مع اندلاع حرائق الغابات في مختلف أنحاء لوس أنجلوس في يناير، نشر صاحب نظريات المؤامرة الأمريكي الشهير أليكس جونز على موقع أكس أن الحرائق كانت «جزءا من مؤامرة أكبر دبرها أنصار العالمية السياسية لشن حرب اقتصادية والقضاء على التصنيع في الولايات المتحدة».
برغم أن اقتراح جونز لهذه العلاقة السببية كان سخيفا، إلا أنه كان محقا في أن الحرائق لها علاقة بالعولمة.
تشير العولمة ببساطة إلى الاتكالية المتبادلة على مسافات عابرة للقارات. فالتجارة بين الدول الأوروبية تعكس الاتكالية المتبادلة على المستوى الإقليمي، بينما تعكس التجارة الأوروبية مع الولايات المتحدة أو الصين العولمة. يحاول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، من خلال تهديد الصين بالرسوم الجمركية، تقليص الجانب الاقتصادي من اتكاليتنا المتبادلة على الصعيد العالمي، والتي يعتبرها مسؤولة عن خسارة الصناعات والوظائف المحلية.
يناقش أهل الاقتصاد المقدار من تلك الخسارة الذي كان راجعا إلى التجارة العالمية. وجدت بعض الدراسات أن ملايين الوظائف فُقدت بسبب المنافسة الأجنبية، لكن هذا ليس السبب الوحيد. إذ يزعم كثيرون من أهل الاقتصاد أن العامل الأهم هو الأتمتة (التشغيل الآلي). مثل هذا التغيير من الممكن أن يعمل على تعزيز الإنتاجية الإجمالية، لكنه يتسبب أيضا في إحداث آلام اقتصادية، ويجد القادة الشعبويون أن إلقاء اللوم على الأجانب أسهل من لوم الآلات.
وهم يلقون باللائمة أيضا على المهاجرين، الذين قد يحملون فوائد للاقتصاد في الأمد البعيد، ولكن من السهل تصويرهم على أنهم سبب التغيير الـهَـدّام في الأمد القريب. ربما كانت هجرة البشر من قارة أفريقيا أول مثال على العولمة، وقد تكون الولايات المتحدة وبلدان أخرى عديدة نتيجة لذات الظاهرة الأساسية. ولكن أثناء بناء هذه البلدان، كثيرا ما اشتكى المهاجرون الأوائل من العبء الاقتصادي وعدم توافق الوافدين الجدد ثقافيا. ولا يزال هذا النمط مستمرا اليوم.
عندما تتزايد الهجرة (أو تغطيتها الإعلامية) بسرعة، تُـصبِـح ردود الفعل السياسية متوقعة. في السنوات الأخيرة، أصبحت الهجرة في كل الديمقراطيات تقريبا القضية التي يلجأ إليها الشعبويون الذين يسعون إلى الطعن في الحكومات القائمة. وكانت الهجرة عاملا رئيسيا في انتخاب ترامب عام 2016، ومرة أخرى في عام 2024. قد تكون وسائط التواصل الاجتماعي وتكنولوجيات الذكاء الاصطناعي مصادر أكثر أهمية للارتباك والقلق، لكنها ليست أهدافا ملموسة بذات الدرجة (وهي بالتالي أقل جاذبية).
لهذا السبب يُـلقي بعض الناس بالمسؤولية عن ردة الفعل الشعبوية العنيفة في مختلف الديمقراطيات تقريبا على تزايد انتشار وسرعة العولمة، وهو ذات السبب الذي يحمل الشعبويين أنفسهم على تحميل التجارة والمهاجرين المسؤولية عن معظم المشكلات في بلدانهم. لقد تسارعت وتيرة التجارة والهجرة بالفعل بعد نهاية الحرب الباردة، حيث أفضى التغيير السياسي وتحسن تكنولوجيا الاتصالات إلى قدر أعظم من الانفتاح الاقتصادي وخفض تكلفة تدفقات رؤوس الأموال والسلع والأشخاص عبر الحدود. والآن، مع تزايد نفوذ الشعبويين، قد تؤدي التعريفات الجمركية والضوابط الحدودية إلى الحد من هذه التدفقات.
ولكن من الممكن عكس مسار العولمة الاقتصادية؟ لقد حدث ذلك من قبل. فقد اتسم القرن التاسع عشر بزيادة سريعة في كل من التجارة والهجرة، لكنها توقفت على نحو مفاجئ مع اندلاع الحرب العالمية الأولى. ولم تتعاف التجارة كحصة من إجمالي الناتج العالمي إلى مستوياتها في عام 1914 حتى عام 1970 تقريبا.
والآن، بينما يدعو بعض السياسيين الأمريكيين إلى الانفصال الكامل عن الصين، فهل من الممكن أن يحدث هذا مرة أخرى؟ برغم أن المخاوف الأمنية قد تقلل من التجارة الثنائية، فإن التكلفة الباهظة المترتبة على التخلي عن علاقة تزيد قيمتها عن نصف تريليون دولار سنويا تجعل من غير المرجح حدوث الانفصال. لكن «غير مرجح» ليست مثل «مستحيل». فاندلاع حرب حول تايوان، على سبيل المثال، قد يؤدي إلى توقف التجارة بين الولايات المتحدة والصين تماما.
على أية حال، تتطلب محاولة فهم مستقبل العولمة النظر إلى ما هو أبعد من الاقتصاد. إن أشكال الاتكالية المتبادلة العالمية الأخرى ــ العسكرية، والبيئية، والاجتماعية، والصحية، وغيرها ــ عديدة. وفي حين أن الحرب دائما ما تكون مدمرة للمتورطين فيها بشكل مباشر، فمن الجدير بنا أن نتذكر أن جائحة كوفيد-19 قتلت من الأمريكيين أكثر من أولئك الذين ماتوا في كل حروب أمريكا.
على نحو مماثل، يتوقع العلماء أن يكون لتغير المناخ تكاليف باهظة مع ذوبان القمم الجليدية العالمية وغرق المدن الساحلية في وقت لاحق من هذا القرن. وحتى في الأمد القريب، يزيد تغير المناخ من تواتر وشدة الأعاصير وحرائق الغابات. من عجيب المفارقات أننا ربما نكون بصدد الحد من نوع من العولمة له فوائد، بينما نفشل في التعامل مع أنواع لا تحمل سوى تكاليف. كانت واحدة من أولى خطوات إدارة ترامب الثانية سحب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس ومنظمة الصحة العالمية.
إذن، ما مستقبل العولمة؟ ستظل الاتكالية المتبادلة البعيد المدى حقيقة من حقائق الحياة ما دام البشر يتنقلون ومزودين بتكنولوجيات الاتصالات والنقل. ذلك أن جذور العولمة الاقتصادية تمتد عبر قرون من الزمن، وتضرب بجذورها إلى طرق التجارة القديمة مثل طريق الحرير (الذي اتخذته الصين شعارا لبرنامجها الاستثماري في البنية الأساسية «الحزام والطريق» الذي يمتد على مستوى العالم اليوم).
في القرن الخامس عشر، جلبت الابتكارات في مجال النقل عبر المحيطات عصر الاستكشاف، والذي أعقبه عصر الاستعمار الأوروبي الذي شكل الحدود الوطنية اليوم. وفي القرنين التاسع عشر والعشرين، سرّعت البواخر والتلغرافات من وتيرة العملية في حين أفضى التصنيع إلى تحويل الاقتصادات الزراعية. والآن تعمل ثورة المعلومات على تحويل اقتصاداتنا الموجهة نحو الخدمات.
بدأ استخدام الإنترنت على نطاق واسع في بداية هذا القرن، والآن يحمل مليارات الأشخاص حول العالم في جيوبهم جهاز كمبيوتر كان ليملأ مبنى كبيرا قبل نصف قرن. ومع تقدم الذكاء الاصطناعي، سيزداد نطاق وسرعة وحجم الاتصالات العالمية بدرجة هائلة.
لقد عكست الحروب العالمية مسار العولمة الاقتصادية، وقد تتسبب سياسات الحماية في إبطائها، ولم تتمكن المؤسسات الدولية من مواكبة عدد كبير من التغيرات الجارية الآن. ولكن ما دمنا نملك التكنولوجيات، فسوف تستمر العولمة. إلا أنها قد لا تكون من النوع المفيد.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الولایات المتحدة
إقرأ أيضاً:
من المضطر الذي لا يرد الله دعاءه؟.. الشيخ الشعراوي يُجيب
الدعاء من أعظم العبادات التي حث عليها الإسلام، وقد وعد الله عباده بالإجابة حين قال: «وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»، لكن من بين كل الداعين، يبرز المضطر كأقربهم إلى القَبول، إذ أن دعاءه لا يُرد، غير أن كثيرين لا يدركون من هو المضطر المقصود في الآية الكريمة.
كشف الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله في مقطع فيديو مسجل، عن المعنى الحقيقي للمضطر الذي لا يُرد له دعاء، موضحًا أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان كلما اشتد عليه أمر لجأ إلى الصلاة، وأن تعبير "حزبه أمر" يدل على خروجه من نطاق الأسباب إلى اللجوء للمسبب الأول، وهو الله سبحانه وتعالى.
وأضاف الشعراوي أن العبد حين يستنفد كل الأسباب التي في متناوله، ولا يعود لديه سبيل سوى التوجه لله، يكون قد دخل في حال "الاضطرار" الحقيقي.
وهنا، يتوجه إلى الله قائلًا: "يا مسبب، يا الله"، لأن الأسباب كلها لم تُجدِ نفعًا، ولم يبقَ له إلا التوسل بالمسبب الأعظم.
وأشار إلى أن الله يقول لعبده المضطر: إن كنت قد سعيت وأبديت الأسباب ولم تقصر، فأنا لا أرد يدك، لأن الأسباب نفسها هي يد الله الممدودة لعباده، ولا يجوز ردها. مستشهدًا بقوله تعالى: «أمن يجيب المضطر إذا دعاه».
بهذا التفسير، يوضح الشعراوي أن المضطر ليس فقط من يعاني أو يمر بضيق، بل هو من بذل جهده في الأسباب، ثم لجأ بقلبه وروحه إلى الله، يقينًا منه أن المسبب فوق كل سبب.
دعاء الامتحانات
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، اللهم إني استودعتك أموري كلها، فوفقني لما تحبه وترضاه، يا أكرم الأكرمين.
اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي، بسم الله الفتّاح، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن متى شئت سهلاً، يا أرحم الراحمين.
اللهم يا من قلت وقولك الحق: (وعلمناه من لدنا علماً)، ارزقني من لدنك علماً يقربني إليك، اللهم يا من قلت وقولك الحق: (واتقوا الله ويعلمكم الله)، اجعلني من عبادك المتقين، وعلّمني ما ينفعني، وانفعني بما علّمتني، وزدني علماً وعملاً وفقهاً وإخلاصاً في الدين.