بسم الله الرحمن الرحيم و أفضل الصلاة و أتم التسليم على سيدنا محمد.
ساقتني الشَّلَاقَة و قِلَة الشَّغَلَة إلى مشاهدة تغطيات قناة الجزيرة مباشر للأزمة السودانية و من ثم الإستماع إلى أكاذيب العديد من الشخصيات الكيزانية المعروفة و المغمورة و إلى تخريفات أرتال من المُتَكُوزِنِين و إلى هطرقات إعلامي زمن الغفلة و التيه الكيزاني و إلى إفترآءات الجميع على ثورة ديسمبر ٢٠١٨ ميلادية و تدليسهم على مواقف قوى الحرية و التغيير (قحت) و تنسيقية القوى الديمقراطية و المدنية (تقدم).
و يبدو أن التعليمات الصادرة لأعضآء التنظيم الكيزاني و المُتَكَوزِنِين هو الإجتهاد ، و بأعظم قدر ممكن ، في التوظيف/الإستخدام الأمثل للكذب و التلفيق و التدليس بهدف طمس الحقآئق و ممارسة التغبيش و تشويه سمعة ”القحاطة“ و (تقدم) ، و ذلك بإفتراض أن الشعوب السودانية بسيطة ، و لا تمتلك ذاكرة ، و يمكنها تَقَبُّل: الخدع الكلامية و أحاديث الإفك الإعلامية و الإبتزاز الديني و بقية البضاعة الكيزانية الفاسدة ، و الملاحظ أن التعليمات تركز على تكرار أسطوانة مشروخة تقول أن (قحت/تقدم):
- أشعلت الحرب
- غضت/تغض الطرف عن تجاوزات مليشيات الجَنجَوِيد (قوات الدعم السريع) في دارفور ، و أنها تحاورت/تحالفت معهم عقب الإطاحة بالمخلوع البشير و وَقَّعَت مع محمد حمدان دَقَلُو (حِمِيدتِي) الوثيقة الدستورية و الإتفاق الإطاري و إعلان أديس أبابا ، و رغم ذلك ترفض التفاوض مع الكيزان
- منحت حِمِيدتِي وظيفة سيادية ، و جعلته: نآئباً لرئيس مجلس السيادة الإنتقالي و على رأس اللجنة الإقتصادية و وفد مفاوضات سلام/محاصصات جوبا
- أتاحت لحِمِيدتِي التمدد السياسي: محلياً و إقليمياً و عالمياً
- سمحت لمليشيات الجَنجَوِيد بطفرات غير مسبوقة في: التجنيد و التدريب و نوعية التسليح و الإنتشار الميداني
- أغمضت أعينها عن الفساد المالي و الإداري لآل دَقلُو و مليشيات الجَنجَوِيد و بطانتهم و قدمت لهم الغطآء السياسي
- تسعى إلى العلمانية و تحارب الدين
إبتدآءً ، و لو كانت لقوى الحرية و التغيير المقدرات العسكرية و الرغبات على إحداث الحروب و إستخدام العنف لبلوغ الأهداف لما أقدم/تجاسر/تجرأ أعضآء اللجنة الأمنية العليا لنظام الجماعة الإنقاذية المتأسلمة (المجلس العسكري الإنتقالي/الشق العسكري في مجلس السيادة الإنتقالي) على: قمع الثوار و إرتكاب مجازر كولومبيا و إعتصام القيادة العامة و قتل الثوار الذين تظاهروا رافضين لإنقلاب الخامس و العشرين (٢٥) من أكتوبر ٢٠٢١ ميلادية و إشعال الحرب...
و يعلم الكيزان و المُتَكَوزِنُون و أبواقهم الإعلامية ، علم اليقين ، من هي الجهات التي تصارعت حول السلطة و الثروات/الموارد و أشعلت الحرب و تلك المستفيدة من إستدامتها ، و أن وزر جميع ذلك الأمر معلقٌ حصرياً في عاتق/رقاب جماعة الكيزان و كتآئب ظلهم و صنيعتهم حِمِيدتِي ، صاحب مليشيات الجَنجَوِيد ، و داعميهم/كفلآءهم الإقليميين و العالميين...
و لم تكن الشراكة بين قوى الحرية و التغيير و المجلس العسكري الإنتقالي (اللجنة الأمنية العليا لنظام الجماعة الإنقاذية المتأسلمة) أبداً مما يخطط له أو يطمح إليه الثوار و ممثليهم و جماهير الشعوب السودانية المتطلعة إلى الحرية و التغيير و السلام و العدالة ، لكن يبدو أن: إحسان الظن في أعضآء اللجنة الأمنية العليا لنظام الجماعة الإنقاذية المتأسلمة و الحرص على حقن الدمآء و سوء التقديرات و عقلية ليس بالإمكان أفضل مما كان و ملل الإنتظار و إستعجال النهايات و المقادير هي التي قادت إلى الوثيقة الدستورية ، و أنتجت إتفاقية سلام/تحاصص جوبا ، و أفرخت شخوص حكومة الفترة الإنتقالية...
و قد أبانت أحداث و ملابسات الفترة الإنتقالية مدى ضعف أدآء الجهاز التنفيذي الإنتقالي و عجزه عن الفعل و الإنجاز ، و فشله في الإستفادة من الزخم الثوري ، المتوفر بكثرة ، و توظيف ذلك الزخم في: تحقيق أهداف الثورة و إزالة التمكين و تفكيك نظام الثلاثين (٣٠) من يونيو ١٩٨٩ ميلادية و محاكمة مدبري الإنقلاب العسكري على الحكومة المنتخبة و رموز النظام و كل من أفسد و ظلم و أجرم ، هذا الضعف/التهاون/العجز هو ما أعاد جماعة الكيزان إلى الساحة ، و أغراهم بالظهور إلى العلن و سَل الضَّنَب ، و ذلك من بعد أن أجبرهم طوفان الثورة و تصميم الثوار و الهلع و الخوف على الفرار و الإختبآء في الأوكار القريبة و المنافي البعيدة...
و يعلم الكيزان و المُتَكَوزِنُون و أبواقهم الإعلامية ، علم اليقين ، أنهم كاذبون ، و أن الثوار و قحت قد أجبرتهم ، مكرهين ، ظروف و ملابسات ما بعد خلع البشير على الجلوس و التفاوض مع اللجنة الأمنية العليا لنظام الجماعة الإنقاذية المتأسلمة التي أعلنت ”إنحيازها“ إلى ثورة الشعب و تبني شعاراتها:
حرية ، سلام و عدالة ، مدنية خيار الشعب...
العسكر للثكنات و الجَنجَوِيد ينحل...
و العدالة تعني المحاسبة و التقاضي أمام المؤسسات العدلية ، و العدالة تعني المسآءلة القانونية و إنزال العقاب على الفاسدين و المجرمين و الظالمين من رموز النظام و بطانتهم/حاشيتهم و كف شرورهم عن الشعوب السودانية ، و العدالة تعني الإلتزام بقرارات الثورة و في مقدمتها حل و حظر نشاط حزب المؤتمر الوطني الحاكم و الواجهة السياسية للنظام و الجماعة الإنقاذية المتأسلمة...
و يعلم الكيزان و المُتَكَوزِنُون و أبواقهم الإعلامية ، علم اليقين ، من الذي أتى بحِمِيدتِي من البادية إلى الخرطوم ، و من أسبغ عليه لقب (حمايتي) و (المخزون الإستراتيجي) ، و من أدخله إلى القصر الجمهوري و إستوديوهات القنوات التلڨزيونية!!! ، و من قَنَّنَ له القتل و الإبادات الجماعية و البطش و قهر المعارضين في كل أقاليم السودان حمايةً للنظام و الطغمة الحاكمة ، و يعلمون جيداً من الذي جعل حِمِيدتي (بتاع البلد دي بَلِفَهَا عندنا) عضواً في اللجنة الأمنية العليا لنظام الجماعة الإنقاذية المتأسلمة ، و من (حَنَّسَه) في حي نمرة إتنين في قلب مدينة الخرطوم حتى يكون شريكاً في المجلس العسكري الإنتقالي ، و من أجلسه على المنصة للتوقيع على الوثيقة الدستورية ، و من إختلق له إختلاقاً/إفترآءً منصب نآئب رئيس مجلس السيادة الإنتقالي ، و من رفض حل مليشيات الجَنجَوِيد و ضمها إلى القوات المسلحة ، و من الذي عَدَّل القوانين حتى تكون مليشيات الجَنجَوِيد أكثر إستقلالية و تمكيناً و بطشاً/فتكاً ، و يعلمون جيداً أسماء و رتب قيادات الجيش التي مشت بين الناس و الجنود توعظ و تبشر أن قوات الدعم السريع (مليشيات الجَنجَوِيد) من (رحم القوات المسلحة) ، و أنها تقوم بدورها المنوط بها في حامية الحمى و العروض!!! ، و تتوعد/تهدد كل من يطالب بحل مليشيات الجَنجَوِيد أو يقدح فيها بالمسآءلة و العقاب...
و يعلم الكيزان و المُتَكَوزِنُون و أبواقهم الإعلامية ، علم اليقين ، من الذي صادق على الزيادات الغير مسبوقة في أعداد التجنيد و المعسكرات و نوعية تسليح مليشيات الجَنجَوِيد ، و من أسند لهم مهام حماية المرافق السيادية و الأمنية و المؤسسات الحكومية بما فيها القصر الجمهوري و القيادة العامة للقوات المسلحة و الكباري و مباني الإذاعة و التلڨزيون ، و من قَنَّنَ لهم الإرتزاق في اليمن و ليبيا ، و من قدم حِمِيدتِي و مليشيات الجَنجَوِيد إلى الإتحاد الأوروبي و العالم عبر بوابة التعاون في مكافحة التهريب و الإتجار بالبشر و محاربة الإرهاب العابر للحدود...
أما رئاسة حِمِيدتِي للجنة الإقتصادية و مفاوضات سلام جوبا فتلك من خطايا/دَقسَات (قحت) التي أحسنت الظن و وضعته في غير أهله/مكانه ، و أخطآء المرحلة الإنتقالية متعددة لكن ليس فيها فساد الذمم أو خيانات الأمانة أو العمالة و الإرتهان و خدمة المصالح الأجنبية كما تصوره/تسوقه الألة الإعلامية الكيزانية...
و مما يحمد لقوى الحرية و التغيير إعترافها بالأخطآء ، و ممارستها نقد الذات العلني ، و تقييمها لتجربتها و أدآءها في الفترة الإنتقالية في سابقة نادرة قلما تشهدها/شهدتها الساحة السياسية السودانية ، و يحمد لقيادات قوى الحرية و التغيير إستعدادهم للمثول أمام القضآء العادل للدفاع عن التهم الموجهة إليهم ، إن وجدت ، فهل بإمكان الكيزان القيام بذلك التمرين التنظيمي/السياسي/الأخلاقي؟...
و قد أثبتت الفترة الإنتقالية و البراهين و الأدلة على مدى تمكن الجماعة الإنقاذية المتأسلمة و تغلغلها في مفاصل الدولة السودانية و أنظمة الحكم ، و قد أبانت ذلك نشاطات لجنة إزالة التمكين و تفكيك نظام الثلاثين (٣٠) من يونيو ١٩٨٩ ميلادية ، و التي قوبلت بعدآء شديد من الجماعة و أتباعهم من المنتفعين الذين فضحتهم أعمال اللجنة و أبانت فسادهم العظيم...
التعنت ، التراخي ، التواطؤ و غض الطرف من طرف الشق العسكري في مجلس السيادة الإنتقالي (اللجنة الأمنية العليا لنظام الجماعة الإنقاذية المتأسلمة) و ضعف الجهاز التنفيذي الإنتقالي و في غياب أدوات العدالة الفَعَّالَة و القضآء النزيه المستقل أتاح للجماعة و لصنآئعها ، حِمِيدتِي و مليشيات الجَنجَوِيد و أضرابهم ، مواصلة ممارسة الفساد الإداري (المحسوبية و التمكين) و الفساد الإقتصادي (التعدين و تجارة الصادر و الوارد و الإتجار في العملات الأجنبية) خلال الفترة الإنتقالية ، و من ثم التمدد الإقتصادي و السياسي و الإجتماعي...
أما فرية تقديم (تقدم) الغطآء السياسي و الدبلوماسي لحِمِيدتِي و مليشيات الجَنجَوِيد فذلك عين التدليس ، فموقف (تقدم) و قياداتها من مليشيات الجَنجَوِيد و الحرب و الإنتهاكات معلوم للجميع و موثق في تصريحات التنسيقية الرسمية و في أحاديث قياداتها للقنوات التلڨزيونية و المتوفرة في الوسآئط الإجتماعية و أسافير الشبكة العنكبوتية...
و ما كان إعلان أديس أبابا الموقع مع قآئد مليشيات الجَنجَوِيد ، و هو أحد طرفي الحرب ، إلا محاولة/مبادرة جادة و صادقة من قبل (تقدم) لوقف الحرب و حماية المدنيين من ويلاتها و عودة العسكريين إلى الثكنات ، و الشاهد هو أن الطرف الثاني المشارك في الحرب ، الجيش ، قد تَهَرَّب من ذلك الإعلان متعللاً بأحاديث الأعيان المدنية و بقية التبريرات المعروفة ، و الشاهد هو أن قيادات الجيش قد إختارت: ”الإنسحابات التكتيكية“ و التخلي عن حماية المواطنين ، و صممت على المضي في الحرب و القتال لمئات السنين و لآخر جندي!!! ، و تشهد بذلك أحاديث و ڨيديوهات تلك القيادات المتوفرة في الوسآئط الإجتماعية و أسافير الشبكة العنكبوتية و كذلك مضابط إجتماعات التفاوض في مدن جدة و المنامة و چنيف و مدن أخرى و أماكن و غرف يعلمها الله و أناس معروفون و غير معروفين...
أما الحديث عن العلمانية و الإلحاد و المثلية و أن الجماعة الكيزانية قد آلت على نفسها إقامة شرع الله في الأرض و حماية بيضة الدين و محاربة الكفار و العلمانيين و الملحدين فهي بضاعة منتهية الصلاحية سبق و تم تسويقها و بيعها للشعوب السودانية خلال أربعة عقود من الفساد و الضلال و الظلم الكيزاني و أثبتت فشلها ، و لذلك لا جدوى أو طآئل من الخوض فيها ، و بس يكفيك أنهم:
كذبوا صبيحة إنقلابهم على رؤوس الأشهاد...
دفنوا عساكر و أناس أحيآء...
دقوا مسمار في رأس معارض...
إغتصبوا معتقل...
عملوا وظيفة مُغتَصِب في جهاز الأمن...
زنوا و سبوا الدين في نهار شهر رمضان...
حَلَّلَوا الربا و الغلول...
سَفُّوا أموال و عقارات الأوقاف...
لَهَطُوا الأراضي و مؤسسات الدولة و البترول و المعادن و المواشي و الصمغ العربي و ... و ... و ...
أدخلوا الخَوابِير في أدبار المعتقلين و المتظاهرين...
قتلوا و أحرقوا و أغرقوا المتظاهرين...
يا خي بإختصار العَمَلُوهُو الكيزان في بلاد السودان و الشعوب السودانية إبليس ذاتو ما عملوا...
الخلاصة:
يبدو أن جوهر التعليم و الإرشاد الكيزاني يتمحور حول إستغلال الدين بأكبر قدر ممكن ، و الإلتزام بمبدأ أن الغاية تبرر الوسيلة ، و أن يكون التعامل مع الآخرين بفقه التقية ، طبعاً مع إجادة تَقعِيد الحديث و فن الخطابة (لَولَوَة الكلام)...
الختام:
حبل الكضب قصير ، و عاشت ثورة ديسمبر و شعارها الخالد:
أي كوز...
نَدُوسُو دُوس...
و لعنة الله على القتلة و الظالمين و الفاسدين و المفسدين...
و الحمدلله رب العالمين و أفضل الصلاة و أتم التسليم على سيدنا محمد.
فيصل بسمة
fbasama@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: مجلس السیادة الإنتقالی الفترة الإنتقالیة الشعوب السودانیة الحریة و التغییر ح م یدت ی من الذی
إقرأ أيضاً:
في ذكرى 30 يونيو.. كيف سطّر «الإخوان» نهايتهم في حكم مصر (1 من 2)
يبدو أنه قانون من قوانين نجاح الثورات، وأحد العوامل المهمة التي تؤدي إلى هزيمة الطغاة المستبدين، أقصد إصابة هؤلاء في الأيام القليلة التي تسبق الإطاحة بهم، وإنهاء دورهم السياسي بغباء شديد، يتسبب في تخبط قراراتهم، ويؤدى إلى رفع سقف مطالب الثوار.
إن تحليل سلوك الملوك والسلاطين والأمراء والحكام، وردود أفعالهم مع بداية تمرد الشعوب وانفجار الثورات، يشير إلى سلوك وقرارات أقل ما توصف به أنها عشوائية، كما تشير إلى عدم تفهمهم لطبيعة الأحداث وتطورها، وعدم إدراكهم احتمال لجوء الثوار إلى العنف والمطالبة بعزلهم، والملاحظ أن الغرور والعناد يتحكم في سلوك معظم الطغاة حتى اللحظة الأخيرة.
ينطبق هذا في تاريخنا القريب على سلوك حسنى مبارك بعد انفجار ثورة 25 يناير 2011، وعلى سلوك محمد مرسى العياط الذى تقلد حكم مصر بعد نجاح الجماعة الانتهازية في ركوب الثورة وجني مكاسبها.
بعد خمسة أيام من تنحي مبارك أعلن محمد مرسي المتحدث الرسمي باسم جماعة الإخوان نية الجماعة بتأسيس حزب سياسي، كما أعلن عبود الزمر أنه سيعمل على تكوين ائتلاف حزبي من الجماعات الإسلامية، وفى نفس الوقت أعلن، عمرو خالد الذي وصف بالداعية الشاب، أو داعية شباب الطبقة الوسطى الصغيرة عن نيته هو الآخر في تأسيس حزب، وكأنها عدوى أصابت كوادر التيار المتأسلم، فسرعان ما شهدت مصر مجموعة من الأحزاب ذات المرجعية الدينية (حزب الوسط، وحزب الحرية والعدالة، وحزب النور السلفي، وحزب مصر المستقبل، وحزب البناء والتنمية، وحزب الأصالة).
وفى مواجهة المجلس العسكري طالبت هذه الأحزاب بضرورة تسليم السلطة للمدنيين، وانضم إلى هؤلاء رغم الخلافات الأيديولوجية، العلمانيون والليبراليون وغيرهم.
وعادت المصطلحات التي هاجمت ثورة 23 يوليو إبان حكم جمال عبد الناصر إلي المشهد السياسي من جديد دون تعديل أو تبديل، فكل من يعارض الإخوان والجماعات التي خرجت من رحمها «كافر، علماني، ملحد، خارج عن دين الله، ومصيره جهنم وبئس القرار»، أما هم واتباعهم فهم «ظل الله في أرضه» وهم: «الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وهم المدافعون عن الشرع، المجاهدون في سبيل نصرة الدين».
وبالإضافة إلى سلاح الشائعات، استخدمت هذه الجماعات سلاح الإغراء بالمال لضم الفقراء وبعض شرائح الطبقة الوسطى الصغيرة، بل وبعض رموز النخب لصفوفها، وبالفعل وقع في شباكها البعض سواء أكان مدفوعا بدوافع انتهازية، طامعا أن يحظى بمكانة ومكان عندما توزع الجماعة التركة، أم كان مخدوعا بالخطاب المعسول الذى رددته كوادر الجماعة والمرشد والمتحدث الرسمي، وخيرت الشاطر وغيرهم، حيث توقع هذا الفريق أن الجماعة بعد الفرصة الذهبية التي لم تتوقعها لن تجتر تاريخها الدموي، وأنها ستعمل من أجل مستقبل أفضل لكل المصريين، وأنها ستسمح لكل القوى السياسية لتشاركها صناعة هذا المستقبل الجديد.
لم يكن قد انكشف حجم التآمر والتخطيط الخارجي ومباركة الولايات المتحدة الأمريكية ودوائر المخابرات الغربية لصعود جماعات الإسلام السياسي إلى الحكم، تكريسا لهزيمة التيار القومي بعد يونيو 1967، ورحيل زعيم القومية العربية جمال عبد الناصر، وتمهيدا لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد.
ولم يكن أمام المجلس العسكري وعلى رأسه المشير محمد طنطاوي إلا التريث لفهم ما يحدث في مصر، ودراسة تقارير المخابرات المصرية حول الأيادي الخفية التي تعبث بمستقبل البلاد من ناحية، ومن ناحية أخرى التعامل بحذر مع جماعة الإخوان التي هددت بإحراق القاهرة وإشاعة الفوضى.
وبدا لمن لا يدرك حقيقة مواقف المجلس العسكري وطريقة إدارة المشير طنطاوي للأزمة، أنهم باركوا صعود الإخوان والجماعات الأخرى، وأنهم تراجعوا أمام قوة هؤلاء وتهديدهم لأمن مصر.
والحقيقة أن المجلس العسكري - كما سيتضح فيما بعد - كان منهمكا في دراسة الوضع الشائك الذى أعقب تنحي حسني مبارك وأنه كان متيقنا من أن الصدام بين الشعب وهذا التيار واقع لا محالة، لكنه فضل أن يؤجل الصدام، وأن يدخل في شهر عسل مزيف مع الجماعة وتيارات الإسلام السياسي الأخرى، التي تحفظ ذاكرتهم، وتحفظ أراشيف الدولة خططهم وأهدافهم وعلاقاتهم الخارجية، ومن هنا جاء الاعتراف الرسمي بجماعة الإخوان المحظورة، حيث تم استدعاء أعضاء مكتب الإرشاد، محمد مرسى العياط، وسعد الكتاتني، للقاء اللواء عمر سليمان، مدير المخابرات العامة، كما تم الإفراج عن خيرت الشاطر، وحسن مالك، وعدد آخر من قيادات الجماعة وكذلك أعضاء جماعة الجهاد، وبعض السلفيين الذين كانوا يقضون فترة عقوبتهم.
ولقد تابعت وسائل الإعلام، وتابع كل رجال الفكر والسياسة ما يحدث باندهاش، لقد تم الإفراج عن 800 معتقل سياسي كان محكوما على بعضهم بالإعدام، وسمح لعدد آخر ممن صدرت ضدهم أحكام من قبل، بتقديم تظلمات، حيث أعيدت محاكمتهم وتمت تبرئتهم، وسرعان ما انضم هؤلاء إلى جماعاتهم مستفيدين من المناخ الجديد الذى يسمح لهم بالنشاط العلني.
كانت الأسماء معروفة للجميع وكانت الاتهامات التي صدرت ضدهم اتهامات جنائية وصل الحكم في بعضها إلى الإعدام، ومن هؤلاء: مصطفى حمزة (أحد كوادر الجماعة الإسلامية) وكان محكوما عليه بالإعدام بعد التأكد من مشاركته في محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا عام 1995، ومحمد الظواهري (شقيق أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة) الذى صدر ضده أيضا حكم بالإعدام، نتيجة لتآمره وتخطيطه لقلب نظام الحكم، ومن هؤلاء أيضا: رفاعي طه (أحد كوادر الجماعة الإسلامية)، وأيضا كان محكوما عليه بالإعدام في القضية التي عرفت عام 1992 بقضية «العائدون من أفغانستان»، وكانت تهمته «التخطيط لقلب نظام الحكم».
والمثير للتأمل وقتئذ أن المشير طنطاوي أصدر قرارات عفو رئاسية في العاشر من مارس 2011 بالعفو عن 60 مسجونا من الإسلاميين كان من بينهم عبود الزمر المحكوم عليه في قضية اغتيال السادات.
هكذا لجأ المجلس العسكري إلى سياسة التكيف والموائمة والمهادنة، بعد تفهمه للواقع وللظروف الاستثنائية التي كانت تمر بها مصر، خاصة أن الشارع السياسي كان يعانى من تخبط وعدم فهم ما يحدث، البعض استبشر خيرا وكان يحلم بعهد جديد يسمح بالتعدد السياسي والحرية واحترام حقوق الإنسان، وانخدع فريق آخر وتوقع أن تعي جماعات وتيارات الإسلام السياسي التغيرات التي وقعت على أرض الواقع وأن تتخلى عن سلوكها الدموي الذي عرفت به منذ نشأتها.
على كل حال شكل المجلس العسكري «لجنة تعديل الدستور» برئاسة المستشار طارق البشرى المعروف بانحيازه للتيار الإسلامي، وتم تعديل 11 مادة من مواد دستور 1971، وأجرى الاستفتاء يوم 19 مارس 2011 على ذلك.
وقد تنبه البعض من رموز النخبة المصرية إلى أن الإخوان «خانوا الثورة» وأنهم بدأوا يعملون لمصلحتهم، وإنهم تجاهلوا «الميدان» ويخططون للسيطرة على الحكم، وأنهم تناسوا الشعار الذي أطلقوه «مشاركة لا مغالبة»، وأنهم في سبيل ذلك يخدعون الشعب المصري، ويحاولون إقناع الغالبية العظمى التي تعمل بالسياسة (بالكذب)، بأن الاستقرار يرتبط برضاء الله، مرضاة الله مقابل مقاعد في جناته، أما من يعارض الجماعة ويقاطع الاستفتاء فسوف يتبوأ مقعده من النار.
ويكاد ينعقد إجماع المراقبين وشهود عيان هذه المرحلة المفصلية في تاريخ مصر، على أن مواقف الإخوان بعد الاستفتاء أدت إلى تفكيك التوافق الذى ساد الميدان، حيث دفعت الجماعة بكوادرها وأعضائها إلى الشوارع لتطالب بإجراء الانتخابات أولا، رغم ما في ذلك من مخالفة دستورية واضحة، وصفها البعض بأنها كانت بمثابة انقلاب تشريعي خطير.
على أي حال، أصدر المجلس العسكري، في السادس والعشرين من سبتمبر 2011 إعلانا دستوريا جديدا، اشتمل على تعديلات جوهرية لقانون الانتخاب وتم عمل الجمعية التأسيسية وشكل البرلمان جمعية تأسيسية جيدة، وهى الجمعية التي انعقدت يوم 18 يونيو 2011 برئاسة المستشار حسام الغرياني، وقدمت الدستور يوم 30 نوفمبر من نفس العام.
وكانت المحكمة الدستورية قد أصدرت قرارها يوم 14 يونيو بعدم دستورية مجلس الشعب.
وجرت مياه كثيرة في النهر، وبات الشارع السياسي يشعر بقوة الجماعة، كما أن الجماعة ازدادت قوتها وثقتها في خطواتها وتعرض الأقباط للتنمر والهجوم، وسقط منهم ضحايا، وعمت الفوضى في شوارع القاهرة، وسقط كل يوم عدد من الشباب على يد ما أطلق عليه في هذا الوقت «الطرف الثالث».
كانت مصر تغلي وتعيش في فوضى رهيبة، وبدأ الاقتصاد يتأثر، وبدأت مصطلحات الإخوان والفتاوى الغريبة تتصدر الإعلام ولم يكن ذلك يعبر ولا يعكس هوى كل المصريين الذين عرف عنهم تدينهم المعتدل.
وبدأت ظاهرة تهريب البنزين والسولار، وانهارت السياحة، وشعر الكل برجفات زلزال مدمر، يهدد الأمن والاستقرار، وفشل مجلس الشعب في مناقشة القضايا التي تهم الناس، وبالطبع لم يتمكن البرلمان من ممارسة الرقابة على أداء الحكومة، وزادت حدة الخلافات بين الجماعة ووزارة الجنزورى، لذلك خططوا لوزارة جديدة حتى يتمكنوا من الهيمنة عليها.
وخلال الشهور الواقعة بين 25 يناير 2011 وفبراير 2012 تكشفت للمصريين حقيقة هذه الجماعة، كل يوم كانوا يثبتون أنهم لم يتغيروا، وإنهم يمكرون من أجل الانفراد بحكم البلاد، اتضح ذلك بجلاء عندما قررت الجماعة المشاركة في الانتخابات الرئاسية ورشحت خيرت الشاطر، وتجاهلت عن عمد إعلانها يوم 30 ابريل 2011 عدم السماح لأي من أعضائها بالترشح، وتبخر في الهواء قرار مكتب الارشاد بفصل عبد المنعم أبو الفتوح عضو مكتب الإرشاد بعد إعلان ترشحه، وبمجرد فتح باب الترشح للرئاسة تم ترشيح خيرت الشاطر لينافس 23 مرشحا من تيارات سياسية مختلفة.
قامت لجنة الانتخابات باستبعاد عشرة من المرشحين، كان من بينهم اللواء عمر سليمان، بسبب عدم صحة عدد من التوقيعات المقدمة تأييدا له من محافظة أسيوط، كما استبعد حازم أبو إسماعيل الذى ثبت أن أمه تحمل الجنسية الأمريكية، وأيضا استبعد خيرت الشاطر بسبب عدم حصوله على «رد اعتبار» بعد تنفيذه أحكاما قضائية.
وعلى الفور قدمت الجماعة أوراق المرشح البديل عضو مكتب الإرشاد، محمد مرسى العياط، الذى اشتهر وقتئذ بـ «المرشح الاستبن»، وكانت النتيجة مفاجأة حيث نجح في الجولة الأولى الفريق أحمد شفيق آخر رئيس وزراء في حكومة مبارك، وعضو مكتب الإرشاد محمد مرسى.
كان الشارع السياسي المصري يعانى من اضطراب واضح وحالة من الضباب تسيطر على مستقبل الحياة السياسية، وراهن عدد كبير على مرشح الاخوان محمد مرسى نكاية في رجل مبارك الذى كان عند كثيرين يمثل «فلول مبارك»، إلا أنه على الطرف الآخر كان هناك من يرفض صعود الإخوان لحكم مصر.
وراح مرشح الإخوان يدغدغ مشاعر الشعب المصري ونجح في استقطاب من عرفوا وقتئذ بـ «عاصري الليمون» أي الذين سينتخبونه مضطرين، فالبديل هو عودة رجل مبارك.
أعلن مرسي «مشروع النهضة» حيث قدم من خلاله حلول جذرية لكل مشكلات مصر وأمراضها المزمنة، كمشاكل النظافة والمرور والوقود ورغيف الخبز والأمن.. .. إلخ.
وبتاريخ 14 يونيو 2012 أعلنت المحكمة الدستورية العليا حل مجلس الشعب، وعاد التشريع للمجلس العسكري، وانتهت الانتخابات، إلا أنه قبل انتهاء عمليات الفرز بدأت الجماعة تستبق الأحداث وتعلن أن مرشحها محمد مرسى هو الفائز، وبدأ إرهاب المجلس العسكري وأعضاء اللجنة الانتخابية، حيث تسربت خطط إحراق مصر كلها في حالة إعلان فوز أحمد شفيق، ووفقا للتصريحات التي نشرت بعد رحيل الجماعة فإن المشير طنطاوي والمجلس العسكري وضعوا بين خيارين من أصعب ما يمكن، إما الإعلان عن فوز مرشح الإخوان محمد مرسى حتى لو لم يكن هو الفائز، وبين تعرض البلاد لفوضى لا يمكن معرفة النتائج التي ستترتب علها، وكانت مؤشرات خطة إحراق مصر قد بدأت بالفعل، حيث احتشد خمسمائة من مليشيات الإخوان بميدان التحرير وهم يحملون أكفانهم، ويرددون أن مرسى هو الرئيس، وأنه إذا لم تعلن النتيجة بفوزه سيقومون بنسف المتحف المصري، والجامعة الأمريكية، وجامعة الدول العربية، ومجمع التحرير والمجمع العلمي.
وتكشفت الحقائق بعد ذلك، كانت النتيجة الحقيقية في جولة الإعادة لصالح أحمد شفيق، بفارق 1% أي حوالى 30 ألف صوت لكن اللجنة أعلنت فوز محمد مرسى بنسبة 51.73% مقابل 50.72%.
انفرجت أسارير الجماعة وازدادت ثقتها في قوتها، ها قد حانت اللحظة التاريخية التي لم تكن تحلم بها، وأصبحت تحكم مصر، وعلى الطرف الآخر، أصدر المجلس العسكري يوم 18 يونيو 2012 إعلانا دستوريا مكملا في محاولة لتقليص سلطات رئيس الجمهورية.
وتسلم الرئيس الإخوانى محمد مرسي العياط الحكم يوم 24 يونيو 2012، كان المشهد لا يزال مضطربا، احتفل عدد كبير من الإخوان وغيرهم بعدم فوز أحمد شفيق رجل مبارك، ولم يسترح عدد أكبر لفوز عضو مكتب الإرشاد.
وبدأت أحاديث الرئيس الإخواني وتصريحاته تستفز المصريين بعد أن نسب نفسه وجماعته للثورة، وبعدما أعلن أنه متحدث باسمها واسم الشباب، وأعلن أنه لن يحلف اليمين إلا أمام مجلس الشعب المنحل ثم تراجع، وحلف اليمين في ميدان التحرير أمام مؤيديه والإخوان في محاولة لتأكيد أن شرعيته مستمدة من الثورة والميدان، إلا أنه وتحت الضغط عاد واضطر لحلف اليمين أمام المحكمة الدستورية العليا، ولم يكن هذا التراجع هو التراجع الوحيد خلال السنة التي حكمها محمد مرسى، لقد ثبت أنه عديم الخبرة، وأن الحاكم الحقيقي هو مكتب الإرشاد.
ولم يتمكن مرسي من تحقيق مشروع النهضة الذى أعلن عنه، بل دفعت البلاد إلى فوضى رهيبة نتيجة للأخطاء التي ارتكبها، كان في مقدمة هذه الأخطاء، وبعد أسبوع واحد من تسلمه رئاسة مصر، قام بسحب القرار رقم 350 لعام 2012 الصادر عن المحكمة الدستورية العليا الذي قضى باعتبار مجلس الشعب منحلا، وأمر بعودة المجلس للانعقاد، لكنه سرعان ما تراجع عن قراره، وحاول أن يتخلص من النائب العام عبد المجيد محمود، ثم تراجع تحت ضغط نادى القضاة.
ونموذج آخر على إصداره قرارات متسرعة ثم رجوعه عنها، القرار الذى صدر يوم 30 أكتوبر 2012، بإغلاق المجال التجارية فى العاشرة مساء، ثم أعلن تأجيل تطبيق القرار، ثم أعيد التأكيد على أن قرار الإغلاق لا يزال ساريا.
وفى التاسع من ديسمبر أصدر قرارا بزيادة أسعار الخمر والمياه الغازية والغاز والكهرباء والسجائر، وغيرها من السلع، ولكنه سرعان ما تراجع عنه وأعيد للحكومة.
وفي الثاني من فبراير 2013، شهدت مدن القناة مظاهرات عنيفة بسبب صدور أحكام بالإعدام بشأن المتهمين في مجزرة بورسعيد الذي قتل فيها 72 شابا من أولتراس أهلاوي، عقب مباراة الأهلي والمصري، وأصدر مرسى قرارا بفرض حظر التجوال، لكن الأهالي سخروا من القرار ورفضوا تنفيذه، وأقاموا مباريات كرة القدم في الشوارع في أوقات الحظر تحديا له ولحكومته، فتراجع وخفض ساعات الحظر.
هكذا كانت السمة الغالبة ومنذ بداية الحكم (إصدار قرارات غير مدروسة ثم التراجع عنها).
بدأت النخبة التي «عصرت الليمون على نفسها» وانتخبته، تراجع نفسها، وتكتشف قدراته، وضبابية رؤيته.
اقرأ أيضاً«المستشار طاهر الخولي»: رجال القضاء تقدموا الصفوف الأولى لإزاحة الإخوان في ثورة 30 يونيو
بندوة «عهد جديد لوطن يستحق».. إعلام الدقهلية يحيي غدًا الأربعاء ذكرى ثورة 30 يونيو بحضور مصطفى بكري