سودانايل:
2025-05-22@08:24:25 GMT

إنها نار الحرب، وما لنا أن نجني من نارها غير الويل

تاريخ النشر: 22nd, August 2023 GMT

إنها أيام الحرب الصاخبة وحالة من الفوضى العارمة. الناس يخرجون من مخابئهم بعد أيام ليتفقدوا ما تبقى لهم من أرواح ومتاع. يغادرون منازلهم ليتفقدوا حال من كتب له مزيد من العمر، ومن تبقى من أهل الحي. الحي السكني الذي كان قبل أسابيع حي آمن، يمشي علىي شوارعه الناس ويجلس تحت أشجاره الشيب ويجري في أزقته الأطفال ويلعب في ميادينه الشباب.

لقد علقت الآن بالهواء رائحة البارود التي لا يمكن محوها بأقوى أنواع العطور. وعلقت به رائحة نتنة، فاقت في نتانتها رائحة إطارات السيارات المحروقة في أيام الثورة المجيدة. إنها الحرب الضروس، وأنه الهواء الذي يتنفسه الصغار والكبار ومنذ أيام في المدينة، وكأنه حامض كيماوي يزكم الأنوف، ويشق الحلوق ليستقر في رئتي المستنشق كالسم الزعاف. على جدران المنازل وأبوابها ونوافذها وإن وجدت، حطت طبقات من غبار كثيف ومجهول الهوية والتركيب – أهو غبار صحراء أفريقيا الكبيرة، أم هو غبار الطلق الناري والبارود؟ حطام هنا وحطام هناك، مصحوب ببكاء المكلومين من النساء وصراخ المفجوعين من الأطفال. ما كان ذنب هؤلاء في الأيام؟ ولا أحد يدري. هاهم الأطفال الجوعى ينادون بأصوات بطونهم قبل أصوات أفواههم. من يستجيب لمناداة جوعى الحرب، ولا أحد يدري، ولا أحد سمع. ولا أحدثك عن كبار السن والحوامل والمرضعات، ولا أحدثك هنا عن أحوال صبيات وأمهات بلادي المشردات، وهن في أوج أيام الحيض. أين الرجال، أين أهل السياسة، أين المثقفون، وأين مكان حكماء بلادي في أيام الحرب؟ أين الأخوة، أين الجيرة، أين الإنسانية، وأين المجتمع الدولي في أيام العدم؟ أين العروبة، أين الدين، وأين الإسلام في أيام الحرمان؟ ولا أحد يدري، ولا أحد رأى، ولا أحد سمع.

الآن هم الناس خارج المنازل، وهذا على الرغم من خطورة الوضع في الشوارع وأثناء هذا اليوم اللئيم ومع حظ عمر تعيس. هنا رجال مجتمعون ومنشغلون بأمر دفن الموتى، وآخر أمنية يتمناها كل إنسان قبل الرحيل ممن هم على قيد الحياة، هي دفنه وستر جثمانه بعد الموت. وحتى الحيوانات تحمل موتاها إلى مسواها الأخير وتواريها الثرى لتسترها. كان سؤال الناس وهمهم الشاغل وقتها، بأي مكان يكون الدفن؟ وكان وقت الدفن محتوما لجثامين تنادي إشتياقا لباطن الأرض. وهذا بعد أن عجزت أجسادهم عن المشي من فوقها وقت الحرب. بأي ذنب قتلوا، ولما بهذه الطريقة الشنعاء؟ ولا أحد يدري.

عن دور الإعاقة والملاجيء ورياض الأطفال والمدارس والجامعات نرى ولا نتحدث. كلها أغلقت أبوابها وهجرتها حتى الطيور في أغصان الأشجار، ولم يقبل بها حتى البوم كأوكار مهجورة. ربما تحدثنا عن تحول بعضها لمدافن للموتى، بل تحولت على نحوها منازل إلى مقابر ومثاوي أخيرة ومن دون قباب. مقابر ومثاوي أخيرة لمن بناها وأحب السكن فيها بين أهله وأقاربه وجيرانه. وهاهم الأطفال والشباب، كثروة بشرية للبلاد في مهب الرياح في كل اتجاه، وتحملها الرياح كما تشاء. الأطفال والشباب، وقريبا البنات والنساء أيضا في عش الجندية، إذا لم يأتي السلام (كان أسمهن بالأمس أخواتنا، سموهن اليوم أخوات نسيبة). وصار الشباب (رمز القوة والشهامة والمرؤة والسلمية) على أتم المعرفة بكل أنواع السلاح واستخدامه المميت، للدفاع عن النفس والعرض والشرف، أو لممارسة الترويع والنهب والقتل في عقر الديار. وهذا عوضا عن وجود هؤلاء في فصول المدارس ومعامل الكليات وصالات المحاضرات والمكاتب والمؤسسات ومراكز الإنتاج.
وهناك نساءا مجتمعات، يحاولن أن يتماسكن ليمسحن دموعهن ودموع بعضهن. هل كان هذا هو يوم عرسهن، يوم زفافهن من الرجال، أم كان يوم حتفهن، يوم دفنهن؟ ولا أحد يدري. وبينهن بنات لا تفصلهن أعوام كثيرة من بلوغ عمر الزوجية وسن الأمومة إذا تزوجن. ماذا تبقى لهن لأن يكتشفن من رجولة توجد في خزن ومخازن الرجال؟ هل هناك اعتماد على الرجل (رجل الحرب) – الكائن الحرباء الذي يجيد التلون والمراوغة؟ هل يوفر الرجل لهن الأمان حتى يحملن منه كأب ودود ورحيم بعد أن يلدن منه ويرضعن صغارهن؟ هل بإمكان الرجل أن يتقاسم معهن عناء الحياة الشاق، أم أن الرجل هو من يدير الحروب، ويأتي بالخراب والدمار في عقر الديار، ليشردهن ويبكيهن ويجعلهن معدمات؟ وكان هناك بينهم أنصاص الرجال الذين يطيب لهم المقام بعد تشريدهن من ديارهن ليسكنوها. ويجعلون من المرأة "ست أبوها" آلة تستخدم، ومخلوق مستعار، معروض في العراء للأغتصاب من مجموعات شوارع منحطة الأخلاق، وعديمة دين وعرض وشرف وإنسانية وجذور. وصدق القول بأن الرجال خشوم بيوت، أين موقع دعمنا السريع من كل هذا، أين موقع عصابات تسعة طويلة وأنصاص الرجال في المنتصف، وأين موقع جيشنا المغوار من كل هذا؟

وأخير لقد تقرر أمر الدفن لا محالة، ولا مجال لتأخير موعده تحت كل الظروف. هاهي اللحظات تمر، وفي كل لحظة يكتشف أهل الحى، ضحية حرب أخرى وميت آخر بين الحطام. تعجل الناس، خصوصا الشباب منهم في حفر القبور لحمل ضحايا الحرب لمثواهم الأخير. وهاهو الظلام الدامس يداهمهم، ويعلو الجو الغبار، والشباب يتصببون عرقا تحت حر ليل غائبة الظهور. وهاهي طائرات القتال تعتلي الجو، وتحلق مرة أخرى في الفضاء مستكشفة، ومن على البعد تسمع ضربات السلاح من البنادق والمدافع. ويزداد الجو قتامة، ويستنشق الناس مرة أخرى رائحة البارود الطاعنة في الحلوق والأجواف والأفئدة.

تفقد الناس يومها حصيلة الموتى وعدد الضحايا الذي فاق في يومه تصور كل من كان بمكان التجمع. وكان من بينهم نبلاء وأدباء وعلماء وكرماء وظرفاء ومبدعي ورياضيي وزاهدي ومتقشفي الحي. وتساءل الناس وقتها عن إمام المسجد العتيق، كيف حاله وأين مكانه الآن؟ وهذا بعد أن صمت كغير عادته صوت الأذان المنادي بمكبرات الصوت للصلاة خمس مرات في كل يوم وغاب عن مسامع الناس صوت الإمام الوقور ما وجد الحي السكني. فجأة عم السكون مكان تجمع أهل الحي، نساءا ورجالا، كبارا وصغارا. لقد لقي الإمام الوقور حتفه بسبب قنبلة إما طائشة وإما موجهة إلى منزله المتواضع في قلب الحي وصار في عداد ضحايا الحرب اللئيمة. وعليه توجب على أهل الحي المنكوب كغيره من أحياء المدينة، الصلاة على ضحايا حيهم، بما فيهم الإمام الوقور الذي رحل. وكان في مثل هذا اليوم، يؤم المصلين ويؤدي الصلاة ويواسي أهل الموتى ويطمئن قلوبهم الناس بأحاديث شريفة وآيات من الذكر الحكيم.
توكل أهل الحي على ربهم وواروا موتاهم الطيبين الثرى، بما فيهم إمام المسجد الوقور، والحزن يطعن في أحشائهم. وهذا بفراقهم لمن أحبوا من الناس وفقدوا أهل كرماء وعطوفين بين ليلة وضحاها، ولا يدرون لمن من الناس يكن الموت بولوج نور صباح جديد وبإشراق شمس يوم باكر.

ومن هنا: أي تقدم إنساني نحن فيه الآن، وأي إزدهار ننشد أنفسنا؟ وحنبنيهو كيف الوطن البنحلم بيه؟ العالم يناطح الآن السحاب، وعندنا يتناطح جنرالين يتمتعون بمكانة نحتت على رأس المواطن وعلى رأس الدولة. لقد كانا أخوين وفيين لبعض، بل كانا توأمين سياميين يتنفسون ويعطسون بأنف واحد، والآن صارا عدوين لدودين لبعضهما البعض. ونقول للأثنين بكل أمانة ومسؤولية: ليس هذه هي النتيجة التي كان ينتظرها شعب السودان منكم بعد صبر سنين عجاف. ولا كثمرة من ثمار المرحلة الإنتقالية للتحول الديمقراطي المنشود، في ووطن هو طنكم "السودان الكريم". يجب اليوم وقبل باكر أحلال سلام عاجل ودائم لشعب كريم أنتم منه وإليه. وسوف يكون بالتأكيد سلام في الوقت الضائع، ولكنه سوف يكون حتما أحسن من عدمه "أحسن من الحرب". والاعتذار للشعب السوداني، خصوصا الإعتذار للضحايا من مصابين ومعاقين، وأهل الضحايا والمشردين والمنهوبين والمتضررين، والمواطنين الذين دمرت منازلهم وممتلكاتهم ومؤسساتهم. هذه هي مسؤوليتكم أنتم كقادة في تعويضهم تعويض كامل وغير ناقص. وعلى الدول الغنية التي صنعت الحرب ومولت الحرب ليتطاحن السودانيون فيما بينهم أن تتحزم وتشد حيلها لدفع تعويضات الضحايا ودفع الخسائر الفادحة. وهذا يحوي التضرر المادي والتضرر النفسي الذي يلاحق حتى الأطفال كناتج عن صدمات الحرب أم صدمات ما بعد الحرب (ذا وور تراوما آند ذا بوست وور تراوما). وكل هذا على أساس ومنهاج التعويضات (مئات الملايين) التي توجب على السودان دفعها للولايات المتحدة الأمريكية، تعويضات تحت تسمية "دعم الإرهاب الدولي". وهنا يقدر ما سفكته هذه الدول من أرواح، وما دمرته من منازل ومؤسسات وبنية تحتية واقتصاد في السودان بمئات المليارات وما يزيد عن ذلك. ويجب أن يأمن ويحكم وصول هذه التعويضات مباشرة ومن دون وسيط للمواطن السوداني المتضرر من رحى الحرب الدائرة، والمفتعلة لمآرب محلية وأقليمية، للأخذ من سيادة وثروات البلاد المادية والبشرية.

E-Mail: hassan_humeida@yahoo.de  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: فی أیام

إقرأ أيضاً:

هذه مقالة رأي لن تغير رأيك

قد يبدو من المفارقات أن أكتب هذا الذي أكتبه في مقالة رأي، لكن لا بد من القول بأن الحجج وحدها ليست ذات أثر فعال على معتقدات الناس. والقبول المجتمعي الضمني الذي تحققه إنما يعترض طريق أشكال أخرى أكثر فعالية من الفكر والفعل السياسيين.

أنا باحثة أدرس التقاطع بين علم النفس والسياسة، وقد أفضى بي عملي إلى الاعتقاد بخطأ ثقافتنا في فهم كيفية عمل الإقناع السياسي. ففي زمن دونالد ترامب وإيلون ماسك وصعود اليمين المتطرف، أعرب كتَّاب الرأي عن رأيهم بلا توقف في مشاكل الأخبار الملفقة والاستقطاب وغيرهما. لكنهم في غالب الوقت يركزون جهودهم حيث لا تجدي نفعا، إذ يركزون أكثر مما ينبغي على الأقوال والكلمات.

انظروا مثلا إلى «المناظرات». وهي تمثل جزءا مركزيا في أكثر الحملات الانتخابية في العالم، وتعد ذات تأثير كبير فتدار في الغالب وفقا لقواعد صارمة تتعلق بالتغطية الإعلامية والتوازن. غير أن الأدلة تشير إلى أنه لا أثر لمشاهدة المناظرات على الآراء إطلاقا. فقد قام باحثون في عام 2019 بتحليل ست وخمسين مناظرة في اثنين وعشرين انتخابا في الولايات المتحدة وكندا ونيوزيلاندا وأوروبا في الفترة بين عامي 1952 و2016. تتبعت الدراسة قرابة مائة ألف مشارك لترى إن كانت المناظرات قد ساعدت الناخبين المذبذبين أو المستقرين على تغيير رأيهم. وتبين أنه ما من دليل على أنها فعلت ذلك. وفي عام 2012، أجرى صحفي تحليلا آخر لما إذا كانت المناظرات قد أثرت على نتائج أحد الانتخابات، وعلى حد قوله: «إن تأثيرات المناظرات على الأصوات النهائية طفيف في الأرجح، معدوم في أغلب الحالات».

ثمة أسباب كثيرة لعقم فعالية المناظرات (وإبداء الرأي والمحاججة بعامة) في تغيير معتقدات الناس السياسية. من هذه الأسباب التنافر المعرفي، وهو ظاهرة درستها ضمن أطروحتي للدكتوراه. والتنافر المعرفي هو انزعاج نفسي غير واع نشعر به عندما نواجه تناقضات بين معتقداتنا وأفعالنا، وهي ظاهرة موثقة جيدا. يمكننا أن نرى التنافر المعرفي وتأثيراته بوضوح عندما يسارع الناس إلى «التفكير» بطرق هي في حقيقتها محاولات لتخفيف انزعاجهم من معلومات جديدة حول معتقدات راسخة في أنفسهم.

فعلى سبيل المثال، قبل إدانة ترامب في اتهامات عدة سنة 2024، كان 17% فقط من الناخبين الجمهوريين هم الذين يعتقدون بوجوب السماح لمرتكبي الجنايات بتولي الرئاسة، ثم حدث بعد الإدانة مباشرة أن ارتفع الرقم إلى 58%. فمن أجل المصالحة بين المعتقدين المتناقضين (أي أن الرؤساء لا ينبغي أن يفعلوا كذا، وأن ترامب ينبغي أن يكون الرئيس) بدَّل عدد هائل من الناخبين الجمهوريين رأيهم في المعتقد الأسبق.

والواقع، أن الناخبين الجمهوريين غيروا رأيهم في كل شيء تقريبا أدين به ترامب: إذ قلَّ بينهم من يرفضون أخلاقيا ممارسة الجنس مع ممثلة إباحية، ورشوة شخص بالمال لكي لا ينطق في قضية ما، أو تزوير سجل تجاري. وليس هذا التأثير مقصورا على ناخبي ترامب: إذ تشير أبحاث إلى أننا جميعا نفكر بهذه الطريقة، من أجل أن نديم التمسك بالمعتقدات التي تبقينا على ما درجنا على فعله. أو أننا، للمفارقة، نغير بعض آرائنا استجابة لمعلومات جديدة، ولكن الهدف في أغلب الحالات هو ألا نضحي بمعتقدات أخرى أكثر رسوخا.

لكن ما يجعل المناظرات والحجج تفتقر نسبيا إلى الفعالية لا يقتصر على محض ظاهرة نفسية من قبيل التنافر المعرفي. فمثلما أوضح في كتاب لي، قد يكون السبب الأهم في عدم تغيير الكلام آراءنا هو عظم تأثير عاملين آخرين: علاقاتنا الاجتماعية، وأفعالنا وتجاربنا الخاصة.

تشير أدلة وافرة إلى أن لأصدقائنا القدرة على تغيير معتقداتنا وسلوكنا، لا بالحجاج معنا، بل بمحض وجودهم حولنا أو عرضهم لنا طرقا جديدة في الحياة. وتبين نظرية التواصل الاجتماعي أنه عندما تتوافر للناس ظروف تكوين الصداقات أو التعاون ، فإن تحيزهم ضد مجموعات الهوية التي ينتمي إليها أصدقاؤهم يقل. ولعل هذه الظاهرة تفسر كثيرا من التطورات الإيجابية في حقوق المثليين على مدار العقود القليلة الماضية: فمع إعلان الناس حقيقة ميولهم، غيّر أصدقاؤهم آراءهم في المثلية الجنسية، ما أدى إلى واحد من أسرع تحولات الرأي العام المسجلة. وبالمثل، تبين الأبحاث أن اشتراك الناس في عمل صديق للبيئة (من قبيل تركيب مضخة حرارية heat pump) يكون أرجح لو أن لهم أصدقاء يفعلون ذلك مما لو أنهم حصلوا على مكافآت نقدية أو غيرها من الحوافز. فأصدقاؤنا يوسعون مجال اهتمامنا، ويغمسوننا في العالم، ويبنون الثقة التي يبدو أن البشر بحاجة إليها من أجل الانفتاح على أفكار جديدة. وتأثيرهم غير المباشر يحقق أكثر مما يمكن أن تحققه الحجج، وبخاصة حينما تأتي من الأغراب. بعبارة أخرى، عندما يتعلق الأمر بالإقناع، لا تعول على الحوار، وإنما على العلاقة.

ولأفعالنا وتجاربنا أيضا أثر عميق، وإن يكن هذا بطرق مخالفة للبديهة. فعلى سبيل المثال، تبين الأبحاث أنه عند تماثل الظروف، فإن النساء اللاتي يتعرضن للمنع من الإجهاض يصبحن بطريقة ما أقل تأييدا لحق الإجهاض، بينما النساء اللاتي يحصلن على إجهاض يصبحن بطريقة ما أكثر تأييدا. قد نتوقع أن النساء الممنوعات من شيء يصبحن أشد حرصا على الحصول عليه، لكن الظاهر أن الأمر ليس كذلك، ربما لأن الناس يميلون ـ بسبب التنافر المعرفي جزئيا ـ إلى التقريب بين معتقداتهم وأفعالهم، حتى لو أنهم مكرهون على هذه الأفعال. ويتضح أيضا تأثير الأفعال والتجارب على أنظمة الاعتقاد عندما يتعلق الأمر بأزمة المناخ: فالذين يمرون بأحداث مناخية حادة يكونون أرجح إيمانا بالتغير المناخي ومعالجته.

بالمقارنة مع هذه التأثيرات، لا يكون للحجج وحدها غير قوة قليلة نسبيا. غير أن مؤسساتنا لا تزال تقام وكأنما الكلمات كافية. فنحن على مستوى البنية الأساسية واقعون جميعا في شرك الاعتقاد الليبرالي بأن السياسة في الغالب أمر يتعلق بالكلام، ثم بالتصويت بين الحين والحين. وما يحتاج إليه أي شخص يرجو ترويج فكرة تقدمية ليس الحجج، وإنما بنية أساسية ترسخ علاقات وتجارب جديدة. وقد يتمثل هذا في أي شيء من قبيل إقامة ساحة انتظار للآباء يختلطون فيها ببعضهم بضعا قبل خروج الأولاد من المدرسة، أو اتحاد في موقع العمل، أو حديقة عامة. وهذه الأشكال من البنية الأساسية تتيح للناس أن يتواصلوا بطرق جديدة، ويؤسسوا الصداقات والثقة، وتشجِّع على الأفعال التي تتيح في نهاية المطاف أن يغير الناس آراءهم.

كل هذا يشير إلى أننا بحاجة أيضا إلى التفكير بشكل مختلف في ما يعنيه أن يكون المرء مفكرا سياسيا جيدا. فحسن التفكير في السياسة لا يتعلق بالتفكير «المستقل» بمعنى أن يفكر المرء وحده. بل إن التفكير الجيد هو اختيار الأصدقاء بحكمة، من حيث التنوع والعمق، لكي نستطيع أن نتعلم منهم ومعهم. وحسن التفكير في السياسة يعني أيضا أن نكون فعالين في العالم، فنجرب طرقا جديدة في الحياة، ونحوض تجارب واسعة الاختلاف. ومن سوء الحظ أن هذا بات أمرا أصعب من ذي قبل، بسبب تفاوت الدخول إلى حد كبير. ويبين البحث الاجتماعي أن الناس الآن في بلاد من قبيل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أشد عزلة وأقل حركة من ذي قبل. فالنسيج الاجتماعي الذي نعتمد عليه بالضرورة لتفكيك تحيزاتنا يتلاشى. وهنا يكمن بعض أسباب انتصار اليمين، إذ إنه بارع في حشد علاقات الناس وأفعالهم في هذا العالم المتكلس، مع استغلاله طيلة الوقت لظروف الناس المادية المتدهورة. ولعلاج هذا، يلزم التقدميين أن يستردوا الثروة والسلطة، فيجد كل امرئ الدعم والقدرة على توسيع حياته.

وبالطبع ليس بوسعي أن أقنعكم بالكلام. ولكني أحرضكم على اكتشاف هذا على نحو أجدى: تواصلوا مع أشخاص مختلفين، وليكونوا مثلا أشخاصا تأثروا تأثيرا شديدة بقضية سياسية. أو جرِّبوا طريقة جديدة في الحياة، وابدأوا بشيء بسيط. وانظروا هل يغير هذا من رؤاكم السياسية، ولو قليلا. أو لعله يغير من فهمكم للسياسة برمتها.

مقالات مشابهة

  • بدور البراهيم تثير الجدل بسبب تعليقها على رائحة موظفة .. فيديو
  • عاجل. ترامب يلتقي رئيس جنوب إفريقيا في المكتب البيضاوي ويعرض ما يقول إنها أدلة على إبادة جماعية بحق البيض
  • موفق محمد .. لسان حال الناس
  • نائبة أمريكية تتهم خطيبها السابق بتصويرها عارية.. فيديو
  • افتتاحية
  • خلعت زوجها بعد 3 شهور جواز.. مديون بـ مليون و200 ألف جنيه وضربها وابتز أسرتها
  • ترامب يصف جولته الخليجية بالرائعة ويشيد بالعلاقات مع قطر والسعودية والإمارات
  • هذه مقالة رأي لن تغير رأيك
  • مهرجان عامل.. محاولة لاستعادة الحياة في كفررمان الجنوبية
  • يا أخوانا الكفر والسفه الحصل أيام الثورة و أيام قحت حاجة ما بتتصور نهائي