زيلينسكي يُسلِّم بكامل شروط ترامب
تاريخ النشر: 9th, March 2025 GMT
عبد النبي العكري
عاد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى عاصمة بلاده كييف من رحلته إلى العاصمة الأمريكية واشنطن؛ حيث الاجتماع المثير مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وغادرها مُبعدًا إلى لندن؛ حيث حضر القمة الأوروبية- الغربية المخصصة لقضية أوكرانيا والأمن الأوروبي والعلاقات الأمريكية الأوروبية.
واستقبل زيلينسكي في وطنه استقبال الأبطال؛ حيث ساد الاعتقاد أنه تمسَّك بكرامة ومصالح أوكرانيا في مواجهة ابتزاز وضغوط ترامب الرهيبة، وأن القمة الأوروبية الكندية قد وفَّرت له الدعم المطلوب في مقاومة الغزو الروسي والتهديد الأمريكي بوقف دعمها لأوكرانيا في هذه الحرب إن لم يوافق زيلينسكي على قبول خطة ترامب لتحقيق السلام في أوكرانيا من خلال مفاوضات ترامب مع بوتين وانخراط زيلينسكي لاحقًا بها، والقبول بما يتوصل إليه ترامب وبوتين.
إلى جانب الموقف الأوروبي الداعم لأوكرانيا كما جرى التعبير عنه في قمتيْ باريس ولندن، فقد عرض الاتحاد الأوروبي على أوكرانيا اتفاقية بالشراكة معها لتطوير الموارد الطبيعية دون إجحاف.
لكن التطورات التي تبعت مؤتمر لندن فاجأت الرأي العام العالمي وقلبت جميع التوقعات؛ فبعد يوم من رجوعه إلى كييف وفي يوم الثلاثاء 4 مارس 2025، عبَّر الرئيس زيلينسكي عن الأسف لمشاجرته في المكتب البيضاوي مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأسبوع الماضي، وقال إنه مُستعد للتوقيع على اتفاقية استثمار المعادن مع الولايات المتحدة في أي وقت وبأي صيغة مناسبة. واضاف قائلا إنه يرغب في "تصحيح الأمور" مع الرئيس الأمريكي، والعمل تحت "القيادة القوية" لدونالد ترامب لضمان تحقيق سلام دائم في أوكرانيا، كما دعا إلى "هدنة" في البحر والجو كخطوة أولى لإنهاء الحرب التي استمرت 3 سنوات، فما الذي جرى حتى قلب زيلينسكي موقفه وسلم كل أوراقه إلى ترامب؟!
تأتي تصريحات زيلينسكي هذه بعد يوم من تعليق ترامب لكل المساعدات العسكرية لأوكرانيا، كما إنها تمثل استجابة للشروط التي حددها البيت الأبيض لإنهاء الأزمة الدبلوماسية، وذلك بعد أن طلب مسؤولون أمريكيون من زيلينسكي أن يعتذر علنا لترامب ويوقع على اتفاق استثمار المعادن من أجل إعادة العلاقات الأمريكية الأوكرانية إلى ما كانت عليه؟
وسبق أن قال الرئيس الأوكراني إنه لا يرى سببا للاعتذار، بعد المواجهة القوية مع ترامب ونائبه جيه دي فانس عمَّا نُسب به في البيت الأبيض، قبل أن يتراجع عن موقفه بقوله "لم يسر اجتماعنا في واشنطن، في البيت الأبيض يوم الجمعة، بالطريقة التي كان من المفترض أن يكون عليها. من المؤسف أن يحدث بهذه الطريقة. لقد حان الوقت لتصحيح الأمور. نود أن يكون التعاون والتواصل في المستقبل بنَّاءً". فماذا جرى؟!
بعد انهيار المحادثات بين الوفدين الأوكراني برئاسة زيلينسكي والأمريكي برئاسة ترامب في البيت الأبيض ومغادره زيلينسكي ووفده مطرودًا من البيت الأبيض ثم سفره سريعًا من واشنطن إلى لندن، لم يسعَ ترامب لتهدئه الأمور مع زيلينسكي؛ بل العكس تمامًا. وبالرغم من الانتقادات التي وجهها أمريكيون وأوروبيون بقسوة لتعامل ترامب المُهين لزيلينسكي والوفد الأوكراني، إلّا ان كبار المسؤولين الأمريكيين بقيادة ترامب والإعلام الموالي له، واصلوا الضغوط على أوكرانيا وزيلينسكي تحديدًا. فقد أصرُّوا على اعتذار زيلينسكي لما اعتبروه إهانة للسلطة الأمريكية في أهم رموزها: البيت الأبيض. وتواتر نشر فصول من حياته السياسية مع ما رافقها من فساد، بما في ذلك إدعاء سرقة المليارات من المساعدات الأمريكية.
أصرَّ الأمريكيون على ضرورة توقيع زيلينسكي على اتفاقية استثمار المعادن المُجحِفة، مع عدم تقديم أية ضمانات أمنية أمريكية كما طلب زيلينسكي. وحتى بعد صدور بيان قمة لندن ومقترح قيام أوكرانيا وبريطانيا وفرنسا بصياغة مشروع للسلام في أوكرانيا وتقديمه للرئيس ترامب للاتفاق عليه، بحيث يكون مرجعا للمفاوضات مع روسيا بحضور هذه الأطراف، فإن ترامب وإدارته أصرَّا على ضرورة أن تقتصر المفاوضات على أمريكا وروسيا وتلتحق بها أوكرانيا للتوصل لاتفاقية سلام.
وبالطبع تواصلت مفاوضات التطبيع الروسية الأوكرانية. وفي خطوة خطيرة ذات مغزى وأصدر ترامب أمرًا تنفيذيًا لوزير دفاعه بيت هيجسيث بوقف جميع المساعدات والإمدادات العسكرية الأمريكية إلى أوكرانيا، بما فيها تلك التي في الطريق. ترامب وإدارته لم يتركا أي خيار أمام زيلينسكي سوى العودة إلى واشنطن للتوقيع على اتفاقية استثمار المعادن المجحفة وتفويض ترامب بقيادة مفاوضات السلام مع روسيا في تخلٍ كاملٍ عن السيادة الوطنية.
ومن الملاحظ أن ترامب وإدارته شكَّكا في شرعية حكم زيلينسكي لانتهاء ولايته رسميًا في 2024 وعدم إجراء انتخابات رئاسية، كما حركوا أنصارًا لهم في البرلمان الأوكراني لطرح الثقة في زيلينسكي.
أما الوجه الآخر لتطور الأحداث؛ فهو حقيقة ما جرى في مؤتمر لندن ومخرجاته. فمن المدهش أن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر والذي استضاف القمه الأوروبية، قد رحب بتصريحات زيلينسكي التي تراجع فيها عن مواقفه وأكد ثقته في قيادة ترامب لمفاوضات اتفاقية السلام في أوكرانيا. وقد اتضح أنه بالرغم من تعهدات القمة بدعم أوكرانيا في الحرب الدائرة مع روسيا، فإنها اشترطت مساندة أمريكا للقوات الأوروبية المزمع ارسالها إلى أوكرانيا، وهو ما رفضت أمريكا التعهد به، كما إنه- باستثناء بريطانيا وفرنسا- لم تتعهد أي من الدول الأوروبية الأخرى بإرسال قوات إلى أوكرانيا؛ بل إن إيطاليا رفضت ذلك صراحة.
بالنسبة لروسيا، فقد اعتبرت الن مفاوضاتها مع أمريكا استراتيجية وتتناول العلاقات الثنائية ولا تقتصر على الحرب في أوكرانيا. كما انها أوضحت بجلاء معارضتها كلية للطروحات الأوروبية مثل إرجاع الأراضي التي احتلها في شرق أوكرانيا أو مرابطة قوات سلام أوروبية في أوكرانيا؛ بل أن تكون أوكرانيا منزوعة السلاح. ومن الواضح ان تطبيع العلاقات يتقدم، وقد ذكر أن روسيا تضع في أولوياتها إلغاء العقوبات الأمريكية والغربية وإنهاء تجميد رؤوس الأموال والودائع والممتلكات الروسية لدى الغرب. وبالطبع فإن تطبيع العلاقات الروسية الأمريكية والمفاوضات الروسية الأمريكية تضعف الموقف الاوكراني والأوروبي.
لا شك أن زيلينسكي أدرك ما يترتب على هذه التطورات وكون أوكرانيا تخسر الحرب ولا تستطيع أصلا الاستمرار فيها بدون الدعم الأمريكي، وأن أوروبا مهما قدمت لا يمكن أن تعوض الدور الأمريكي، كما إنه قد يكون قد شعر بتهدد موقعه في السلطة إذا لم يسلم لأمريكا بما تريد.
إن تطورات القضية الأوكرانية وتراجع التحالف الأوروبي الأمريكي والتطبيع الروسي الأمريكي تعكس استراتيجية وعقيدة ترامب والطُغمة الأولجرشية الحاكمة من أصحاب المليارات بقيادة ترامب وإيلون ماسك، لها انعكاساتها الخطيرة والبعيدة المدى في أمريكا والعالم كمرحلة جديدة للرأسمالية في طور انحطاطها.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
السياسات الأمريكية والعبث بالنظام الاقتصادي العالمي
ترجمة: نهى مصطفى
يمر الاقتصاد العالمي بمرحلة من الاضطراب العميق. فحتى قبل الانتخابات الأمريكية الأخيرة، كان يواجه صدمات جيوسياسية متلاحقة، ويستعد لتحولات تكنولوجية قد تعيد رسم المشهد الاقتصادي بالكامل. أما اليوم، فقد أضيف إلى ذلك مستوى غير مألوف من التغيّر السياسي القادم من أقوى دولة في العالم، مما أدى إلى اهتزازات واسعة، لم تقتصر على الأسواق المالية، بل أصابت أيضًا خبراء الاقتصاد وواضعي السياسات بالتردد والارتباك.
وعلى مستوى أعمق، زعزعت هذه الاضطرابات الأسس التي بُنيت عليها السرديات التقليدية عن الولايات المتحدة. تراجعت الافتراضات المستقرة التي طالما وجهت قرارات الشركات والمستثمرين، وأصبحت القواعد العامة أقرب إلى أوهام قديمة منها إلى بوصلة يُعتد بها. في الوقت ذاته، تراجعت مؤشرات ثقة المستهلكين والمنتجين بشكل حاد، وارتفعت توقعات التضخم إلى مستويات لم تُسجل منذ عام 1981.
في ظل الغموض الراهن، يجد خبراء الاقتصاد صعوبة في التنبؤ بمستقبل الاقتصاد الأمريكي، لكن برز سيناريوهان رئيسيان: الأول يتوقع إعادة هيكلة اقتصادية شبيهة بعهد ريجان وتاتشر، والثاني يرجح ركودًا تضخميًّا شبيهًا بفترة جيمي كارتر.
ومهما كانت النتيجة، ستكون لها تبعات عالمية؛ نظرًا لأن الاقتصاد الأمريكي ظل لعقود في قلب النظام المالي العالمي، والدولار عملة احتياطية رئيسية. لذا، فإن أي تدهور في الوضع الأمريكي قد يمتد أثره إلى بقية العالم، وهو ما دفع كثيرًا من الحكومات إلى محاولة تقليل اعتمادها على سياسات واشنطن المتقلبة. فعلى سبيل المثال، تعمل أوروبا على تعزيز مكانتها الإقليمية، مع بناء علاقات اقتصادية جديدة وأكثر متانة مع أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. وفي الوقت ذاته، ترى الصين فرصة سانحة لترسيخ مكانتها كقوة اقتصادية عظمى ذات مصداقية. إلا أن هذه الجهود لا تزال تواجه عقبات معقدة؛ إذ لا توجد دولة أخرى تضاهي الولايات المتحدة في الثراء أو القوة لتأخذ مكانها.
مع تصاعد عدم الاستقرار، تحتاج الحكومات والشركات والمستثمرون إلى سرعة ومرونة أكبر، مع توافر رأسمال وقدرات بشرية قادرة على التكيّف. فالمرونة قد تساعدهم على تجاوز الأزمات والخروج أقوى، أما الجمود فقد يُهدد رفاه الأجيال الحالية والمقبلة.
رغم قوة الولايات المتحدة وازدهارها، فإن سياستها الاقتصادية والمالية باتت تشبه أحيانًا ممارسات دول نامية، مع فرض تعريفات جمركية مفاجئة، وقرارات انتقائية تشبه الامتيازات، في ظل عجز مالي متصاعد. وقد بات نهجها أقرب لما شهدته دول أمريكا اللاتينية منه إلى ما ينتظر من أقوى اقتصاد عالمي.
وكلما طال أمد هذا النهج، ازداد خطر تعرّض الاقتصاد الأمريكي لمشاكل تقليدية تواجهها الدول النامية. هناك بالفعل مؤشرات على خروج رؤوس الأموال، وتردد متزايد لدى المستثمرين الأجانب، وقلق متزايد بشأن استقلالية البنك المركزي. فبعد عقود من الهيمنة، سجلت الأسواق الأمريكية أداءً ضعيفًا في مطلع عام 2025. فقد الدولار، الذي كان قويًّا في السابق، جزءًا من قيمته، حتى مع ارتفاع العوائد المرتبطة بحيازته. كما تراجعت السياحة إلى حد كبير. ومن غير المرجح أن يتلاشى هذا الاضطراب قريبًا.
ترشح ترامب في 2024 متعهدًا بإعادة تشكيل الاقتصاد العالمي وسحب الحماية الأمريكية، وهو ينفذ وعوده بلا مؤشرات على التراجع. وقد أدت سياساته، مثل الرسوم الجمركية وضعف الدولار، إلى اضطراب عالمي كبير، في ظل غياب قيادة موثوقة توجه الدول وسط هذه المرحلة الانتقالية المعقدة.
قائمة الشكوك كثيرة ومقلقة، من تأثير الرسوم الجمركية على التجارة والتضخم، إلى قدرة البنوك المركزية، خصوصًا الاحتياطي الفيدرالي، على تحقيق التوازن بين السيطرة على الأسعار وتجنب الركود، وسط توتر متزايد بين ترامب وجيروم باول يهدد استقلالية البنك وثقة الأسواق.
لا أحد يعرف بعد تأثيرات انقطاعات سلاسل التوريد أو ما إذا كانت الدول ستجبر على الاختيار بين الصين وأمريكا. هذا الغموض يربك الحكومات ويعقد قرارات الشركات والمستثمرين، خاصة مع تفكك العلاقات التقليدية بين الأصول، وتراجع موثوقية الملاذات الآمنة، وضبابية مؤشرات العوائد والمخاطر، مما يجعل من الصعب اتخاذ قرارات استثمارية واضحة.
في محاولاتهم لفهم ما قد يحدث، انقسم الاقتصاديون إلى رؤيتين متطرفتين: الأولى، متفائلة بشأن المسار الحالي، تفترض أن إدارة ترامب ستنجح في تقليص حجم البيروقراطية، وإلغاء اللوائح غير الضرورية، وخفض الإنفاق، مما يؤدي إلى قيام حكومة أكثر كفاءة وأقل مديونية، وعودة النمو الاقتصادي. في ظل هذه الرؤية، سيتعافى الاقتصاد من الاضطرابات الراهنة، ويبرز قطاع خاص حر قادر على استثمار الابتكارات التي تعزز الإنتاجية، لا سيما في المجالات التي تتصدرها الولايات المتحدة مثل الذكاء الاصطناعي، وعلوم الحياة، والروبوتات، والحوسبة الكمومية مستقبلًا.
في هذا السيناريو، قد تبقى الرسوم الجمركية الأمريكية مرتفعة، لكن يُتوقع أن تؤدي إلى نظام تجاري أكثر عدالة تُخفّض فيه الدول الأخرى تعريفاتها وتتحمّل مزيدًا من أعباء السلع العامة. تتجاوز هذه الرؤية إصلاحات ريجان وتاتشر، إذ تدعو لإعادة ضبط شاملة للنظامين المحلي والعالمي.
لكن نجاح هذا المسار يتطلب ظروفًا مثالية: نموًا اقتصاديًّا سريعًا لتخفيف الديون، صبرًا من الأسواق تجاه الدولار وسندات الخزانة، وثقة دولية بالتزام واشنطن تجاريًّا رغم التوترات مع الصين. كما يجب أن يكون الاحتياطي الفيدرالي مستعدًا لخفض الفائدة، وهو ما يتطلب حل الخلاف بين ترامب وباول، سواء بالتنحي أو بانتظار انتهاء الولاية في مايو.
في السيناريو المتشائم، قد يحصل ترامب على خفض لأسعار الفائدة، لكن ليس بالطريقة التي يتمناها. في هذا السيناريو، تفشل واشنطن في كبح عجزها المالي، وتتراجع الثقة بمؤسساتها وسط مخاوف متزايدة بشأن سيادة القانون وتجاوزات السلطة. يظهر تخلٍّ تدريجي عن الالتزام بالمعايير الدولية، فيما تبدأ دول أخرى بإعادة تقييم موقعها في النظام العالمي، وتسعى للاعتماد على الذات وبناء تحالفات جديدة، مما يُثير قلق الولايات المتحدة اقتصاديًّا وأمنيًّا.
يعيد هذا السيناريو إلى الأذهان أزمة السبعينيات، حين تسببت صدمات العرض وارتفاع الأسعار وسوء السياسات في ركود عالمي. سيكون المشهد قاتمًا: تكاليف مرتفعة وضعف طلب للشركات، عوائد هشة للمستثمرين، وتراجع في القوة الشرائية والأمان الوظيفي للأسر. قد ينزلق العالم إلى ركود عميق يترك ندوبًا طويلة الأمد على الجيل الحالي والمقبل، وسط ديون متزايدة وتفاوت اجتماعي وأزمات مناخية. وفي ظل الغموض، يبقى كل من السيناريو المتفائل والمتشائم مطروحًا، إلى جانب احتمالات أخرى بينهما.
في بداية عام 2025، أشارت مؤشرات الأسواق إلى احتمالية تقارب 80% لانفراج إيجابي، مقابل 20% لاحتمال تفاقم الأوضاع. لكن هذه النسبة تراجعت إلى أقل من 50% في أوائل أبريل، بعد إعلان ترامب عن رسوم جمركية أعلى بكثير مما توقعت الأسواق. ثم ارتفعت التوقعات مجددًا بنهاية الشهر، مع ازدياد ثقة المستثمرين بأن قرار التأجيل لمدة 90 يومًا سيُفضي إلى رسوم يمكن إدارتها، من دون التسبب في صدمة كبرى للنظام التجاري العالمي.
ومع ذلك، يبقى هذا المزيج هشًّا ومتقلبًا بطبيعته، ومن المرجح أن يظل كذلك في المستقبل القريب. ومهما بلغت تطلعاتها، فقلّة من الجهات -سواء كانت حكومية أو خاصة- تستطيع تحصين نفسها بالكامل من موجات التقلب الاقتصادي المستمرة.
رغم التقلبات، هناك استراتيجيات ممكنة لتجاوز المرحلة، أبسطها المراهنة على استمرار الوضع كما كان. فقد تعافت الأسواق من تصريحات ترامب، وحققت المؤشرات الأمريكية مستويات قياسية، ما يفتح الباب لاحتمال تهدئة نسبية مع استمرار التصريحات والمفاوضات.
في هذه الأثناء، قد تقيد بكين صادراتها في آسيا لتجنّب إثارة قلق الدول من إغراق أسواقها بالسلع الصينية، كما فعلت اليابان قبل عقود عندما فرضت قيودًا طوعية على صادراتها. وقد تُعيد الصين النظر جذريًّا في نموذج نموّها، متخلية عن محركاته التقليدية -كالصادرات والاستثمار الحكومي- لصالح تنشيط الاستهلاك المحلي والاستثمار الخاص. لكن في ظل حالة عدم اليقين السائدة، قد لا تميل الشركات ولا الحكومات إلى المراهنة على تحقق مثل هذه النتيجة المتفائلة.
إذا أصبح الدور الأمريكي في النظامين الاقتصادي والمالي العالمي أكثر ضبابية وفوضوية بطبيعته، فسيكون على صنّاع القرار الاستعداد لعالم أكثر تجزؤًا، تزداد فيه المخاطر من حيث التكرار والحِدة. سنكون أمام واقعٍ يُهيمن عليه تقلب السياسات، واضطراب سلاسل التوريد العالمية، وتوتر أسواق الديون المالية.
وقد تسعى الدول إلى الحد من تعرّضها للمخاطر عبر خطوات تُعمق من الانقسام العالمي. وفي هذا السياق، ستشتدّ المنافسة بين بكين وواشنطن، فيما تحاول قلة من الدول المتأرجحة -مثل البرازيل والهند- الحفاظ على توازن في علاقاتها مع الطرفين. أما الغالبية، فستجد نفسها مضطرة للاختيار.
في ظل هذا الواقع المضطرب، ستحتاج القوى الكبرى إلى تحركات استثنائية. على أوروبا، بقيادة ألمانية أكثر جرأة، التغلب على ترددها بشأن الديون المشتركة وتوسيع صلاحيات بروكسل، مع إطلاق مبادرات دفاعية واقتصادية. الصين مطالبة بقبول التضحية بالنمو قصير الأجل مقابل إصلاحات هيكلية، أما دول مثل البرازيل والهند، فقد يدفعها السلوك الأمريكي المتقلّب إلى كسر الجمود وإطلاق إصلاحات بنيوية. وبالنسبة لأوروبا، قد يشكل هذا الاضطراب فرصة للمضي قدمًا في إصلاحات دراغي، وتعزيز الابتكار والإنتاجية، وتطوير سوق رأسمالية أكثر تجانسًا تُقلّل الاعتماد على الأصول الأمريكية.
رغم أن التغيير الجذري ضروري، فإنه محفوف بالمخاطر، والجمود له كلفته أيضًا. لذلك، قد يلجأ البعض إلى نهج وسط: تقليص انكشافهم على الولايات المتحدة تدريجيًّا وبهدوء، تفاديًا لأي تصعيد. وفي ظل عالم سريع التغير، سيتعيّن على كل جهة -حكومية أو خاصة- تحديد المسار الأنسب لها.
ولمواجهة التقلبات، يجب تعزيز المرونة المالية والتشغيلية والبشرية عبر:
- زيادة السيولة وتنويع سلاسل التوريد والمحافظ الاستثمارية.
- تطوير الكفاءات باستخدام أدوات جديدة، وتحسين الاتصال الداخلي والخارجي، كما ينبغي على صانعي القرار تعزيز قدرتهم على استشراف السيناريوهات المستقبلية، واختبار فعالية استراتيجياتهم، وتحديد مكامن الضعف المحتملة. ويعني ذلك تمكين الوحدات المحلية، والمسؤولين، والأفراد من إعداد الخطط واختبار السياسات بمرونة.
في أوقات عدم اليقين، تزداد قابلية الأفراد للوقوع في التحيزات المعرفية، ومنها «القصور الذاتي النشط» -أي إدراك الحاجة للتغيير، مع التمسك بالسلوك المعتاد. مثال بارز على ذلك شركة IBM، التي رغم إدراكها صعود الحواسيب الشخصية في الثمانينيات واتخاذها قرارًا بتحويل مواردها نحو هذا المجال، فشلت في التنفيذ بسبب تمسك إدارتها بالنهج التقليدي.
النتيجة: تفوقت عليها شركات منافسة، واضطُرت إلى إعادة تشكيل نموذجها لتصبح شركة خدمات، وفقدت ريادتها في قطاع التكنولوجيا.
يشهد العالم حالة غير مسبوقة من انعدام الأمن، مع تراجع استقرار الاقتصاد الأمريكي وضعف التنسيق العالمي، ما يهدد بتفكك النظام التجاري الدولي.
في هذا السياق، على صنّاع القرار التحلّي باليقظة والجرأة، وتجاوز الأدوات التقليدية في إدارة الاقتصاد والأعمال. ورغم صعوبة المرحلة، فإن مواجهة التحديات بمرونة وابتكار، مدعومة بابتكارات قادمة، قد تُمكّن العالم من الخروج من العاصفة أكثر قوة وازدهارًا.