جدلية الدولة والفكر.. هل تصنع سوريا الجديدة تاريخها أم يعيد التاريخ نفسه؟
تاريخ النشر: 8th, March 2025 GMT
مقدمة: لحظة ميلاد جديدة لسوريا
بعد أكثر من خمسين عامًا من الحكم الاستبدادي، تجد سوريا نفسها أمام فرصة تاريخية لإعادة البناء، ليس فقط في المؤسسات والهياكل السياسية، بل في الوعي المجتمعي والثقافة والفكر. لقد سقط النظام، لكن هل سقطت العقلية التي سمحت له بالبقاء لعقود؟
يرى ابن خلدون أن الدول تمر بمراحل متكررة من النشوء، الازدهار، ثم التراجع والانهيار، لكنه يؤكد أن الدولة التي تعتمد على العدل، الاقتصاد القوي، والعصبية الجامعة، تستطيع الاستمرار والنهوض مجددًا.
إذا كانت سوريا الجديدة تريد النجاح، فعليها أن تستفيد من قوانين العمران عند ابن خلدون، وقوة الفكرة عند الجاحظ، لتصنع نموذجًا مستدامًا لدولة تنهض، لا مجرد دولة تخرج من أزمة إلى أخرى.
1 ـ بناء الهوية الوطنية.. من العصبية الضيقة إلى الوحدة المجتمعية
أ ـ العصبية الجامعة: تجاوز الانقسامات نحو مشروع وطني
إذا كانت سوريا الجديدة تريد النجاح، فعليها أن تستفيد من قوانين العمران عند ابن خلدون، وقوة الفكرة عند الجاحظ، لتصنع نموذجًا مستدامًا لدولة تنهض، لا مجرد دولة تخرج من أزمة إلى أخرى.يرى ابن خلدون أن قوة الدول تعتمد على "العصبية الجامعة"، أي الرابط الذي يجمع الناس تحت مظلة مشروع مشترك، وليس حول زعيم فردي أو طائفة معينة.
لكن عندما تتحول العصبية إلى انتماء طائفي أو عرقي ضيق، تصبح أداة للانقسام بدلاً من أن تكون وسيلة لبناء الدولة.
في سوريا، استُخدم التنوع لتأجيج الفُرقة بدلاً من أن يكون مصدر قوة. الآن، الفرصة مواتية لإعادة تعريف الهوية الوطنية السورية، ليس على أساس العِرق أو الدين، بل على أساس المواطنة المتساوية.
ما المطلوب؟
ـ إعادة صياغة الهوية السورية في الإعلام والتعليم، بحيث تكون جامعة لا مفرّقة.
ـ تبنّي خطاب سياسي وإعلامي يركّز على القيم المشتركة، لا على الصراعات الطائفية القديمة.
ـ بناء نظام قانوني يضمن المساواة بين الجميع، بحيث يشعر كل مواطن أن له مكانًا في سوريا الجديدة.
ب ـ الفكرة تصنع الدولة: الجاحظ ودور الثقافة في التغيير
يرى الجاحظ أن المجتمع لا يتغير بالقوانين وحدها، بل بالأفكار التي تزرع في أذهان الناس. لذلك، فإن الثورة الفكرية ضرورية إلى جانب الثورة السياسية.
كيف نحقق ذلك؟
ـ استخدام الفن والأدب والإعلام في بناء هوية وطنية جديدة، لا مجرد إصدار قوانين جافة.
ـ تغيير المناهج الدراسية بحيث تعزز التفكير النقدي، لا التلقين السياسي.
ـ دعم وسائل الإعلام المستقلة التي تقدم خطابًا عقلانيًا ومستنيرًا بعيدًا عن التحريض والتضليل.
2 ـ العدل والقانون.. حجر الأساس لدولة مستقرة
أ ـ "الظلم مؤذن بخراب العمران".. كيف نؤسس عدالة انتقالية حقيقية؟
يرى ابن خلدون أن الظلم هو السبب الرئيسي في سقوط الدول، حيث إن الدولة التي تعتمد على القمع تفقد شرعيتها بمرور الوقت، وتصبح أكثر هشاشة.
ما المطلوب في سوريا الجديدة؟
ـ إطلاق عملية عدالة انتقالية تضمن محاسبة المتورطين في الجرائم، دون أن تتحول إلى انتقام سياسي.
ـ إصلاح القضاء ليكون مستقلاً، فلا يُستخدم كأداة سياسية.
ـ إعادة بناء مؤسسات الدولة على أساس النزاهة، لا الولاءات الشخصية.
ب ـ الحاكم ليس فوق القانون.. منع الاستبداد من العودة
يرى ابن خلدون أن الحاكم في بداية الدول يكون مصلحًا، لكن إذا لم توضع قيود دستورية، فإنه يتحول إلى مستبد مع الوقت.
كيف نمنع تكرار الاستبداد؟
ـ تحديد مدة الرئاسة ومنع تعديل الدستور لإطالة الحكم.
ـ توزيع السلطة بين الحكومة المركزية والإدارات المحلية لتجنب الاحتكار.
ـ ضمان حرية التعبير والإعلام ليكون سلطة رقابية حقيقية.
3 ـ الاقتصاد والعمران: كيف تبني سوريا دولة مزدهرة؟
أ ـ الاقتصاد المستدام هو أساس الاستقرار
يقول ابن خلدون: “الرخاء الاقتصادي يزيد من قوة الدولة، بينما يؤدي الفساد إلى انهيارها”.
في سوريا الجديدة، لا يمكن بناء دولة قوية إذا ظل الاقتصاد مرهونًا بشبكات الفساد والمحسوبية.
ما الحل؟
ـ تفكيك شبكات الفساد من خلال تحقيقات شفافة وعادلة.
ـ دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة حتى لا يكون الاقتصاد محتكرًا في يد فئة قليلة.ـ
ـ تحقيق تنمية متوازنة تشمل جميع المناطق السورية، وليس فقط المراكز الحضرية.
ب ـ من الدمار إلى العمران: إعادة بناء سوريا بروح جديدة
يرى ابن خلدون أن عمران المدن يعكس قوة الدولة، بينما الدمار يعكس ضعفها. إعادة إعمار سوريا يجب أن تكون مشروعًا وطنيًا شاملًا، لا مجرد عملية هندسية لإصلاح المباني.
ما الخطوات الضرورية؟
ـ تطوير البنية التحتية لتناسب المستقبل، وليس فقط ترميم ما تهدّم.
ـ إشراك المجتمع المحلي في قرارات الإعمار حتى لا تكون العملية مركزية وغير عادلة.
ـ ربط التنمية العمرانية بالاقتصاد والتعليم، بحيث تكون المدن مراكز إنتاج لا مجرد مساكن.
4 ـ التعليم والإعلام.. بناء جيل جديد يصنع الدولة لا يهدمها
أ ـ التعليم هو المحرك الحقيقي للنهضة
يرى ابن خلدون أن المعرفة والعلم هما أساس نهضة الأمم، وأن الدول التي تهمل التعليم سرعان ما تنهار.
في سوريا، استُخدم التنوع لتأجيج الفُرقة بدلاً من أن يكون مصدر قوة. الآن، الفرصة مواتية لإعادة تعريف الهوية الوطنية السورية، ليس على أساس العِرق أو الدين، بل على أساس المواطنة المتساوية.في سوريا الجديدة، إصلاح التعليم يجب أن يكون أولوية قصوى، لأن بناء العقول أهم من بناء المباني.
ـ ما الحل؟
ـ إعادة هيكلة المناهج الدراسية بحيث تعزز الإبداع والتفكير النقدي.
ـ تحسين جودة التعليم العالي وربط الجامعات بسوق العمل.
ـ رفع كفاءة المعلمين ليكونوا قادة تغيير، وليس مجرد ناقلين للمعلومات.
ب ـ الإعلام والثقافة كأدوات لصياغة وعي جديد
يرى الجاحظ أن الإعلام والثقافة هما أقوى أدوات التأثير على المجتمع، فإذا كانت الرسالة الإعلامية موجهة بشكل صحيح، يمكن أن تصنع نهضة فكرية حقيقية.
ما المطلوب؟
ـ إطلاق إعلام مستقل يعكس تنوع المجتمع السوري، لا إعلام موجه لخدمة السلطة.
ـ دعم الفنون والأدب كوسيلة لتعزيز الحوار والمصالحة الوطنية.
ـ تشجيع المبادرات الثقافية التي تعيد بناء الهوية الوطنية بعيدًا عن الانقسامات.
خاتمة.. دولة تنهض أم أزمة جديدة؟ القرار بأيدينا
يرى ابن خلدون أن الدول التي تستند إلى العدل والاقتصاد القوي والعصبية الجامعة تستمر، بينما الدول التي تقوم على الظلم والتفرقة والفساد تنهار.
ويؤكد الجاحظ أن أي تغيير سياسي لا يُصاحبه تغيير ثقافي وفكري سيظل سطحيًا وعرضة للانتكاس.
اليوم، سوريا أمام خيارين: إما أن تبني نموذجًا لدولة حديثة قائمة على القانون والوعي والتقدم، أو أن تصبح مجرد تجربة أخرى في قائمة الدول التي لم تتعلم من أخطائها.
المستقبل يُصنع الآن، والقرار بيد السوريين. فهل سنكون نموذجًا للنهضة، أم درسًا آخر في التاريخ عن الفرص الضائعة؟
*عضو الهيئة العليا للمفاوضات في سوريا سابقا
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه سوريا سوريا سياسة رأي تحولات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة من هنا وهناك صحافة مقالات سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی سوریا الجدیدة الهویة الوطنیة الدول التی على أساس أن الدول لا مجرد نموذج ا
إقرأ أيضاً:
صواريخ طهران ومسيرات صنعاء.. إسرائيل تحت صدمة أكبر هجوم في تاريخها الحديث.. وتحذيرات من انفجار إقليمي
في فجر يوم الأحد، دخلت المواجهة بين إيران وإسرائيل مرحلة جديدة من التصعيد، مع تنفيذ طهران لأعنف هجوم صاروخي منذ بدء الصراع المكشوف بين الطرفين، الأمر الذي دفع الشرق الأوسط مجددًا نحو حافة الاشتعال الشامل.
ولم يكن هذا مجرد تصعيدٍ تقليدي، بل بدا وكأنه استعراض لقوة نارية غير مسبوقة من جانب إيران، وسط عجز نسبي وواضح في التصدي الكامل للهجوم من قبل الدفاعات الجوية الإسرائيلية.
أسفر الهجوم الصاروخي الإيراني المباغت عن سقوط ما لا يقل عن 4 قتلى إسرائيليين، بينهم امرأة، إلى جانب أكثر من 200 مصاب، بعضهم بحالة خطرة، وفقًا لما أوردته وسائل الإعلام العبرية ومصادر طبية إسرائيلية.
وتركز القصف في منطقة تل أبيب الكبرى، وخاصة في مدينتي بات يام وروحوفوت، حيث سقطت صواريخ مباشرة على مبانٍ سكنية وسيارات وأهداف مدنية، مما أدى إلى تدمير واسع النطاق. واهتزت الأرض تحت أقدام سكان الوسط الإسرائيلي لأكثر من ثلاث دقائق متواصلة، وسط دوي صافرات الإنذار المتواصل وأصوات الانفجارات العنيفة.
مبانٍ مدمرة ومحاصرون تحت الأنقاضأفادت صحيفة "إسرائيل هيوم" بأن مبنى من عشرة طوابق في بات يام تضرر بالكامل جراء سقوط صاروخ مباشر، فيما لا يزال عدد من السكان محاصرين تحت الركام، ويقومون بالتواصل مع فرق الإنقاذ للإبلاغ عن أماكن وجودهم. وفي مدينة روحوفوت، وقع دمار جزئي في أحد البيوت، إلى جانب تحطم عشرات السيارات في مختلف أنحاء المنطقة.
كما تعرض معهد وايزمان للعلوم الشهير في المنطقة الوسطى لأضرار نتيجة الهجوم، وأظهرت صور نشرتها "نيويورك تايمز" اشتعال حريق في أحد مباني المختبرات. وأفادت تقارير عبرية بوجود عالقين داخل مباني المعهد حتى ساعات ما بعد الهجوم.
أكثر من 50 صاروخًا في موجة واحدةقدّرت السلطات الإسرائيلية أن إيران أطلقت أكثر من 50 صاروخًا باليستيًا في موجة واحدة من الهجوم خلال ساعات الصباح الأولى. ونقلت القناة 12 الإسرائيلية أن صفارات الإنذار دوّت في كافة أنحاء البلاد، مما دفع الملايين من الإسرائيليين إلى الفرار نحو الملاجئ وسط حالة من الهلع.
وصرّح الجيش الإسرائيلي بأن "ملايين المواطنين يركضون الآن نحو الملاجئ"، مؤكدًا أن الهجوم استهدف عشرات المدن والبلدات. وأضاف أن قوات الدفاع الجوي تعمل على "اعتراض وشن هجمات عند الضرورة للقضاء على التهديد"، لكنه أقر بأن "الدفاع ليس محكمًا بالكامل".
صواريخ من اليمن وطائرات مسيّرةلم يكن مصدر الهجوم مقتصرًا على إيران فقط، بل أكد الجيش الإسرائيلي رصد إطلاقات متزامنة من اليمن، بالتزامن مع وصول عشرات المسيّرات إلى الأجواء الإسرائيلية.
وفي الجنوب، أعلنت إسرائيل اعتراض مسيّرتين في إيلات، وأخرى في وادي عربة عند البحر الميت، ومسيّرة رابعة في منطقة بيسان شرق البلاد، ومحاولات اعتراض إضافية في جنوب طبريا. وقال الجيش في بيان رسمي: "سلاح الجو اعترض مسيّرات أُطلقت نحو أراضي الدولة، ويُرجح أن تكون من إيران".
كما أوردت وسائل إعلام عبرية أن إطلاق الصواريخ من إيران واليمن تم بالتنسيق مع هجوم الطائرات المسيّرة، ما يشير إلى عملية هجومية معقدة ومتكاملة خططت لها طهران بدقة.
توصيات طارئة من الجبهة الداخليةبالتزامن مع القصف، أصدرت قيادة الجبهة الداخلية الإسرائيلية تعليمات صارمة للسكان في شمال ووسط البلاد، طالبتهم فيها بالبقاء في أماكن محمية وتقليل الحركة وتجنب التجمعات الكبيرة، في ظل استمرار التهديدات الجوية.
ورغم تأكيدات إسرائيلية على أن "الجيش يعمل على التصدي للتهديدات"، إلا أن حجم الأضرار والخسائر البشرية وضع الدفاعات الإسرائيلية أمام تساؤلات جوهرية بشأن فاعليتها وجاهزيتها أمام هذا النوع من الهجمات المعقدة.
تصعيد غير مسبوق وتحول في قواعد الاشتباكيُعد هذا الهجوم تحوّلًا كبيرًا في طبيعة المواجهة بين إيران وإسرائيل. ففي حين كانت الضربات المتبادلة تتم سابقًا عبر وكلاء أو في ساحات غير مباشرة، فإن ضرب العمق الإسرائيلي من الأراضي الإيرانية وبالتنسيق مع الحوثيين في اليمن والمليشيات في المنطقة، يؤشر إلى مرحلة جديدة من التصعيد المفتوح.
ويعزز هذا الهجوم الاعتقاد بأن قواعد الاشتباك القديمة قد سقطت، وأن المواجهة قد تتجه إلى مزيد من التصعيد، سواء من خلال رد إسرائيلي مباشر على إيران أو عبر سلسلة من الضربات المتبادلة في مختلف الجبهات الإقليمية.
لا تزال إسرائيل تحت وقع الصدمة، وتحاول لملمة خسائرها البشرية والمادية، بينما تبقي يدها على الزناد في حالة تأهب قصوى. أما إيران، فقد وجّهت رسالة نارية مفادها أن الرد المباشر بات خيارًا حقيقيًا، وأن المعركة لم تعد على الأطراف فقط، بل قد تنتقل في أي لحظة إلى قلب العواصم. وما جرى فجر الأحد ليس سوى فصل من فصول المواجهة القادمة.