كان مشهدا اختصر الكثير من الصور والكلمات؛ أعدادٌ غفيرةٌ من النازحين قسرا يعودون إلى ما كان يسمى بمنازلهم وشوارعهم وأماكنهم، إنهم يعودون إلى أكوام الأنقاض والركام، فتغيب صور بيوتهم وتضمحل بين الأنقاض، وتطوي معها صفحات ومعالم ذكرياتهم والكثير من أشيائهم، إنهم يعودون من الموت إلى الحياة في رمقها الأخير وإلى حياة أعدمها القتلة، ومجرمو العصر، حياة أبادها نشر الأمراض والأوبئة، حياة قتلها البرد والصقيع، وأبادتها سياسة المجرم النتن في التجويع والتعطيش وكأن الغزاويين "حيوانات بشرية، وليس منهم بريئون" كما وصفهم قادة الاحتلال.
الغزيّون يعودون إلى حياةٍ فيها بعض من ماءٍ ملوّث وبقايا غذاء وبيتٍ أصبح ركاما وأحلامٍ تبخرت، يعودون هائمين على وجوههم بين بقايا آليات الدمار والموت، ولا ينظرون إلى السماء -كما كانوا يفعلون برحلة النزوح- إلى طائرة مسيرة قد تأتي عليهم بموتٍ محقق.. يعودون عودة المنتصر على هذه الآليات المدمرة، يبتسمون من جديد بسمة الحياة في مواجهة الموت، وبعضهم يحمل خيمته لينصبها فوق أنقاض بيته المدمّر. يعودون بطوابير يسابق أحدهم الآخر من يصل إلى بقايا منزله أولا؛ ليبحثوا عن جثامين شهدائهم، وعن ما فقدوه من أحبة، وعن بقايا صور لأطفالهم، ولم ينسوا أن يحملوا معهم أكفانا ليكفّنوا بها من بقي تحت الركام من أُسرهم، أو ما تبقى من أشلاء أحبائهم بين الأنقاض.. هناك يروون قصصا عن آخر لحظات مشاهداتهم ولقاءاتهم مع الأهل قبل استشهادهم، يجلسون على ما تبقى من أثاث منزلهم يراجعون ماضيهم ويتأملون بالمشهد الجديد، ويتساءلون من يعيد لهم أحبتهم الذين فقدوهم، ومن يعيد لهم ذكرياتهم الجميلة ولعب أطفالهم وشغفهم وحياتهم الماضية؟ ويكتفون برفع الأعلام الفلسطينية باعتزاز فوق منازلهم المدمّرة وكأنها الرسالة التي لا يفهمها إلا من فقد شهيدا.
إنهم بعودتهم يؤكدون إرادة الصمود والتحدي؛ فيطوون ساعة النزوح المُذل ولحظة نزوحهم المقترن بالموت من كل جانب. فهناك قناص، وهناك طائرة زنانة من فوقهم، وأخرى مُسيّرة، وهنا دبابة تقذف حممها بجوارهم إنهم يطوون نزوحا قسريا أراده الجنرالات وساسة الكنيست وبعض الغرب والعرب.
تتزاحم المشاهد من كل حدبٍ وصوب، فهذه أمٌ تحمل رضيعها الذي يئن وسط القصف وجلجلة الدبابات وهدير الطائرات، وهناك أم تمسك بأيدي أطفالها أشباه عراة وحفاةٍ، يهرعون باتجاه الطريق الذي حددته لهم قوات الاحتلال الغازية بانتظار قتلهم بعد حين بعيدا عن عدسات الكاميرات، وهناك جدٌ مسنٌ لا يقوى على السير، فيجر قدميه اللتين ترفضان مبارحة المكان وكأنهما تصرّان على التشبث بمنزلٍ طالما ضم الأسرة الكبيرة التي لم يبق منها سواه. أين يغادر وقد ترك أشلاء أبنائه وأحفاده وراءه؟ أين يرتحل وروحه عالقة هناك بين الأنقاض؟
وفي زاوية أخرى، من الشارع تسير فتاة يافعة حافية القدمين، تمسك بيد أخيها الصغير وتنادي على أمها التي ابتعدت عنها ببضع خطواتٍ؛ هاربة من موتٍ ينتظرها وطفلها بين يديها وهي تلتفت وراءها وتطلب من ابنتها تسريع الخطى قبل أن يقتنصها القناص، أو قبل أن يوقفها جندي ويفتشها وطفلها الرضيع بشكل مهين. ويُروى -وهذه حقيقة ليست من ضروب الخيال- أن رجلا معاقا على كرسيه يقوده الجنود على أمل أن يساعدوه ويرشدوه على الطريق، ويُعدم بدمٍ بارد. وفي مشهد إعدامٍ آخر، تعرض شاشات التلفزة أربعة رجال يستبقون الخطى باتجاه منازلهم على الطريق الساحلي فتعالجهم طائرة مسيّرة فتقتلهم على مرحلتين. ولا تغيب عنا تلك الجدة التي ترفع راية بيضاء بيد وتجر حفيدها باليد الأخرى، فيتلقفها قناص ولا يبقى من المشهد المحزن إلا جثة هامدة وطفل يجثو عليها باكيا. لقد جعل الغزاة من النزوح القسري حكاية مأساوية وجولة سياحية لمراتٍ عديدة في أزقة وشوارع مدن غزة كافة، جولة مؤلمة مشيا على الأقدام وتحت كل المخاطر بموتٍ قادم.
وهناك الكثير والكثير ممن يحملون آلامهم ومعاناتهم، ويغادرون باتجاه المجهول والنزوح إلى مساحات ومتاهات لا تُعرف حدودها، هل هي إلى مدارس الأونروا ومقارها، على أمل أنها بمنأى من قصف الطائرات وقذائف الدبابات؟ هل هو إلى خيم النزوح مرة أخرى لتعيد صورة النكبة الأولى عام 48؟ يبدو أنه نزوح إلى خيم التشرد من جديد، حيث انطلقت منها حياتهم الحالية، والتي تُدمّر الآن مرة أخرى، ولربما ليست الأخيرة، على مقصلة نازية وفاشية نتنياهو ودعاة حقوق الإنسان، نزوحٌ لا يدركون انه ملاذهم الأخير إلى الموت الجديد حرقا مع خيامهم.
إن من سمع لا كمن رأى، إذ لا تستطيع الكلمات بلوغ حقيقة تفاصيل الواقع المرير الذي عاشه النازحون طيلة جولة نزوحهم، سواء في الطريق إلى الملجأ الأخير أو في خيمتهم الأخيرة.
بين مشهد النزوح ومشهد العودة، تقع غزة بكل تفاصيلها شهيدة شجرا وحجرا وبشرا. وتمتد معاناتها إلى نحو471 يوما، ذاق أهلها كل مرارات الموت والعذاب والمعاناة من كل الأنواع. بين المشهدين يقع خذلان الأشقاء القريبين جدا والبعيدين، بين المشهدين تُسجّل أعداد الشهداء رقما قياسيا بلغ أكثر من47 ألفا وحوالي 11 ألفا من المفقودين تحت الأنقاض ونحو 110 آلاف من الجرحى، وصل أنينهم إلى كل أصقاع العالم، ومن خلالهم تم نقل حقيقة الهولوكوست الحديث والمحرقة المعاصرة.
في مشهد العودة المتواصل، يحدث أمرٌ غريب؛ ينكر فيه البعض فرح العائدين، وفرح الناجين من الموت والهزيمة، وفرح القادمين إلى حياةٍ بل شبه حياة، ينكر هؤلاء دفق دم جديد في عروق العائدين من الموت؛ وكأنهم كانوا ينتظرون إعلان شهادة موتهم ليعودوا بدورهم على ظهر دبابات المحتل بنظاراتهم الأمريكية الصنع، ويعلنون عن جهوزيتهم للإمساك بالسلطة التي كرهها العائدون، وكرهها الصابرون، المحتسبون.
كم هو عارٌ وعار! أن يقف الشقيق متفرجا على موتك بيديْ جلاديك وبمعونة يديه، لكنها تبقى مأساة انتمائنا لوحدتنا الوطنية وحبنا لأرضنا ولأهلنا.
ومع العودة ومشهدها المؤلم لكنه المفرح إلى حد ما، هنيئا لكم أيها الغزاويون وقد هزمتم مشاريع وأهداف أعدائكم، وإن كانت غزة مُدمرة وإن كانت عائلاتكم ثكلى، هنيئا لكم صمدتم وصبرتم، ولكن ربحتم البيع، هنيئا لكم إذ جعلتم من الموت والنزوح عودة إلى الحياة وأملا مشرقا ولو بعد حين.
[email protected]
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه النازحين النزوح غزة غزة نازحين نزوح مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة من الموت
إقرأ أيضاً:
العمل جاري على تهجير أبناء غزة.. ما ذا تعرف عن خطة “عربات جدعون” الأكثر دموية وخبثاً
يمانيون/ تقارير
في ظل العدوان المستمر والجرائم الوحشية التي يرتكبها العدو الإسرائيلي في غزة وما خلفه من كارثة إنسانية غير مسبوقة، تتسم بوقوع أعداد هائلة من الضحايا والمجاعة والنزوح الواسع النطاق، والتي تُدان على نطاق واسع كجرائم حرب وحتى إبادة جماعية، في ظل هذا الوضع الكارثي يسعى العدو الإسرائيلي لتنفيذ خطته الأكثر دموية ووحشية والتي تعرف بخطة “عربات جدعون” فعقب إقرار ما يُسمى “الكابينت” الإسرائيلي للخطة التصعيد الجديدة والهادفة -عبر التجويع الممنهج، والمجازر المكثفة، ومنع دخول الغذاء والدواء، لإعادة تقسيم قطاع غزة إلى معازل صغيرة تدفع الفلسطينيين نحو منطقة أُطلق عليها “غزة الصغرى”، تمهيدًا لتهجيرهم القسري خارج القطاع.
جرائم ممنهجة لتنفيذ المخطط الديمغرافي الكبيريمثّل الوضع في قطاع غزة مستوى غير مسبوق من الدمار والمعاناة، يتسم بعشرات الآلاف من الضحايا الفلسطينيين.
ووفقاً لوزارة الصحة في غزة، استشهد أكثر من 52,653 فلسطينياً وأصيب 118,897 بين 7 أكتوبر 2023 و7 مايو 2025.4 وبحلول 4 مايو 2025، أشار خبراء الأمم المتحدة إلى استشهاد أكثر من 52,535 شخصاً وإصابة 118,491.5 ويشمل ذلك حصيلة مروعة من الأطفال، حيث استشهد أكثر من 16,278 طفلاً منذ أكتوبر 2023.4
لقد أدت جرائم العدو الإسرائيلي إلى نزوح واسع النطاق، فقد نزح 90% من سكان غزة (2.1 مليون شخص)، ويفتقرون إلى المأوى الكافي والغذاء والخدمات الطبية المنقذة للحياة والمياه النظيفة والتعليم وسبل العيش، وتشير التقديرات إلى أن حوالي 1.9 مليون شخص نازحون داخلياً، وكثير منهم أجبروا على التنقل عدة مرات، ويعيشون في ملاجئ مؤقتة غير كافية.
أحد الجوانب الحاسمة للأزمة الإنسانية هو الحصار المتعمد للمساعدات من قبل العدو، لأكثر من شهرين (منذ 2 مارس 2025)، تم منع جميع الإمدادات من دخول غزة، مما أدى إلى توقف شبه كامل للجهود الإنسانية لحماية المدنيين ومساعدتهم، بدون مواربة وبكل تبجّح أعلن مسؤولون صهاينة رفيعو المستوى صراحة عن نيتهم في استخدام التجويع كتكتيك للضغط على المقاومة في غزة وهو انتهاك واضح للقانون الدولي، نددت الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة بالخطط الإسرائيلية الأمريكية لتوزيع المساعدات على أنها غير متوافقة مع المبادئ الإنسانية، خوفاً من أنها قد تؤدي إلى مزيد من النزوح القسري، ويفيد مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) بأن غالبية كبيرة من تحركات المساعدات المخطط لها التي يتم تنسيقها مع العدو الإسرائيلي يتم رفضها أو تواجه عقبات، ما يؤكد إصرار العدو على تنفيذ خطة التهجير عنوة وتحت تهديد القوة بالنار أو بالتجويع.
في أرقام الضحايا خلفت جريمة الحصار لوحدها أكثر من 70,000 طفل في المستشفيات يعانون من سوء التغذية الحاد، و1.1 مليون يفتقرون إلى الحد الأدنى اليومي من المتطلبات الغذائية للبقاء على قيد الحياة، وكانت اليونيسيف قد حذرت في مايو 2025 من أن الأطفال في غزة يواجهون خطراً متزايداً من التجويع والمرض والموت مع كل يوم يمر من حصار المساعدات، كما إن بيانات سوء التغذية ودخول الأطفال إلى المستشفيات لا تمثل مجرد إحصائيات وحسب بل تشير إلى نتيجة سياسة متعمدة، مما يدعم تأطيرها القانوني الذي أقرت به عدة أطراف قانونية دولية كـ”جريمة إسرائيلية” صنف الـ “إبادة الجماعية” كما يصفها خبراء الأمم المتحدة أنفسهم، ما يعيد تسليط الضوء على استراتيجية محسوبة وممنهجة ومتعمّدة يقوم بها العدو ووفق المجريات المتتابعة لها فهي أبعد من أن تكون نتيجة جانبية غير مقصودة
بالنسبة للدمار الذي ألحقه العدو بالبنية التحتية فهو هائل، واعتباراً من مايو 2024، تضررت معظم المباني السكنية وسويت الأحياء بالأرض، وبحلول مايو 2025، تعرض 95.4% من المدارس في قطاع غزة لمستوى معين من الأضرار في مبانيها، ما يعني أن ما يقوم به العدو هو ضمن مخطط لاستهداف مستقبل المجتمع الغزي ونسيجه الاجتماعي، وهي إشارة أخرى تعزز فكرة أن العدو يعمل على استراتيجية تهدف إلى تعطيل المجتمع الغزي على المدى الطويل، وليس فقط تحقيق أهداف عسكرية، مما يتناسب مع رواية العقاب الجماعي و”الجريمة الإسرائيلية”.
صنفت قوات العدو الإسرائيلي 70% من غزة كمنطقة عسكرية أو منطقة تخضع لأوامر النزوح، مما يقيد بشدة وصول المدنيين والصيادين والمزارعين، 100% من رفح، 84% من شمال غزة، و78% من مدينة غزة هي مناطق محظورة أو مناطق نزوح، وهنا يبدو الأمر متعلقاً بتقييد الوصول إلى سبل العيش (الصيد والزراعة) وتركيز السكان، أكثر منه عملاً بأهداف عسكرية بحتة، مما قد يسهل المزيد من السيطرة أو النزوح
يشير خبراء الأمم المتحدة صراحة إلى أن العدو الإسرائيلي يواصل تدميره المتواصل للحياة في غزة وأن استنزافها المتعمد للمستلزمات الأساسية ودفع غزة إلى حافة الانهيار يؤكد مسؤوليتها الجنائية لكن دعوات المسؤولين الأمميين لإنهاء الإبادة الجماعية المتكشفة لا تجد آذاناً صاغية ولا تلقى أدوات تنفيذية تعمل على الضغط على العدو الإسرائيلي لوقف جريمته.
وللتذكير فإن مخطط العدو الإسرائيلي لتهجير أهل غزة هو ينبعث من عقيدة صهيونية تاريخية و بالتالي هو يحدث في سياق تاريخي من الجريمة بحق الفلسطينيين أهل الأرض، و التي رافقها التجريد من الملكية وصنوف التنكيل وا لتعذيب ومنع الحقوق وحرمانهم من ممارسة حياتهم الطبيعية و وصولاً لتحقيق مخطط النزوح الفلسطيني، وهو ما اتسمت به أكثر من 77 عاماً من الاحتلال العسكري الإسرائيلي لفلسطين من بينها ما اختٌصت به غزة من حصار مشدد و مطبق لأكثر من ربع عقد من الزمن
تفيد التقارير بأن خطة العدو الإسرائيلي الحالية في غزة تستلزم نزوح معظم السكان إلى الجنوب، مع احتفاظ جيش العدو بوجوده، وتكرار هذا النموذج في أماكن أخرى، البديل للبقاء في “المناطق الإنسانية” مما يجعل هذه المغادرات تحصل قسراً في ملاحقة مفرغة بحثاً عن الأمان وعن المساعدات الإنسانية ما يُمكّن العدو من تحقيق التهجير، عملياً ويضع الفلسطينيين أمام الأمر الواقع يعمل عليه العدو كجزء من نمط طويل الأمد من السياسات الإسرائيلية التي تهدف إلى السيطرة بالنار والحديد
الخطة المقترحة لتحريك السكان داخل غزة، والتي تم تأطيرها على أنها إنشاء “مناطق إنسانية”، ينظر إليها بشكل نقدي وتُحذّر منها مجموعات الإغاثة باعتبارها ستسوق الى النزوح القسري تحت ستار العمل الإنساني والمناطق الآمنة مع أنها تخفي أجندة نزوح دائم أو تهجير جماعي، بمعنى أن أعمال العدو الإسرائيلي في غزة قد تهدف عمداً إلى تغيير المشهد الديموغرافي، وإخلاء القطاع من سكانه وهو ما يعني تنفيذاً عملياً لمخطط المجرم ترامب الذي بدا أنه تراجع عنه بينما تشير الوقائع اليومية الى تطبيقه بصمت تحت ذرائع إنسانية ولوافت عسكرية، ويبقى أن أكثر ما يُشجّع العدو على إيغاله في تدمير غزة وتفكيك مجتمعها وتهجير سكانها هو الصمت العربي والإسلامي، الذي مع الو قت يبدو أنه يتعوّد يوميات الجرائم الصهيونية في غزة، ويتعايش مع مخططات العدو الصهيوني الجارية بوتيرة عالية بل والممولة من خزائن أمريكا التي امتلأت للتو من أموال الأعراب.
نقلا عن موقع أنصار الله