أجابت دار الإفتاء المصرية، عن سؤال ورد اليها عبر موقعها الرسمي مضمونة: "ما حكم ضمان الوديعة التي أوصى بها المتوفى قبل موته ولم توجد في موضعها؟ فهناك رجلٌ أخبر أولادَه قبل وفاته أنَّ ابن عمه قبل أن يسافر خارج البلاد ترك وديعةً عنده ليستردَّها منه عَقِب عودته، وأنَّه قد قَبِل تلك الوديعة من غير أجرٍ ابتغاءً للأجر والمثوبة من الله تعالى، وأخبَرَهم بموضِع حفظها، فلما مات لم يجدوها في الموضِع الذي سمَّاه لهم ولا في غيره، فهل تُضمَن تلك الوديعة من تركته؟".

لترد دار الإفتاء موضحة: أنه إذا أخبر الرجلُ المذكور أولادَه قبل وفاته بالوديعة التي تركها ابنُ عمه عنده ليحفظها له إلى حين عودته من سفره، وذكر لهم موضِع حفظها، ثم مات ولم يجدوها في المكان الذي أخبرهم به ولا في غيره، فلا ضمان عليه في تركته، فإن وجدوها بعد ذلك وجب عليهم ردُّها إلى صاحبها.

بيان الإجماع على جواز الوديعة
لَمَّا كانت حاجةُ الناس ماسَّةً إلى إيداع الأمانات لدى الغير؛ لأنَّه يتعذَّر على بعضهم حفظ أموالهم بأنفسهم، شُرِعَت الوديعة رعايةً لحالهم وحفظًا لأموالهم من الضياع، والأصل فيها قولُ الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء: 58].

قال الإمام القُرْطُبِي في "الجامع لأحكام القرآن" (5/ 257، ط. دار الكتب المصرية): [الآية شاملة بنَظْمِها لكلِّ أمانة، وهي أعداد كثيرة كما ذكرنا، وأُمَّهاتها في الأحكام: الوديعةُ، واللُّقَطَة، والرهن، والعارية] اهـ.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» أخرجه الإمامان: أبو داود والترمذي في "السنن".

قال العلامة مُظهِر الدين الزَّيْدَانِي في "المفاتيح في شرح المصابيح" (3/ 476، ط. دار النوادر): [يعني: مَن أودع عندك وديعةً سَلِّم تلك الوديعة إليه من غير نقصٍ وتصَرُّف، ولا تَخُن فيه وإن خانك صاحبه] اهـ.

وقد أجمع علماء الأمة الإسلامية الميمونة على مَرِّ العصور وكَرِّ الدهور على جواز الوديعة من غير نكير.

قال الإمام مُوَفَّق الدين ابن قُدَامَة في "المغني" (6/ 436، ط. مكتبة القاهرة): [أجمع علماء كلِّ عصر على جواز الإيداع والاستيداع، والعبرة تقتضيها، فإنَّ بالناس إليها حاجة، ويتعذَّر على جميعهم حفظ أموالهم بأنفسهم، ويحتاجون إلى من يحفظ لهم] اهـ.

حكم ضمان الوديعة التي أوصى بها المتوفى قبل موته ولم توجد في موضعها

الوديعةُ أمانةٌ في يد المودَع، فيجب عليه أن يحفظها على الوجه الذي يحفظ به مالَه، بأن يجعلها في حِرزٍ آمِن لا تطاله أيدي السُّراق ولا تلحق بها الآفات، وألَّا يجعلها عُرضةً للتَّلَف أو الضَّيَاع؛ لأنَّه التزم الحفظَ فلم يجُز له التفريط فيه.

قال الإمام علاء الدين السَّمَرْقَنْدِي في "تحفة الفقهاء" (3/ 171، ط. دار الكتب العلمية): [عقد الوديعة استحفاظٌ من المودِع وائتمانٌ له، فتكون الوديعةُ أمانةً في يد المودَع؛ لوجود الائتمان من المودِع، يلزمه حفظها إذا قَبِلَ الوديعة؛ لأنه التزم الحفظ، فيجب عليه أن يحفظ على الوجه الذي يحفظ مالَه بحِرزه وبيده وبيد من كان مالُه في يده] اهـ.

وهذا ما نص عليه القانون المدني المصري رقم 131 لسنة 1948م، في مادته رقم 720، حيث جاء فيها: [إذا كانت الوديعة بغير أجر وجب على المودَع عنده أن يبذل من العناية في حفظ الشيء ما يبذله في حفظ ماله] اهـ.

ولَمَّا كان المودَع مأمورًا بحفظ الوديعة وعدم تعريضها للتَّلَف والضياع، فإنَّه يجب عليه متى خشي الموتَ أن يوصي بها إلى مَن بعده مِن أهله وورثته أن يؤدوها إلى صاحبها؛ إذ قد تطالها أيدي الورثة والغرماء ويدخلونها في التركة ويخضعونها لأحكامها جهلًا منهم بأنها مِلكٌ لغير المورِّث وهي خلافُ ذلك، فيكون بِسُكُوتِهِ مُضَيِّعًا لها. ينظر: "درر الحكام" للمُلَّا خُسْرُو الحنفي (2/ 427، ط. در إحياء الكتب العربية)، و"التمهيد" للإمام ابن عبد البَر المالكي (14/ 292، ط. أوقاف المغرب) و"روضة الطالبين" للإمام النَّوَوِي الشافعي (6/ 329، ط. المكتب الإسلامي)، و"المغني" للإمام ابن قُدَامَة الحنبلي (6/ 137، ط. مكتبة القاهرة).

ودليل وجوب الإيصاء والحالة هذه: عمومُ قول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء: 58].

وإيصاء المودَع بالوديعة إلى مَن بعده هو سبيل ردِّها إلى مودِعها أداءً للأمانة متى تعذَّر دفعُها إليه لسفرٍ أو غيره، وكان المودَع يخشى على نفسه الموت، فكان الإيصاءُ حينئذٍ واجبًا؛ لِمَا تقرَّر في قواعد الشرع الشريف مِن أنَّ "للوسائل أحكام المقاصد"، كما في "قواعد الأحكام" لسلطان العلماء عِزِّ الدِّين بن عبد السلام (1/ 46، ط. دار المعارف).

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ» أخرجه الشيخان.

قال الإمام أبو الفتح تقي الدين ابن دَقِيقِ العِيد في "عمدة الأحكام" (2/ 161، ط. مطبعة السنة المحمدية): [الوصية على وجهين: أحدهما: الوصية بالحقوق الواجبة على الإنسان، وذلك واجبٌ.. والوجه الثاني: الوصية بالتطوعات في القربات، وذلك مستحب، وكأنَّ الحديث إنَّما يُحمَل على النَّوع الأوَّل] اهـ.

وقال الإمام الشَّوْكَانِي في "نيل الأوطار" (6/ 42، ط. دار الحديث): [الحديث يختصُّ بمن عليه حقٌّ شرعيٌّ يخشى أن يضيع على صاحبه إن لم يوصِ به، كالوديعة والدَّيْن ونحوهما] اهـ.

ومحلُّ وجوب الإيصاء بالوديعة متى خشي الموتَ إذا لم يكن بها بيِّنَة باقية، فلو كانت للوديعة بيِّنةٌ لم يجب الإيصاء بها، كما في "تحفة المحتاج" لشيخ الإسلام ابن حَجَرٍ الهَيْتَمي (7/ 109-110، ط. المكتبة التجارية الكبرى، مع "حاشية الإمام الشَّرَوَانِي").

فإن أوصى المُودَعُ بالوديعة إلى مَن بَعده، وأخبَرَهم بموضِع حِفظِها، ثمَّ مات ولم توجَد، فلا ضمان عليه في تركته، وتُحمَل على التَّلَف أو الضياع قبل موته؛ لأنَّ الوديعة متى كانت بغير أجرٍ -كما هي مسألتنا- فهي عقدٌ لا ضمان فيهِ إلا بالتَّفريطِ والتَّعدِّي؛ لأنَّها "مَعرُوفٌ وَإِحسَانٌ، فَلو ضُمِنَت مِن غَيرِ عُدوَانٍ زَهَدَ النَّاسُ فِي قَبُولِهَا فَيُؤدِّي إِلَى قَطعِ المَعرُوفِ"، كما قال الإمام الشِّيرَازِي في "المهذَّب" (2/ 181، ط. دار الكتب العلمية).

ودليلُ ذلك: ما روي عن عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنهما، أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ أُودِعَ وَدِيعَةً فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ» أخرجه الأئمة: ابن ماجه والدَّارَقُطْنِي والبَيْهَقِي في "السنن".

نصوص الفقهاء الواردة في ذلك
هذا ما اتفقت عليه كلمة جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.

قال العلامة علاء الدين ابن عَابِدِين الحنفي [ت: 1306هـ] في "قرة عين الأخيار" (8/ 481، ط. دار الفكر) نقلًا عن أبيه الإمام ابن عَابِدِين [ت: 1252هـ]: [المودَع إن أوصى بالوديعة في مرض موته، ثمَّ مات ولم توجد، فلا ضمان في تركته] اهـ.

وقال الإمام الدُّسُوقِي المالكي في "حاشيته على الشرح الكبير" (3/ 426، ط. دار الفكر) في سياق حديثه عن ضمان الوديعة بموت المودَع: [لو أوصى بها لم يضمنها، فإن كانت باقيةً أخذها ربُّها، وإن تلفت فلا ضمان، ويدخل في إيصائه بها ما لو قال: "هي بموضِع كذا" ولم توجد، فلا يضمنها كما قال أَشْهَب، وتُحمَل على الضياع؛ لأنه بقوله: "هي بموضِع كذا" كأنه ذكر أنه لم يتسلَّفها، وهو مُصدَّقٌ؛ لأمانته] اهـ.

وقال حجة الإسلام الغَزَالِي الشافعي في "الوسيط" (4/ 502، ط. دار السلام): [إن أوصى إلى عَدْلٍ فلم توجد الوديعةُ في تركته، فلا ضمان، ويُحمَل على أنها ضاعت قبل موته] اهـ.

وقال الإمام شمس الدين الزَّرْكَشِي الحنبلي في "شرح مختصر الإمام الخِرَقِي" (4/ 583، ط. مكتبة العبيكان): [قال في "التلخيص": إذا أوصى وأجمَلَ ولم يُعرِّف ضَمِنَ، نص عليه، وإن ذكر جنسَها بأن قال: "عندي وديعةٌ عمامة، أو سراويل، أو نحو ذلك"، ولم يوجد ذلك في تركته، فلا ضمان؛ لاحتمال التلف قبل الموت] اهـ.

فإن وُجِدَت تلك الوديعة بعد ذلك بعَيْنها في الموضع المُسمَّى أو في غيره من المواضع وجب ردُّها إلى صاحبها -ولو طال الزمان-، وحَرُم حبسُها أو الانتفاعُ بها من غير إذن المُودِع؛ لتعلُّقِ حقِّ المودِع بها.

قال الإمام ابن المُنْذِر في "الأوسط" (11/ 316، ط. دار الفلاح): [أجمَع أهلُ العلم على أنَّ الرجل إذا مات وعنده وديعة تُعْرَف بعينها لرجلٍ أنَّ صاحبها أحقُّ بها، وأنَّ تسليمها إليه يجب] اهـ.

الخلاصة
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فلو أخبر الرجلُ المذكور أولادَه قبل وفاته بالوديعة التي تركها ابنُ عمه عنده ليحفظها له إلى حين عودته من سفره، وذكر لهم موضِع حفظها، ثم مات ولم يجدوها في المكان الذي أخبرهم به ولا في غيره، فلا ضمان عليه في تركته، فإن وجدوها بعد ذلك وجب عليهم ردُّها إلى صاحبها.

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: الوديعة المزيد إلى صاحبها الودیعة التی قال الإمام فی ترکته اهـ وقال ولم توجد قبل موته حم ل على فی غیره المود ع مات ولم ن علیه من غیر

إقرأ أيضاً:

باحثون: السمنة المبكرة تزيد خطر الالتهاب الرئوي وتعفن الدم لاحقاً

10 دجنبر، 2025

بغداد/المسلة: أظهرت دراسة حديثة أن زيادة الوزن وضعف اللياقة البدنية في أواخر مرحلة المراهقة يرتبطان بارتفاع خطر الإصابة بالإنتان والالتهابات البكتيرية الحادة لاحقاً، إضافة إلى زيادة احتمالات الوفاة بسببها عند البلوغ.

وبيّنت الدراسة أن خطر الوفاة الناتجة عن تسمم الدم كان أعلى بأربع مرات لدى الفئة التي تمتلك وزناً أعلى.

اعتمد الباحثون في دراستهم على بيانات السجل الوطني السويدي، التي تشمل نحو مليون رجل، وتمكنوا من تتبع المشاركين لأكثر من 30 عاماً من خلال ربط بيانات التجنيد العسكري بالسجلات الصحية وسجلات أسباب الوفاة.

عند التحاق المشاركين بالخدمة العسكرية، جرى قياس مؤشر كتلة الجسم ومستوى اللياقة البدنية، ثم تصنيفهم إلى مجموعات تمت مقارنتها لاحقاً من حيث احتمالات الإصابة أو الوفاة بسبب الالتهاب الرئوي البكتيري، أو عدوى صمامات القلب، أو الإنتان.

وبحسب ما ورد في “ميديكال إكسبريس”، قام الباحثون بتعديل عوامل عدة في التحليل—مثل قوة العضلات، والوضع الاجتماعي والاقتصادي، والربو—للحصول على تقدير أدق للعلاقة بين الوزن، واللياقة، وخطر العدوى.

خلصت الدراسة إلى وجود “زيادة في قابلية الإصابة بالعدوى حتى لدى الأشخاص الذين يتمتعون بوزن طبيعي لكنه قريب من الحد الأعلى”.

وقالت جوزفينا روبرتسون، الأستاذة في جامعة غوتنبرغ وأخصائية الأمراض المعدية في مستشفى سالجرينسكا: من المعروف أن ارتفاع مؤشر كتلة الجسم وضعف اللياقة في سن مبكرة يرتبطان بأمراض القلب والأوعية الدموية والسرطان لاحقاً، وقد ثبتت هذه العلاقة أيضاً مع كوفيد-19. لكن لم يُبحث سابقاً ارتباط هذه العوامل بخطر الإصابات البكتيرية الحادة في مرحلة البلوغ”.

وخلال فترة المتابعة، سجّلت الدراسة أكثر من 44 ألف إصابة بعدوى بكتيرية حادة، وكان الالتهاب الرئوي الأكثر شيوعاً، يليه تعفن الدم.

المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author moh moh

See author's posts

مقالات مشابهة

  • 7 أطعمة تمد الجسم بالمغنيسيوم أفضل من المكملات
  • حكم الدين في عدم الإنجاب.. أزهري: الشخص الذي يرفض النعمة عليه الذهاب لطبيب نفسي
  • الإمام العياني.. نجم بزغ في سماء اليمن وقائد جمع بين السيف والقلم
  • غموض قاتل بساحل سليم: جثة طفل 12 سنة تحير الشرطة
  • علي جمعة يوضح الفرق بين القلب والفؤاد..فتعرف عليه
  • باحثون: السمنة المبكرة تزيد خطر الالتهاب الرئوي وتعفن الدم لاحقاً
  • وزارة التعليم تنعي الطالب أدهم عاطف بمدرسة STEM ببني سويف..وتوضح ملابسات حالة الوفاة
  • كتيبة حماية وأمن منفذ الوديعة تحذر من تصوير المنشآت العسكرية وتتوعد بالمساءلة القانونية
  • وضعتني في موقف صعب لا أحسد عليه.. حماتي قررت مصيري
  • فضل التسبيح والتحميد والتكبير بعد الصلوات.. داوم عليه وترى تغييرا فى حياتك