سودانايل:
2025-05-26@03:48:02 GMT

في ذكرى محمد عبد الحي (2/2)

تاريخ النشر: 28th, January 2025 GMT

في ذكرى محمد عبد الحي (2/2)
من الشعر إلى معالجة قضايا الفكر والثقافة السودانية
بقلم: تاج السر عثمان

1
عصارة كدح محمد عد الحي الثقافي:
مما سبق يمكن أن نصل إلى عصارة كدح محمد عبد الحي الثقافي على مدى أربعة عقود من الزمان( الخمسينيات، الستنيات، السبعينيات، الثمانينيات من القرن الماضي) كان فيها يحفر في مجرى الثقافة السودانية بعمق ، وكل يوم يزداد عمقا، ولا يقنع بالقليل، أي لايقنع بمادون النجوم، هذه التجارب أوصلته إلى كعب أخيل في الثقافة والفكر في السودان وهو :
أ – نحن بحاجة إلى فكر ومفكرين.


ب – الثقافة السودانية بحاجة للفكر.
ج – المثقف السوداني " ملكلك" أي متردد ويفتقد المنهج.
د – كان يضيق ذرعا بأدعياء الثقافة والشعر.
ه – الصراع في السودان يجب أن يأخذ أبعاده الفكرية والثقافية، وأن يتحول من الهامشية إلى العمق.
و – كانت أسئلة محمد عبد الحي التي كان مهتما بها:
* السياسة الثقافية في السودان ووضعها ومشاريعها.
* الهويّة الثقافية السودانية.
وهي نتائج توصل إليها من قبل الشاعر التيجاني يوسف بشير في مقال له بعنوان" القيادة الفكرية".
كما توصل محمد عبد الحي ببصيرة نافذة وفكر عميق إلى قضية مهمة من قضايا التحرر الاجتماعي، وهي أن حان الوقت لكي تتحرر المرأة السودانية من القمع الذي تعاني منه والتي رغم وصولها إلى أرقى التعليم الجامعي، إلا أنها حينما تتزوج تعود إلى المجتمع الذي قهرها..
والقمع هنا يعادل الشاعر المقموع والكاتب المقموع، وكل القضايا متصلة ببعضها البعض. مما يتطلب مواصلة النضال من أجل الديمقراطية والاجتماعية والسياسية التي تعتبر الشرط الهام والضروري لتحرر المرأة والشاعر والكاتب وغيرهما.
خلاصة الأمر توصل محمد من مواقع كدح ثقافي إلى لب وعقدة الفكر والثقافة في السودان، ووضع يده على طرف الخيط الذي يجب ان يمسكه المثقفون الجادون في بلادنا، ويحفروا بصبرالأساس العميق والصلد للمنهج والفكر اللازمين للثقافة السودانية.
كما حان الوقت لكى تنفلت المرأة السودانية من أسر القمع، وتواصل النضال من استكمال تحررها الاجتماعي.
2
انحدر محمد عبد الحي من ناحية أبيه وامه من أسرة تنتمى إلي فئة الأفندية التي نشأت مع بداية الحكم البريطاني، وبعد قيام كلية غردون، فوالده تخرج في كلية غردون مهندسا، وكذلك كان جده مهندسا، وهذه الفئة نالت قدرا من التعليم الحديث أو التعليم العصري الذي كان محكوما بتوجهات الاستعمار البريطاني في خلق فئة من الموظفين للمساعدة في تسيير دولاب الدولة ومشاريعها، وكان هذا التعليم يتسم بضيق الأفق ، الا إذا انفلت الطالب نفسه من أسر هذا التعليم ، وفتح لنفسه آفاقا جديدة من المعرفة والإطلاع، على سبيل المثال: كان والد محمد عبد الحي يمنعه من كتابة الشعر وهو صغير، ويضطر محمد لكتابة الشعر في الخفاء!! مما يشير لضيق الأفق الذي كان نتاجا للتعليم الذي غرسه الاستعمار.
٣
ومن ناحية والدته أيضا كانت تنحدر من أب من فئة الأفندية والذي كان مهندسا في المساحة وكان شاعرا، وشقيقها سعد إسماعيل فوزي المعروف، ونالت والدته قدرا من التعليم في الكلية القبطية، الا ان سن الزواج المبكر في تلك الأيام منعها من مواصلة تعليمها ( تزوجت وهي في سن 15 سنة)، وهذا راجع إلى القيود التي كانت تعانى منها المراة في ذلك الوقت اذ ان سن الزواج المبكر يقطع على المرأة تعليمها.
إذن لا نحتاج لكبير عناء لنصل إلي أن محمد عبد الحي ينحدر من ناحية الأب والأم من أسرة متعلمة تعليما حديثا، وإنحدار محمد من هذه الأسرة المتعلمة كان له الأثر مع استعداده كمثقف وشاعر فيما بعد في تكوين شخصيته ونطرته للحياة والعالم.
* استمد محمد عبد الحي مادته الشعرية من الواقع لا من الخيال، وإن كان في شعره نوعا من الغموض، الا أنه كان يعكس تجارب صادقة يحتاج الباحثون الناقدون لدراسة عميقة لاستجلاءها. على سبيل المثال: كان محمد عد الحي خلال فترة تواجده مع والده في جبال النوبا قد شاهد فرس البحر، السمندل، الغزال، الطيور ، خلايا النحل، والدحاج البري، من خلال رحلات الصيد التي كان يقوم بها والده. وهذه المشاهدات التي استمدها محمد من الطبيعة الخلابة في جبال النوبا انعكست في شعره فيما بعد. أي أن محمد عكس لنا أسماء ورموز عايشها هو شخصيا، ولم تكن وليدة الوهم والخيال، رغم دور الخيال المبدع في الشعر، وهذا مفتاح مهم لفهم الأديب والشاعر الحقيقي والمجدد.
٤
* من سمات محمد عبد الحي أنه كان قوي الإرادة اذا صمم على تنفيذ شئ لا بد أن يفعله، وحينما منعه والده من كتابة الشعر واصل الكتابة سرا وفي الخفاء، حتى إنتزع حق علانية الكتابة بعد مقابلة جمال محمد أحمد لوالده ، وجمال كان سفيرا في لبنان، وحين كان محمد طالبا في الجامعة يرسل قصائده للمجلات اللبنانية، وكان الشعراء والأدباء اللبنانيون يسألون عن من هو محمد عبد الحي؟، ولما عكس جمال ذلك لأبيه سمح له. وجمال محمد أحمد ذلك الأديب السوداني المعروف وهو من جيل والده، وكانت صداقته مع والده ترجع إلي الأربعينيات حينما كانا طالبين في كلية غردون.
كان محمد ايضا مستقل الشخصية، وكان يردد أن الكون وحدة واحدة وعلى الإنسان أن يبدأ بنفسه كوحدة واحدة، أي عدم التأثر الذي يؤدي إلي ذوبان شخصية الإنسان في الآخرين.
* كان محمد يعتبر الثقافة هي المحك لهذا الوطن، يقول: مرات ومرات كنت أقول بأن الثقافة هي المحك في هذا الوطن الذي إسمه السودان، إن السياسات في جوهرها الثقافي واقعية بالثقافة التي تدير بها الوطن، والوطن هو هذه الأمة السودانية. الشعر هو الثقافة التي نرتفع بها، ولست مع القوميات، فإن القومية فاشستية، كما نعرف دائما، إنهم كانوا يسمون الدويلات بالقومية في أوربا التي ارتفعت إلي عهد هتلر الألماني، الأمة السودانية تعمل بثقة على إختلاف وائتلاف الوطن الثقافي.
* رأيه في الشعر
كان يقول إن الشعراء الحقيقيين هم درع الوطن ودرع الثقافة ودرع الإنسان ودرع الجماعة ودرع الأفراد ودرع التراث، أما الشعراء "المزيفون"، فهم القهر والطغيان، وأكلة المال ، وأكلة الموتى.
إن الشعراء الحقيقيون كانوا في كل عهد منذ المتنبئ والشاعر أبي العلاء المعري، ودانتي، وشكسبير إلي آخره فهم البذور الحقيقيون للإنسان، فهم دائما كنار تشتعل في قلوبهم ودمائهم وتقذف نور الله في عيونهم، فيكتبون شعرا مجيدا يظل حاضرا في الوضع الراهن.
كتب محمد قصائده الأولى في صحيفة" الرأى العام" ، مجلة "الشعر" المصرية، ومجلة "شعر" اللبنانية.
٥
سلطنة سنار حلقة في تطور الثقافة السودانية
أشرنا سابقا إلي ديوان " العودة إلي سنار" حيث أعتبر محمد عبد الحي أن تاريخ الثقافة السودانية بدأ بقيام ممالك التلاقح الإسلامية العربية الإفريقية ومن بينها الفونج بسنار،وفي هذا الاتجاه كانت العودة لسنار عاصمة السلطنة الزرقاء تعبيرا عن التمازج العربي الأفريقي، فكانت بوتقة انصهرت فيها مكونات السودان الثقافة السودانية، كما عبر عن ذلك محمد عبد الحي في ديوانه المشهور (العودة إلى سنار).
يقول محمد عبد الحي في ديوان (العودة إلي سنار):
الليلة يستقبلني أهلي
أهدوني مسبحةً من اسنان الموتى
إبريقا جمجمةً
مصلاة من جلد الجاموس
رمزا يلمع بين النخلة والأبنوس
لكن صورة سنار كما عبر عنها محمد عبد الحي تحتاج ‘لإعادة نظر، ولا يمكن إعتبارها أصل الثقافة السودانية، لكنها حلقة مهمة في تطورها، فمعلوم أن التعدد الثقافي كان ملازما للدولة السودانية منذ نشأتها وحتى قيام الدولة الوطنية الحديثة ، فما هي عناصر ذلك التعدد؟.
- شهدت الدولة السودانية تعدد الأديان ابتداءاً من الوثنية إلى المسيحية ثم الإسلام ومازال التنوع والتعدد الديني موجوداً في واقعنا الماثل.
- كما شهدت تعدد اللغات مثل: اللغة المصرية القديمة ( الهيروغليفية)، ثم حدث الاستقلال اللغوي بقيام حضارة مروي التي عرفت اللغة المروية ، واللغة النوبية في حضارة النوبة المسيحية، ثم اللغة العربية التي انتشرت في عهد سلطنتي الفونج والفور، هذا إضافة للتنوع في لغات ولهجات أهل السودان ومكوناتهم الثقافية ( بجاوية، نوبية، زنجية) وناتج التلاقح اللغوي من الثقافات الحديثة ( تركية، انجليزية، فرنسية،حبشية الخ)، وبمراجعة قاموس اللهجة العامية في السودان للمرحوم د. عون الشريف قاسم ، نلاحظ التنوع والتلاقح اللغوي الذي شهده السودان منذ أقدم العصور..
- استوعبت الدولة السودانية التنوع الديني واللغوي والاثني وشهدت الاستمرارية في الثقافة السودانية خلال الحقب التاريخية المختلفة (للمزيد من التفاصيل راجع: تاج السر عثمان: الهويّة والصراع الاجتماعي في السودان، دار المصورات 2021).
في مسارها التاريخي الطويل شهدت الدولة السودانية الحضارات الآتية :
- حضارة كرمة (3000 سنة ق. م) التي شكلت ميلاد الدولة السودانية، بعد ارتقاء الإنسان السوداني سلم الحضارة وتفكك المجتمعات البدائية التي تقوم على الصيد والتقاط الثمار وظهور المجتمع الزراعي والرعوي وتطور المدينة والصناعة الحرفية والتبادل التجاري وظهور أول انقسام طبقي واتساع الفروق الاجتماعية، وكانت نشأة الدولة السودانية مرتبطة بتفاعل عوامل سياسية ودينية وطبقية واجتماعية.
- حضارات نبتة ومروي والنوبة المسيحية التي كانت اوسع تطورا في الجوانب المادية والثقافية والفنية والروحية.
- المماللك الإسلامية (الفونج ، دارفور ، تقلي المسبعات. الخ) التي استوعبت منجزات الحضارات السابقة المادية والفكرية واضافت الجديد لها.
للمزيد من التفاصيل: راجع ، تاج السر عثمان الحاج : الدولة السودانية : النشأة والخصائص ، الشركة العالمية 2008).
بالتالي كانت سنار حلقة مهمة في تطور الثقافة السودانية، استوعبت منجزات الحضارات السابقة المادية والفكرية واضافت لها الجديد، لكن لا يمكن أن نقول أن تاريخ الثقافة السودانية يبدأ بسنار، كما أشار محمد عبد الحي.
له الرحمة والمغفرة، وسلام عليه يوم ولد ويوم يبعث حيا.

alsirbabo@yahoo.co.uk

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الثقافة السودانیة الدولة السودانیة محمد عبد الحی فی السودان التی کان کان محمد

إقرأ أيضاً:

اقتصاد الظل في السودان: تحالفات الخفاء التي تموّل الحرب وتقمع ثورة التحول المدني

 

اقتصاد الظل في السودان: تحالفات الخفاء التي تموّل الحرب وتقمع ثورة التحول المدني

عمر سيد أحمد

[email protected]

مايو 2025

من اقتصاد الدولة إلى اقتصاد النهب

في السودان، لم يُولد اقتصاد الظل من فراغ، ولم ينشأ على هامش الدولة، بل تكوَّن داخل قلب السلطة، وتحوَّل إلى أداة محورية في يد منظومة مسلحة — تضم الجيش، وجهاز الأمن والمخابرات، والمليشيات — تحالفت لعقود مع منظومات الإسلام السياسي لتثبيت السيطرة على الدولة والمجتمع. ومع تفجّر الثورة، ثم اندلاع الحرب، تكشّف الوجه الحقيقي لهذا الاقتصاد: ليس فقط مصدرًا للثراء غير المشروع، بل وقودًا للحرب، ومنصة لتشويه الوعي، ودرعًا يحمي شبكات السلطة من الانهيار.

اقتصاد بلا دولة… بل ضد الدولة

اقتصاد الظل في السودان لم يعد مجرد أنشطة غير رسمية كما في التعريف التقليدي، بل أصبح منظومة مهيكلة تعمل خارج إطار الدولة، تموّل وتُهرّب وتُصدر وتُجيّش بلا أي رقابة أو مساءلة. يتجلّى هذا الاقتصاد في تهريب الذهب من مناطق النزاع عبر مسارات محمية بالسلاح وعبر الحدود في كلزالاتجاهات وعبر المنفذ المحمي بالنافذين ، وتجارة العملة التي تغذي السوق الموازي بعيدًا عن النظام المصرفي، إلى جانب شبكة من الأنشطة التجارية الخارجية التي تدار لصالح قلة مرتبطة بأجهزة أمنية وشركات استيراد الوقود لطفيلي النظام السابق محمية من السلطة ، وتحويلات مالية غير رسمية تُستخدم في تمويل اقتصاد الحرب.

تشير التقديرات إلى أن ما بين 50% إلى 80% من إنتاج الذهب في السودان يُهرّب خارج القنوات الرسمية. وتُقدّر خسائر السودان من تهريب الذهب خلال العقد الماضي بما لا يقل عن 23 مليار دولار في حدها الأدنى، وقد تصل إلى 36.8 مليار دولار . هذه الأرقام تُظهر حجم الكارثة الاقتصادية التي يمثّلها اقتصاد الظل، ومدى تحوّل الذهب من مورد وطني إلى مصدر تمويل خفي للحرب والنهب.

من العقوبات الاقتصادية إلى السيطرة: نشأة التحالف الخفي

خلال سنوات العقوبات الأميركية، نشأت شبكات بديلة لحركة المال والتجارة، قادها رجال أعمال ومؤسسات أمنية مرتبطة بالنظام. وبدل أن تواجه الدولة الأزمة ببناء بدائل وطنية، فُتحت السوق أمام فئة طفيلية نمت في الظل، وتحوّلت إلى ذراع اقتصادية للسلطة. وحتى بعد رفع العقوبات عام 2020، لم يُفكك هذا الهيكل، بل تعمّق. ومع انقلاب 25 أكتوبر، استعادت هذه الشبكات سيطرتها الكاملة على الأسواق والموارد، لتبدأ مرحلة جديدة: تحويل اقتصاد الظل إلى مصدر تمويل مباشر للحرب.

اقتصاد الريع: الأساس البنيوي لاقتصاد الظل

من أبرز الأسباب البنيوية التي مهدت لتضخم اقتصاد الظل في السودان هي هيمنة اقتصاد الريع، الذي مثّل النمط الغالب منذ الاستقلال. فقد اعتمد السودان تاريخيًا على تصدير المواد الخام دون أي قيمة تصنيعية مضافة، بدءًا من القطن والحبوب الزيتية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، مرورًا بالبترول في العقد الأول من الألفية، وانتهاءً بعصر الذهب بعد انفصال الجنوب عام 2011. هذا النمط الريعي جعل الاقتصاد السوداني مرتهنًا للأسواق الخارجية، ومفتقرًا لقاعدة إنتاجية وطنية مستقلة.

في ظل أنظمة شمولية وفساد مؤسسي، لم تُستثمر عائدات هذه الموارد في تنمية مستدامة، بل أعيد توزيعها عبر شبكات محسوبية وزبونية لصالح نخب الحكم والأجهزة الأمنية. وبدل أن يكون اقتصاد الريع رافعة للتنمية، تحوّل إلى بيئة حاضنة لاقتصاد الظل. والمفارقة أن هذا الاقتصاد لم ينشأ في الهوامش كما قد يُظن، بل نشأ وترعرع في المركز، داخل مؤسسات الدولة نفسها، وبتواطؤ من النخبة الحاكمة، التي استخدمته أداة للتمويل غير الرسمي، ولتثبيت سلطتها السياسية والعسكرية.وهكذا، اندمج الريع مع الفساد والعسكرة، وخلق منظومة اقتصادية موازية، لا تقوم على الإنتاج بل على النهب، ولا تخضع للقانون بل تتحصن خلفه..

تجارة السلاح والمخدرات: الوجه المحرّم لاقتصاد الظل

من أخطر أوجه اقتصاد الظل، تورّط المنظومة المسيطرة في تجارة السلاح والمخدرات. فقد انتشرت تقارير موثقة عبر وسائط الإعلام ومنصات التواصل خلال عهد الإنقاذ، حول “كونتينرات المخدرات” التي وصلت البلاد أو عبرت نحو دول الجوار، تحت حماية أو تواطؤ من جهات أمنية. هذه التجارة، وإن ظلت في الظل، شكّلت مصدر تمويل خفي مكمل للحرب، ومنصة لتجنيد المليشيات، ومجالًا لتبييض الأموال وتوسيع سيطرة مراكز النفوذ.

معركة الوعي المُموّلة: الإعلام كسلاح في الحرب ضد المدنية

لا يقتصر دور اقتصاد الظل على تمويل السلاح فقط، بل يُغذي معركة أخرى لا تقل خطورة: معركة السيطرة على الوعي. تُدار هذه الحملة الإعلامية من غرف خارج السودان، في عواصم مثل القاهرة، إسطنبول، دبي، والدوحة، بإشراف إعلاميين من بقايا نظام الإنقاذ وشبكات أمنية وإيديولوجية. وتنتج هذه الغرف محتوى ممولًا على وسائل التواصل الاجتماعي يبرر الحرب، ويشوّه قوى الثورة، ويُجيّش الرأي العام ضد التحول المدني، ويروّج لاستمرار الحرب التي شرّدت الملايين، وقتلت الآلاف، ودمّرت البلاد.

الهدف لا يقتصر على قمع الثورة المسلحة، بل يمتد إلى اغتيال فكرة الدولة المدنية ذاتها. تُصوَّر الديمقراطية كتهديد للاستقرار، وتُقدَّم السلطة العسكرية كخيار وحيد لضمان وحدة البلاد، في تجسيد صريح لعسكرة الدولة والمجتمع.

تفكيك المنظومة: ليس إصلاحًا إداريًا بل صراع طويل

لا يمكن الحديث عن تفكيك اقتصاد الظل في السودان بوصفه مجرّد قرار إداري أو إجراء قانوني، خاصة في ظل حرب مفتوحة، وانهيار مؤسسات الدولة، وسيطرة المنظومة المسلحة على مفاصل الاقتصاد. فهذه المنظومة لا تُفكَّك من خلال الانتصار الحاسم، بل من لحظة تآكل السيطرة المطلقة، حين تبدأ الشروخ في البنية الأمنية والاقتصادية للنظام القائم.

ورغم عسكرة الحياة اليومية، لا ينبغي أن يؤدي ذلك إلى شلل في الفعل المدني أو استسلام لقوى الأمر الواقع. المطلوب هو العمل من داخل الحرب، لا على هامشها، لصياغة مشروع تحوّل واقعي وجذري. ويبدأ ذلك بخلق وعي جماهيري جديد، يفضح الترابط البنيوي بين السلاح والثروة، ويضع اقتصاد الظل في موضع المساءلة الشعبية والدولية.

يتطلب هذا المسار مراقبة دقيقة للسوق الموازي وتحليل آلياته، تمهيدًا لبلورة سياسات اقتصادية وتشريعات عادلة تعيد تنظيم السوق وتكسر احتكار شبكات التهريب. كما أن توثيق جرائم التهريب، وتجارة المخدرات، ونهب الذهب، لا بد أن يتحول إلى ملفات قانونية وإعلامية قابلة للمساءلة، لا مجرد روايات متداولة.

إلى جانب ذلك، يبرز دور الإعلام البديل والمجتمعي كجبهة مقاومة مستقلة، تتصدى لخطاب التضليل الذي يُنتج خارج البلاد، وتواجه الرواية الرسمية التي تبرر الحرب وتشيطن التحول المدني. هذه المواجهة الإعلامية ليست ترفًا، بل ضرورة لبناء رأي عام مقاوم ومتماسك.

وأخيرًا، فإن أي محاولة للتغيير لا تكتمل دون بناء شبكات وتحالفات مدنية، تطرح مشروعًا وطنيًا بديلًا يعيد تعريف الدولة، ويفكك الارتباط بين السلطة والثروة، وينقل الاقتصاد من يد المليشيات إلى يد المجتمع. هذا الطريق ليس خطة جاهزة، بل جبهة مفتوحة، تتطلب العمل اليومي، والمبادرة من داخل الشروخ التي فتحتها الحرب، لا انتظار نهايتها.

العمل وسط الحرب: لا وقت للانتظار

ورغم عسكرة الحياة واشتداد المعارك، لا ينبغي أن يكون الواقع ذريعة للتوقف عن الفعل أو الاستسلام للأمر الواقع. بل العكس هو الصحيح؛ المطلوب اليوم هو العمل من داخل الحرب، ومن بين شقوقها، لبناء بدايات جديدة تُمهّد لمسار تحوّل مدني حقيقي. فالتغيير في سياق مثل السودان لا يُنتظر حتى لحظة النصر، بل يُصنع من داخل المعركة، بخطوات واقعية ومدروسة، تستند إلى الفعل الجماهيري والإرادة الجمعية.

أدوات التغيير: من الوعي إلى التنظيم

هذا المسار يتطلب بناء أدوات جديدة، وخلق وعي جماهيري ناقد، يدرك أن المعركة ليست فقط عسكرية أو سياسية، بل أيضًا اقتصادية وثقافية. ويبدأ ذلك بكشف البنية الاقتصادية للمنظومة المسلحة، وفضح العلاقة البنيوية بين السلاح والثروة، بما يتيح خلق ضغط داخلي وخارجي على مراكز النفوذ. كما ينبغي رصد نشاط السوق الموازي وتحليل آلياته، لتجهيزه للمواجهة لاحقًا بسياسات اقتصادية وتشريعات عادلة تفكك احتكارات الظل وتستعيد الاقتصاد لحضن المجتمع.

في الوقت ذاته، يُعد توثيق جرائم التهريب، وتجارة المخدرات، ونهب الذهب، ضرورة لبناء ملفات قانونية وإعلامية يُمكن الرجوع إليها في لحظة المساءلة. وعلى الجانب الإعلامي، لا بد من دعم إعلام بديل، مستقل ومجتمعي، يواجه سرديات التضليل التي تُدار من غرف إعلامية في الخارج، ويقدم خطابًا مقاومًا ينبني على سردية الثورة، لا على خطاب الحرب.

وبالتوازي مع ذلك، يجب العمل على بناء تحالفات مدنية مرنة وواقعية، تطرح مشروعًا سياسيًا واقتصاديًا بديلاً، يعيد تعريف علاقة الدولة بالمجتمع والموارد، ويفكك ارتباط السلطة بالنهب والاحتكار.

جبهة مفتوحة: بداية لا نهاية

إن ما نواجهه اليوم ليس مجرد أزمة سياسية عابرة، بل لحظة تاريخية تتطلب إعادة صياغة المشروع الوطني من جذوره. وهذه ليست خطة جاهزة بقدر ما هي جبهة مفتوحة للتغيير التدريجي، تُصاغ من داخل لحظة الانهيار، لا من خارجها. فالتحدي الحقيقي لا يكمن في انتظار نهاية الحرب، بل في استثمار التصدعات التي خلقتها، وتحويلها إلى مسارات للمقاومة المدنية، وبدايات جديدة تُبنى فيها دولة ديمقراطية مدنية، عادلة ومنقذة، تعبّر عن طموحات الناس لا عن مصالح النخب المتغولة.

المصادر

1. Global Witness (2019). ‘The Ones Left Behind: Sudan’s Secret Gold Empire.’

2. International Crisis Group (2022). ‘The Militarization of Sudan’s Economy.’

3. Human Rights Watch (2020). ‘Entrenched Impunity: Gold Mining and the Darfur Conflict.’

4. United Nations Panel of Experts on the Sudan (2020–2023). Reports to the Security Council.

5. BBC Arabic & Al Jazeera Investigations (2021–2023). Coverage of Sudan’s illicit trade and media operations.

6. Radio Dabanga (2015–2023). Reports on drug trafficking and corruption during Al-Ingaz regime.

7. Sudan Tribune (2020). ‘Forex crisis and informal currency trading in Sudan.’

 

 

 

 

 

 

 

 

الوسوماقتصاد الظل السودان تحالفات الخفاء تمويل الحرب عمر سيد أحمد

مقالات مشابهة

  • وزارة الإصلاح المؤسسي: ضرورة وطنية لإنقاذ الدولة السودانية
  • يجب سحب الجنسية السودانية من (عبدالمنعم بيجووو)
  • لماذا تحول الموقف الغربي تجاه الأزمة السودانية؟.. خبراء يجيبون لـ "الفجر"
  • بيان منصة القدرات العسكرية السودانية حول القرار الأميركي بفرض عقوبات على السودان
  • الأمين العام لوزارة الدفاع السودانية يلتقى نظيره الماليزي على هامش معرض “ليما 2025
  • وزارة الخارجية السودانية: ننفي المزاعم غير المؤسسة التي تضمنها بيان وزارة الخارجية الأمريكية
  • اقتصاد الظل في السودان: تحالفات الخفاء التي تموّل الحرب وتقمع ثورة التحول المدني
  • الحكومة السودانية تنفي استخدام أسلحة كيميائية بعد اتهامات أميركية
  • الحكومة السودانية: نستنكر ما صدر عن الإدارة الأمريكية من اتهامات وقرارات تتسم بالابتزاز السياسي
  • في ذكرى وفاتها.. زينب صدقي "البرنسيسة الأرستقراطية" التي أضاءت المسرح والسينما وغادرت بصمت