صباحًا فان الدافع نحو الذهاب للعمل مصدره الدماغ، وعندما تُلبِّي دعوة الدماغ وتذهب للعمل فإن ذلك ينعكس على دماغك أيضًا، وربما تشعر بنوع من الارتياح النفسي نتيجة لإفراز كيمياويات معينة في دماغك وَلَّدَت عندك ذلك الشعور بالراحة والرضا.
ومن هنا، فإنَّ بعض المختصين في مجال العلوم العصبية طرحوا فكرة مفادها إذا كان كل نشاط يقوم به المرء ويلعب الدماغ دورًا مُهمًا في الدافعية التي تدفع الإنسان للقيام بذلك العمل، وإذا كان مردود العمل ينعكس على الدماغ أيضًا، فإن ذلك سيشمل الأنشطة الدينية، والتي نُعبِّر عنها بالشعائر والطقوس في مصطلحاتنا الإسلامية؛ فالأنشطة المختلفة التي يقوم بها الإنسان تُوَلِّد لديه مشاعر وأحاسيس قد تكون تلك المشاعر والأحاسيس إيجابية أو سلبية. واليوم يمكننا عبر مختلف الأجهزة قياس هذه الأحاسيس والمشاعر؛ إذ إنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتراكيز مواد مُعينة يُفرزها الجسم كما يُمكن قياسها من خلال ملاحظة الأجزاء النشطة من الدماغ أو تلك التي يقل نشاطها عن المعتاد، ومن هنا يُمكننا قياس أثر الطقوس والشعائر على الدماغ البشري.
والواقع أن هناك تحديات بالغة تواجه هذه الحقل العلمي أولى تلك التحديات أن هناك صدود من أطراف عديدة؛ فالمتدينون يعدون ذلك نوعًا من محاولة إفراغ الدين من قيمته الروحية من خلال محاولة زجِّه في دراسات علمية قائمة على التجربة والملاحظة، وبالمقابل فإن المَلاحِدة يعتبرون أن إدخال الدين ضمن الدراسات العلمية هو اعتراف علمي بالدين وآثاره التي يُمكن قياسها بالتجربة.
ويُمكن تتبع تاريخ هذا الحقل العلمي بصورته الجديدة في بداية القرن العشرين، إلّا أن الحقل توسَّع في منتصف القرن العشرين، وأصبح يُعرف اليوم بـ"Neurotheology". ويحاول هذا العلم أن يستفيد من الدين، وخاصة في بُعده الروحي لمعالجة آثار بعض الأمراض النفسية والعقلية المختلفة والتخفيف منها.
ولذا فإن عددًا من علماء الأعصاب يرون أن الدين والممارسات الدينية لا يجب التخلي عنها؛ بل يجب تجذيرها في مختلف المجتمعات، وبغض النظر عن صحة تلك الأفكار الدينية أو خطأها؛ لأن الدين يشكل حصانة مُهمة للإنسان تحميه من القلق والتوتر وغيرها من أمراض العصر.
ولا تقتصر الدراسات في هذا الحقل على الاستفادة من الدين في معالجة بعض الأمراض النفسية والعقلية؛ بل يقوم البعض بمحاولة دراسة بعض التجارب الصوفية والعرفانية باستخدام المنهج المذكور، وقد تناولنا ذلك في مقالة مُستقلة نشرت في المُلحق العلمي لجريدة عُمان.
هذا التوجُّه عند هؤلاء العلماء، وضع بعض المَلاحِدة في زاوية ضيقة وإحراجات كبيرة، فكيف لهم أن يقفوا بوجه هذه الدراسات التي توضح كل هذه الفوائد للدين والتدين؟
من هؤلاء المَلاحِدة سام هاريسون، وهو من علماء الأعصاب، ومؤلف كتاب "نهاية الايمان" الذي صدر عام 2004، ويُعد من أكثر المَلاحِدة انتقادًا للأديان. ومن أجل محاولة إيجاد بديل للدين والفوائد المترتبة عليه، أصدر سام هاريسون كتابًا آخرَ له عام 2014 بعنوان "الصحوة.. دليل للروحانية بلا أديان". وفي هذا الكتاب يحاول هاريسون طرح بديل للأديان قائم على أنشطة دينية هندوسية والتي قضى سنتين في تعلُّمِها، لكنه يطرحها بطريقة تُفرِغُها تمامًا من أبعادها الأيديولوجية، فهو كمن يدعو للصوم للفوائد المترتبة عليه دون أن ينوى التقرب إلى الله من صومه.
وإثر هذه الدراسات والمحاولات، انتشرت الكثير من الحركات الروحية في الغرب، مثل: اليوجا والتأمل بمظاهرها المختلفة. ويتعين علينا أن نحذر بعض الشيء من هذه الحركات والمظاهر وانتشارها في مجتمعاتنا الإسلامية؛ فالبعض ربما يهدف لإضعاف ظاهرة التديُّن والتقليل من أهميتها عبر إيجاد هذه الطرق البديلة!
ومن الطرق الأخرى التي يتم استغلالها ومحاولة بثها في مجتمعاتنا الإسلامية، إطلاق عدد كبير من المفاهيم المرتبطة بالطاقة الإيجابية وأخرى مرتبطة بالتنمية البشرية، ومما يدعو للأسف بحق أن بعض تلك الممارسات تُصبغ بطابعٍ إسلاميٍّ وتُربط بموروثنا الإسلامي، مع أن تلك المفاهيم لا تمُت الى المفاهيم العلمية الصحيحة بصلةٍ؛ فهناك من يدّعي مثلًا بأن الارتباط بالأرض مثلًا يُفرِغ الشحنات السالبة من جسم الإنسان، ولذا فالسجود لله مثلًا على التراب له أثر إيجابي.
إننا لا ندّعي أن السجود لله ليس له أثر إيجابي على النفس الإنسانية، لكننا نتحفظ بشدة على التفسير المطروح، فإذا كانت هذه الشحنات السالبة أمورًا مادية يمكن إخضاعها للرصد والقياس، فإننا نؤكد أن هذا الصِنف من الشحنات لم يتم رصدها؛ فالشحنات الموجبة منها والسالبة ما هي إلّا وصف رياضي للشحنة، ولا علاقة لها بالأثر الإيجابي أو السلبي على النفس البشرية. أما إذا كانت أمور غير مادية، فلا يَصح استخدام مفاهيم علمية لتفسير تلك الظواهر؛ فالتفسير العلمي مُختصٌ فقط بالظواهر المادية القابلة للقياس والتجريب.
وانتشار الحركات الروحية في الغرب والعودة لها، يراها البعض رجوعًا إلى الدين، لكن في واقعها هي محاولة للاستفادة من الدين مع إفراغه من مُحتواه الفكري والعقائدي؛ فالدين الذي يدعو له الغرب قائمٌ على الطقوس والشعائر الخالية من أية مضمون.
إنَّ هذه الدعوة المتمثلة في إحياء الطقوس والشعائر مع إفراغها من مُحتواها الفكري والعقدي، شبيهة بدعوات مماثلة في بعض مجتمعاتنا الإسلامية؛ حيث تُغرس مظاهر الاهتمام بتلك الطقوس والشعائر دون أدنى اهتمام بمحتواها الفكري والعقدي، وبذلك فهي تلتقي تمامًا مع التوجُّه الغربي، وكلاهما يُفرغ الدين من قِيَمِه ومبادئه، ربما أحدها بقصدٍ والآخر دون قصدٍ.
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
 

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

كلمات دلالية: التی ی

إقرأ أيضاً:

إلى متى... لا إلى أين؟

ينام الإنسان العربي ويفيق كل يوم وهو في كابوس لا نهاية له. ويتساءل كل يوم: هل هذا أنا؟ وهل هذه حقاً أمتي؟ وهل هذه لغتي؟، وهل هذه عروبتي؟ كل يوم يفيق هذا المخلوق المعذب فيجد نفسه محاصراً بجيوش من الألسنة الحاقدة، والعقول الملوثة، والوجوه اللئيمة، التي تمنع عنه التعزية بأمل، أو نور، أو ترفّق، أو وعي. كابوسان لا ينتهيان: إسرائيل في فظاعة الجريمة المكررة، الوقحة والمتغطرسة. ولغة السفه والتلوث الخلقي، وانهيار القيم، وبطولة المكاره، وسباق الرثاثة، وتفاقم الخواء. وإذ نفيق، لم نعد نبحث عن شيء آخر.

استسلمنا إلى جرف الانحطاط، وارتضينا في خنوع لمقياس الخراب وبذاءة الهزيمة، التي هي أسوأ ما يحل بالشعوب والأمم، جيلاً بعد جيل.

نفوس حزينة كسرها الرعب والرهبة. ونفوس تخاف النعوت، وطغيان الشتائم، وجبن مديد يتلطى بالحرص على ما بقي من قواعد وأعراف وآداب وأصول.

والسؤال الأكبر ليس إلى أين، بل إلى متى؟. كلما سادت هذه اللغة، محا الشعور بالهزيمة إحساسنا بكرامتنا البشرية. مواطنون بلا وطن، وأوطان غريبة عن أهلها. ركام النفوس وركام الحجارة. منعتنا إسرائيل حتى من تفقد الأطفال. حتى من إطعامهم. حتى من سقي الحمير التي يتنقلون عليها، ومعهم كل ما يملكون على وجه الأرض.

لكن اللغة التي نناقش بها قضايانا أقسى من ذلك. وأفظع وأفرغ. وأذل. لغة التفاصيل والتباعد والتحقير. لغة الخلو من الإنسان وكرامته وحقوقه. هذا التخاطب يصبح مع الوقت لغتنا الوحيدة، وليس البديلة. نتخاطب كالوحوش، ونتحاور كالكواسر. إلى متى؟... إلى متى ليس لدينا ما نقدمه لأجيالنا سوى هذا السفه والهوان؟!

إلى متى هذا التنكيل بكل ما أورثنا المعلمون، والمقدرون، وكبار الأهل، والعدل، والمُثل؟

الشرق الأوسط

مقالات مشابهة

  • علاء ولي الدين.. ضحكة لا تموت ورحيل في أول أيام العيد (بروفايل)
  • إلى متى... لا إلى أين؟
  • إصابة خمسة عمال بانفجار داخل حقل نفطي في صلاح الدين
  • ادعيه يوم عرفة .. أفضل 500 دعاء للرزق وقضاء الدين وللأبناء والحمل والزواج
  • عز الدين الحداد قائد حماس الجديد في غزة.. هل يحمل مفتاح السلام
  • تحذير علمي: العمل المفرط قد يغير بنية دماغك!
  • صلاح الدين تستعد للعيد بخطة لمكافحة الحمى النزفية
  • الخلايا النجمية قد تفسر سعة التخزين الهائلة للدماغ البشري
  • “شبح القسام” .. من هو عز الدين الحداد آخر قادة حماس المتبقين في الميدان بغزة؟ .. معلومات لا تعرفها عنه
  • دواء يساعد على النوم وقد يحمي من ألزهايمر.. كيف يعمل؟