لجريدة عمان:
2025-12-14@14:03:24 GMT

إسماعيل مظهر وميراثه النهضوي العلمي

تاريخ النشر: 4th, January 2025 GMT

إسماعيل مظهر وميراثه النهضوي العلمي

«حرر فكرك من كل التقاليد والأساطير الموروثة حتى لا تجد صعوبة ما في رفض رأي من الآراء أو مذهب من المذاهب اطمأنت إليه نفسك، وسكن إليه عقلك إذا ما انكشف لك من الحقائق ما يناقضه»..

(شعار مجلة «العصور» التي أصدرها إسماعيل مظهر خلال الفترة 1927-1930)

(1)

من المناطق الغائمة في تاريخنا الثقافي والفكري، وخاصة تاريخ الفكر والتيارات الفكرية منذ مطالع القرن التاسع عشر، وحتى منتصف القرن العشرين، التأريخ الدقيق للتيار الفكري والثقافي الذي انحاز للعلوم والمعارف الحديثة، والذي رأى أنه لا سبيل إلى الخروج من أنفاق الماضي ودهاليز العصور الوسطى، إلا بالأخذ بأسباب التطور والتقدم والنهوض وعلى رأسها الإذعان لمنطق العلم أو العلوم الحديثة، والمقصود هنا العلوم الطبيعية التي تقوم على التجريب والتحقق واستنباط القوانين (الطب والتشريح والفلك والفيزياء والكيمياء والأحياء.

. إلخ).

برز هذا التيار على استحياء في الربع الأخير من القرن التاسع عشر على أيدي مجموعة من كبار المثقفين الشوام المسيحيين، ممن هاجروا إلى مصر واستقروا فيها؛ وكانت البداية مع تلقي نظرية التطور والنشوء والارتقاء لصاحبها تشارلز داروين أحد آباء الثورة العلمية والفكية والفلسفية في القرن التاسع عشر والعشرين، وحتى وقتنا هذا!

كان أول من دعا إلى "الداروينية" أو استهل الحديث عنها، والتعريف بها في هذه الدائرة، بعض المفكرين والمثقفين الشوام المسيحيين، ربما كان أبرزَ هؤلاء، المفكران المسيحيان، شبلي شميل (1865-1917)، وفرح أنطون (1874- 1922) اللذان كانا -بحكم وضعهما الثقافي الحضاري الخاص- أول من يطرح أفكار "التطورية الداروينية"، و"الاشتراكية العلمية"، و"العلمانية" في الشرق العربي كله.

ثم جاء جيل تال من المثقفين والمفكرين المصريين الذين تبنوا النظرية وأفكارها وربطوها بثورة العلوم الطبيعية والفكر العلمي ليظهر إلى ساحة الفكر تيار فكري يدعو إلى العلم والأخذ بأسبابه دون النظر إلى أي معطيات أخرى، فالعلم لا دين له.. كانت الريادة في هذا المجال من لشبلي شميل، وفرح أنطون كما ذكرنا، ثم أعقبهما كل من سلامة موسى، وإسماعيل مظهر، وعصام الدين حفني ناصف..

(2)

من بين هؤلاء، ينفرد المثقف والمفكر الكبير إسماعيل مظهر (1891-1962) بكونه هو الذي تصدى لترجمة كتاب تشارلز داروين الأساسي والكبير (أصل الأنواع) وصدر في القاهرة في مجلد واحد، ويصبح إسماعيل مظهر هو الناطق بلسان داروين في الثقافة العربية الحديثة كلها.

وأصبح إسماعيل مظهر على رأس رواد الاهتمام بهذا التيار العلمي الذي استوعب منجزات ونظريات العلم الحديث -في زمنه- وراح يبشرنا بها ويدعونا إلى متابعتها، ولقد لمع اسم إسماعيل مظهر في زمن رواد النهضة ومفكريها الكبار: أحمد لطفي السيد، وطه حسين، وعباس العقاد، وسلامة موسى، ومحمد حسين هيكل.. وغيرهم من المثقفين الموسوعيين الكبار من مفكري الليبرالية المصرية..

وإن تميز بينهم بموسوعيته التي مالت إلى نظريات العلم الحديث، الطبيعي والتجريبي، كما تميز بذهنية عالية تلزم نفسها بصرامة العلم ومنهجيته ودقته، فترك لنا تراثا كبيرًا، تصدى لجمعه وصونه ونشره نشرا علميا لائقا حفيده المهندس إسماعيل جلال مظهر.

وعلى الرغم من ريادته الفكرية والعلمية في تراثنا النهضوي وميراثنا الثقافي والفكري في النصف الأول من القرن العشرين، لم ينل ما هو جدير به من اهتمام مؤرخو الفكر العربي، رغم أنه يأتي على رأس تيار يوصف بأنه "التيار العلمي" في الفكر المصري المعاصر، ذلك التيار الذي ينتصر للعلم ونظرياته ويبشر بإنجازاته.

(3)

ولمن لا يعرفه من أبناء الأجيال الجديدة؛ نقدم عنه هذه اللمحة التعريفية السريعة.. اسمه بالكامل؛ إسماعيل مظهر محمد عبد المجيد، وهو مثقف نهضوي عظيم، من مواليد 19 يناير 1891 بسوق السلاح بالدرب الأحمر بالقاهرة لأسرة مصرية عريقة، مهتمة بالعمل العام؛ فجده لأبيه هو المهندس إسماعيل باشا محمد، رئيس مجلس شورى القوانين، وجده لأمه هو محمد مظهر باشا أول ناظر للمعارف بمصر، ومنشئ فنار الإسكندرية، وصاحب مشروع «القناطر الخيرية»، والمشارك المصري في إقامته، بالاشتراك مع المهندس الفرنسي «موجل». تلقى تعليمه في المدرسة الناصرية الابتدائية، وفي الخديوية الثانوية، ثم انتقل إلى إنجلترا للدراسة على نفقته الخاصة، فمكث في جامعتي لندن وأكسفورد من عام 1908 حتى عام 1914.

يمثل إسماعيل مظهر صفوة متميزة من المثقفين العرب ممن تأثروا إلى حد بعيد بالعلم الحديث والحضارة الغربية. وكان أهم ما شغله الثورة التي أحدثها داروين (1809-1882) في دراسته عن تطور الكائنات الحية. وقد رأى مظهر أن الإلمام الجيد بهذه الثورة لا يكون إلا بقراءة نصوص النظرية نفسها، فعكف على ترجمة الكتاب الرئيسي لداروين، وهو «أصل الأنواع وتطورها بالانتخاب الطبيعي» عام 1918.

ثم أصدر دراسة طويلة لكتاب داروين بعنوان: «ملقى السبيل في مذهب النشوء والارتقاء وأثره في الانقلاب الفكري الحديث» رد فيها على المذهب المادي عند «شبلي شميل» (1850-1917) وعلى رسالة «جمال الدين الأفغاني».

(4)

اهتم مظهر منذ شبابه الباكر بالصحافة، وارتبط اسمه ارتباطًا وثيقًا بمجلة «العصور» التي أصدرها خلال الفترة (1927- 1930)، وفيها تجلى خطابه النهضوي: في الدعوة للعلم، والتجديد في الأدب، والتحرر الفكري والديني، وقد كان تلميذا نجيبا ليعقوب صروف (1852-1927)، وشبلي شميل (1850-1917)، وفرح أنطون (1874-1922)، وأمين الريحاني (1876-1940) وهم من رواد مدرسة «التحرير الكامل» التي صنعت جيلا من المثقفين العرب يؤمن بأهمية النزعة العلمية في فهم الواقع وتغييره.

وفي عام 1927 اشترك إسماعيل مظهر مع فؤاد صروف، ورضا مدور، وعلي مشرفة، وأحمد زكي أبو شادي، في تأسيس المجمع المصري للثقافة العلمية، وانتخب سكرتيرًا دائمًا له. وعين عضوًا بالمجمع اللغوي (1961). ورأس تحرير مجلة (المقتطف) من 1945 إلى 1949.

ومن أبرز مؤلفاته «قصة الطوفان وتطورها في ثلاث مدنيات قديمة» هي الآشورية البابلية والعبرانية والمسيحية (1929). و«عصر الاشتراكية» (1947)، و«فك الأغلال»، و«الدين في ظل الشيوعية»، و«الإسلام لا الشيوعية» (1961)، و«التكافل الاشتراكي لا الشيوعية» (1961)، كما صدرت له عدة كتب مترجمة: «حياة الروح في ضوء العلم وسير ملهمة»، و«نشوء الكون وتاريخ العلم» و«الأمنية الجديدة» (1961)، و«رؤيا هناء» وهي مجموعة قصص، وسيرة ذاتية: «تباريح الشباب».

وأسهم في حقل المعاجم والموسوعات، فأصدر «قاموس المسرح» في مجلدين، و«قاموس الجمل والعبارات الاصطلاحية»، و«معجم مظهر الإنسيكلوبيدي»، و«معجم الثدييات». اختير عضوًا بمجلس المديرين لمشروع «الموسوعة العربية الميسرة»، ورأس (هو وعبد الرحمن زكي) تحرير الموسوعة، منذ عام 1959 حتى وفاته عام 1962.

(5)

وكان إسماعيل مظهر يؤمن أن الاهتمام بالتعليم هو ركيزة النهضة، ويرى أن اللغة العربية وآدابها أصل تقليدي، ينبغي أن يكون أساسًا للأدب الحديث، وأن الأدب العربي الحديث ليس إلا لقاحًا يغذي ذلك الأصل. ومحاولة المجددين اتخاذ أدب الغرب أساسًا وجعل اللغة العربية «أداة التعبير» ليست إلا خطأ وجنوحًا عن حقائق التطور الاجتماعي. ولهذا يبدو مظهر، في نظر المجددين، من أنصار المدرسة الكلاسيكية. وفي هذا يكمن سر احترامه لأدب الرافعي، على الرغم من تباين مذهبهما في التفكير ومفهومهما للأدب، كما ينطوي فيه سر نفرته من أدب المجددين من أدباء العربية، مثل جبران خليل جبران، وطه حسين، والعقاد.

قام "خطاب النهضة" عنده على ركيزة ثابتة في تاريخ الفكر والأدب، تعتمد الاحتفال بالمصادر التي تلخص ما يسميه بـ«جدل الماضي» والاحتفال بالمصادر التي تهيئ لـ«جدل المستقبل» وهو يرى أن لا سبيل إلى تحقيق هذين المصدرين، وتفعيلهما، إلا بالاهتمام بالترجمة والنقل عن اللغات والثقافات الأخرى.

وعلى صعيد الإصلاح الاجتماعي؛ اهتم إسماعيل مظهر بالفلاح، وارتكزت مذكرته التفسيرية لإنشاء حزب الفلاح على ثلاثة مبادئ: التسوية بين الناس في فرص الحياة، وتحديد ملكية الأرض، وزيادة نسب صغار الملاك، ومحاربة المبادئ البلشفية.. (وللحديث بقية..)

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من المثقفین

إقرأ أيضاً:

اللحظة الأخطر في تاريخ اليمن الحديث

كانت المنطقة تنتظر أن يذهب اليمن في اتجاه يستطيع فيه بناء نفسه ووحدته ويعيد ترميم نسيجه الاجتماعي والسياسي فإذا هو يذهب نحو صراع نفوذ وخطر تقسيم داخلي في منطقة كانت هادئة خلال العقد الماضي.. ويبدأ ذلك من الشرق المستقر. 

فحضرموت والمهرة كانتا في حالة هدوء إيجابي بالنظر إلى ما كان يحدث في بقية اليمن من ضجيج وتشقق وانقسامات. وهذا العبث الخطير يعني كسر آخر ما تبقى من «الاعتياد» على الاستقرار النسبي، وفتح باب كبير لا يمكن أن يغلق بسهولة حتى لو أراد أهله غلقه في لحظة من اللحظات. 

من يقرأ اليمن من الداخل يعرف أن الهدوء الذي كان سائدا في الشرق هو نتاج توازنات محلية دقيقة مرتبطة بالجانب القبلي والمصالح التجارية والمسافات البعيدة عن مراكز القرار.. وأيضا نتيجة إرث اجتماعي يحاول حماية مجتمعه من عدوى الحرب. 

ما يحدث الآن يخلق سلطات موازية تُولد سريعا ثم تتضخم. وحين تتعدد المرجعيات الأمنية وتُدار الموارد من خارج المؤسسات، يتحول الأمن إلى ولاء، وتتحول المعابر إلى نفوذ، وعندها تتراجع فكرة الدولة والشرعية، وتظهر أسواق موازية تبحث عن الربح والنفوذ، وتترك ندوبا طويلة ليس من اليسير أن تلتئم. 

وحضرموت تمثل «الشرق اليمني» الذي يملك وزنا اقتصاديا وساحلا وموانئ وعمقا بشريا يصعب تطويعه بمنطق الغلبة، والمهرة مفصل حساس يجاور دولا، وتعيش فيه المجتمعات على حركة الناس والبضائع والمعابر، والذي يريد الزج بهذه الجغرافيا الهادئة ـ في الوقت الذي كان الجميع يتوقع بدء مرحلة التعافي من إرث سنوات مليئة بذاكرة الدماء والمحارق وصراع النفوذ ـ 

لا ينشد أي خير لليمن واستقلالها ولا لشعبه الكريم الذي قدم الكثير من التضحيات وخسر الكثير من السنوات في حروب لا طائل منها أبدا. 

وعندما تنقسم الشرعية الآن في معسكرات متعددة يفقد اليمنيون مرجعيتهم، وتتقدم «الكيانات» على «المؤسسات» وتغدو السياسة سوقا لصفقات قصيرة العمر. 

ومن يعود إلى تجارب تقسيم الدول وإلى حقيقة الثقافة التي تشكل الفكرة وتدفع بها نحو الأمام يجد أن حقيقة تقسيم الدول تبدأ حين يعتاد الناس أن لكل منطقة جهازها ومعبرها وقرارها ومواردها وعلاقاتها الخاصة.. ويبدأ، أيضا، عندما يصبح الحديث عن اليمن الواحد حكرا على الخطب السياسية بينما الواقع يدار بفكر التقسيم وتنشأ الأجيال على فكرة الأجزاء لا على فكر الوحدة والكيان الواحد. 

ومنذ عقود طويلة كانت سلطنة عمان تدفع من أجل أن يبقى اليمن واحدا بعيدا عن التجزئة، وأن يبني اليمنيون وطنهم بوصفه نسيجا واحدا تحضر فيه كل المكونات الطائفية والثقافية تحت سقف وطن واحد اسمه اليمن وقد بذلت في سبيل ذلك جهودا كبيرا جدا ومصلحتها الاستقرار على حدودها وفي محيطها وأن تبقى سلطة الدولة في اليمن هي المرجعية. ولم تكن عُمان منحازة لطرف ضد طرف أبدا، إنما كانت وما زالت تنحاز لفكرة أن الدولة هي الحل، وأن السيادة هي القاعدة التي على اليمنيين أن يؤمنوا بها وكل ذلك من أجل حياة كريمة للشعب اليمني الأصيل والكريم على الدوام. 

بهذا المعنى لا ينبغي تحويل حضرموت والمهرة إلى ساحة تنافس نفوذ إقليمي عبر وكلاء محليين، ولا إلى ورقة ضغط في مساومات مؤقتة، والقوى المؤثرة في اليمن قادرة على كبح تمددات أحادية، ودفع الأطراف إلى ترتيبات أمنية تحمي المجتمعات المحلية وتبقى تحت مظلة الدولة اليمنية، لا تحت مظلة الأمر الواقع. 

ولغة التهدئة لا تكفي إذا كانت الأرض تتحرك في الاتجاه المعاكس.. ما يلزم هو وقف واضح لأي خطوات توسعية وهو أهم شرط في سبيل إنقاذ فكرة اليمن الواحد وحماية شرقه من أن يتحول من منطقة تعافٍ إلى جبهة صراع وتقسيم جديدة. 

مقالات مشابهة

  • المستشار مظهر صالح: تذبذب الدولار مؤقت
  • مصر تحصد جائزتى البحث العلمي لمنظمة أوابك العربية للبترول
  • مظهر شاهين: محمد صلاح فخر العرب.. والسخرية من أحمد السقا لا تليق
  • هل الكحول السبب؟.. صديق إسماعيل الليثى يكشف أسرار جديدة عن حادث وفاته
  • كان تعبان .. صديق إسماعيل الليثى يروي تفاصيل حادث وفاته في لقاء مؤثر مع سعد الصغير
  • اللحظة الأخطر في تاريخ اليمن الحديث
  • تجليات يُتم الفكر في الفضاء الإسلامي (6-11)
  • محمد موسى يكشف كواليس اكتساح محمد إسماعيل لانتخابات النواب ببولاق الدكرور
  • مظهر شاهين ينتقد الطلاق الشفهي: أي شريعة تُبهدل المرأة؟
  • مظهر شاهين يحذّر من فوضى الطلاق الشفهي: نساء معلّقات بين الشرع والقانون