الفكرة التى يطرحها اليوم الرئيس الأمريكى ترامب تحت غطاء «الحل الإنسانى» ليست جديدة، بل هى نسخة مكررة من مخططات التهجير التى تطرح بين الحين والآخر، تحت مسميات مختلفة، لكنها دائماً ما تصطدم بحقيقة واحدة: الشعوب لا تقتلع من أوطانها.
التاريخ ملىء بمحاولات تهجير الفلسطينيين، بدءاً من وعد بلفور (وعد من لا يملك لمن لا يستحق سنة ١٩١٧)، الذى وضع الأساس لاقتلاع شعب بأكمله، مروراً بنكبة 1948، ثم نكسة 1967 وما تبعها من سياسات ممنهجة لتفريغ الأرض من أهلها.
الطرح الذى نسمعه الآن ليس جديداً، فقد سبقته محاولة مشابهة مع اختلاف بعض التفاصيل طرحها الرئيس الإسرائيلى الأسبق وثعلب الموساد شيمون بيريز فى أواخر التسعينيات، عندما قال إنه يريد تحويل غزة إلى سنغافورة ثانية، صحيح أن ظاهر خطة بيريز لم يكن يتضمن تهجير سكان غزة وتحدث عن التطوير وتحسين المعيشة فقط، لكن وقتها خرجت تسريبات تقول إن ما لم يعلن هو أن بيريز سيلتفت فى خطوة ثانية لتفريغ غزة من أهلها بخطة ثانية لم تكشف وقتها.
هذا يعنى أن كل ما فعله ترامب أنه حوَّل المسمى من سنغافورة إلى الريفيرا.
وتوالت بعد ذلك محاولات متعددة لإقناع دول عربية باستيعاب اللاجئين، وتحويل القضية الفلسطينية إلى أزمة إنسانية بدلاً من الاعتراف بأنها قضية احتلال واستيطان. هذه السياسات لطالما فشلت، لأن الفلسطينى لم يكن يوماً مهاجراً يبحث عن وطن، بل هو صاحب أرض، يراد له أن يتحول إلى لاجئ دائم.
اليوم، يعاد تدوير نفس الفكرة: إخراج الفلسطينيين من أرضهم، وكأن الحل لمعاناتهم هو نقلهم إلى أماكن أخرى، وليس إنهاء الاحتلال الذى صنع هذه المعاناة. ويروج بعض الساسة فى أمريكا وإسرائيل لهذا الطرح كأن القضية الفلسطينية مجرد أزمة لاجئين، وليست قضية شعب وأرض وهوية. والأسوأ أنهم يتعاملون مع العالم العربى كأنه مساحة جغرافية فارغة، يمكن إعادة توزيع سكانها بقرارات تصدر من البيت الأبيض.
لكن الشعوب ليست أرقاماً تنقل من خريطة إلى أخرى، والتاريخ لا يمحى بقرارات فوقية. الفلسطينيون ليسوا غرباء فى أرضهم، ولم يأتوا إليها حتى يطلب منهم المغادرة. وإذا كانت هناك أزمة إنسانية فى غزة، فالمسئول الأول عنها هو الاحتلال الذى يمارس الحصار والعدوان، وليس الدول العربية التى يطلب منها الآن استقبال المهجرين كأنها مسئولة عن نتائج هذا العدوان.
ما يطرح اليوم ليس مجرد اقتراح سياسى، بل هو امتداد لنهج استعمارى قديم، يعود إلى عصور الاحتلال للشرق الأوسط وإفريقيا. هو نفس الخطاب الذى استخدمته القوى الكبرى عندما قررت أن تتعامل مع شعوب بأكملها كأنها قطع شطرنج، تفرض عليها قرارات لا تأخذ فى الاعتبار إرادتها أو حقوقها التاريخية. والأمر لا يقتصر على منطقتنا فقط، فحتى دول قريبة من الولايات المتحدة نفسها واجهت هذه السياسات ورفضت أن تكون ضحية لمخططات تفرض عليها من ترامب.
آخرها فرض ضرائب على السلع المكسيكية وتعاملت المكسيك بالمثل ما جعل ترامب يجمد قراره لمدة شهر.
ما فات الأمريكى إدراكه هو أن المنطقة العربية لم تعد ساحة لتنفيذ مخططات استعمارية عفا عليها الزمن، ولن تصبح عواصمها مجرد متلقٍّ للقرارات التى تصنع فى الخارج، أو هكذا أتمنى. ولم لا؟ فهناك دول مثل السعودية والإمارات وقطر، وقبلهم مصر والأردن، قالت «لا» صريحة لهذا المشروع الاستعمارى. وأتصور أن العرب اليوم فى اختبار حقيقى، وعليهم أن يصنعوا قرارهم بأنفسهم. لقد باتوا أكبر وأهم من أن يرضخوا لأى فكر استعمارى جديد، مهما حاول أن يتخفى تحت مسميات إنسانية زائفة.
هذه لحظة حاسمة، ليس فقط لرفض مشاريع التهجير والتوطين، بل أيضا لتأكيد أن العرب باتوا قوة لها كلمتها، وأن زمن الاكتفاء بالشجب والإدانة قد ولى. اليوم، المطلوب ليس مجرد رفض، بل إثبات أن العرب قادرون على فرض رؤيتهم، وحماية حقوقهم، والدفاع عن قضاياهم بأنفسهم، دون أن يملى عليهم أحد ما يجب أن يفعلوه.
لقد أثبتت التجارب السابقة أن الشعب الفلسطينى يرفض الرحيل، وأن الدول العربية لا يمكن أن تكون شريكاً فى أى مخطط يسعى إلى تفريغ الأرض من أهلها. واليوم، أكثر من أى وقت مضى، يجب أن ترتفع «لا» عربية موحدة، لا تساوم، لا تتردد، ولا تقبل أن تكون جزءاً من مخطط يراد به أن يصبح الحل الدائم على حساب الحقوق التاريخية لشعب لم ولن يتنازل عن أرضه.
وفى الوقت نفسه، يجب أن تكون هذه اللحظة فرصة لأن يفرض العرب كلمتهم، لا أن يتركوا غيرهم يحدد مصيرهم ومصير أشقائهم. أتمنى وأحلم أن يشارك العرب فى صناعة القرار العالمى، وألا نظل دائماً مجرد رد فعل لما يحدث، بل أن نكون الفعل.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: البيت الأبيض الزاد أمجد مصطفى الرئيس الأمريكى محاولات تهجير الفلسطينيين القضية الفلسطينية أن تکون
إقرأ أيضاً:
القدس في عيون الكركيين: إرث التاريخ ونداء الواجب
صراحة نيوز ـ بقلم الدكتور محمد حسن الطراونة
عضو مجلس نقابة الأطباء
من على ربوة الكرك الشماء، حيث شموخ الحصن الأبي يحاكي عراقة التاريخ، تتجه الأنظار والقلوب صوب مدينة القدس، درة التاج ومهوى الأفئدة. ليست العلاقة بين هاتين المدينتين مجرد جوار جغرافي أو صلة عابرة، بل هي وشائج عميقة نسجتها خيوط التاريخ المشترك، وتعمّدت بدماء الأبطال الذين دافعوا عن ثرى هذه الأرض المقدسة.
في منعطفات التاريخ الحاسمة، حين كانت قوى الغزو تطمع في القدس، كان للكرك ورجالها موقف لا يقلّ صلابة عن أسوارها. يتردد في أزقة الذاكرة صدى موقف القائد الفذ صلاح الدين الأيوبي، الذي أدرك ببصيرته النافذة أن تحرير القدس يمرّ عبر تأمين ظهرها وحماية محيطها. حين عُرضت عليه تسويات تقايض بين القدس والكرك، جاء جوابه قاطعًا مدويًا: “لا القدس ولا الكرك”. لم يكن هذا الرفض نابعًا من تجاهل لأهمية الكرك الاستراتيجية، بل من إيمان راسخ بأن القدس هي البوصلة والغاية، وأن أي تنازل عنها هو تفريط في جوهر الصراع.
لقد تجسدت حكمة صلاح الدين في خطوات عملية حاسمة. بدأ بتطهير المنطقة وتأمينها، فكان فتح الكرك مقدمة ضرورية لفتح القدس. لم يكن هذا التسلسل مجرد تكتيك عسكري، بل رؤية استراتيجية عميقة تفهم الترابط العضوي بين المدينتين في سياق المواجهة الحضارية.
فالكرك، بحصانتها ورجالها الأشداء، كانت تمثل خط الدفاع المتقدم عن القدس، وسقوطها كان سيفتح الطريق أمام الغزاة لترسيخ أقدامهم في قلب الأرض المقدسة.
واليوم، يستحضر الكركيون هذا الإرث التاريخي العظيم وهم ينظرون إلى القدس الجريحة. لم يغب عن بالهم يومًا أن قضية القدس ليست مجرد صراع على أرض، بل هي صراع على الهوية والذاكرة والمقدسات. إنهم يرون في صمود أهل القدس امتدادًا لصلابة أجدادهم الذين رابطوا على ثغور هذه الأرض، ويستشعرون في معاناتهم جرحًا غائرًا في الوجدان العربي والإسلامي.
تتجلى هذه المشاعر في صور شتى؛ في مجالسهم وندواتهم، في فعالياتهم التضامنية، وفي دعواتهم الصادقة بأن يعود للقدس ألقها العربي والإسلامي. إنهم يؤمنون بأن تحرير القدس ليس مجرد حلم بعيد المنال، بل هو واجب تمليه عليهم مسؤوليتهم التاريخية والدينية والإنسانية.
إن نظرة الكركيين إلى القدس ليست مجرد تعاطف عابر، بل هي نظرة عميقة الجذور، تستمد قوتها من تاريخ مشترك حافل بالتضحيات والبطولات. إنهم يرون في القدس رمزًا للصمود والعزة، وقضيتها هي قضيتهم، وأملهم بتحريرها هو أملهم بمستقبل أكثر عدلاً وسلامًا لمنطقتنا. فكما كانت الكرك سندًا للقدس في الماضي، ستبقى عيون الكركيين شاخصة نحوها، وقلوبهم نابضة بحبها، حتى يتحقق النصر ويعود الحق إلى نصابه.