هل تفتح أوروبا الآن أبوابها لتركيا؟
تاريخ النشر: 16th, March 2025 GMT
يعيش حلف شمال الأطلسي (الناتو) حالة من الضبابية لم تمر عليه منذ تأسيسه في أبريل/ نيسان 1949، في ظل حديث لا ينقطع عن نية الولايات المتحدة الانسحاب من الحلف، الذي تأسس لمواجهة خطر الاتحاد السوفياتي آنذاك، والمفارقة أن أوروبا تواجه اليوم أخطارًا أمنية متزايدة من روسيا، وريثة الإمبراطورية الشيوعية البائدة.
هذه الضبابية التي يعيشها الحلف على وقع تصريحات متفرّقة من الرئيس الأميركي، دونالد ترامب ومن معاونيه، دفعت القارة الأوروبية إلى البحث عن تأسيس منظومة جديدة للأمن والدفاع، بعيدًا عن المظلة الأميركية التي أظلت أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن.
لكن قرار الاعتماد على النفس، ليس بالقرار السهل للأوروبيين، إذ يتعلق الأمر بزيادة النفقات العسكرية، ودعم الصناعات الدفاعية، وإعداد تصور إستراتيجي لمستقبل القارة العسكري، بحسب ما أقرته السياسة الدفاعية الجديدة التي اعتمدها المجلس الأوروبي خلال قمته الاستثنائية في بروكسل الشهر الجاري.
من هنا كان قرار الاتحاد الاستعانة بأعضاء من خارجه للمساهمة في تدعيم المشروع الأمني الجديد، حيث وقع الاختيار على بريطانيا وتركيا.
تحركات أوروبيةمنذ مطلع مارس/ آذار الجاري، كان واضحًا أن التحركات الأوروبية لدعم أوكرانيا، وبحث المنظومة الدفاعية في القارة العجوز، حرصت على جذب تركيا إلى الدوائر النقاشية.
إعلانحيث استضافت بريطانيا قمة أوروبية استثنائية، بمشاركة 10 قادة أوروبيين، إضافة إلى كندا وتركيا، التي مثلها وزير الخارجية، هاكان فيدان، إضافة إلى ممثلين عن الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
وبعدها بأيام قليلة شاركت تركيا في اجتماع "الدول ذات التفكير المماثل" الذي نظمه الاتحاد الأوروبي، حيث شارك فيه زعماء أوروبيون، ورئيس وزراء كندا، إضافة إلى الرئيس التركي.
حيث أكد أردوغان في كلمته التي ألقاها عبر الإنترنت، أن "التحديات الراهنة كشفت مرة أخرى مدى أهمية العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي بالنسبة للأمن الاقتصادي والدفاعي لأوروبا".
كما أشار إلى قدرة بلاده على لعب دور مؤثر في الصراع الروسي الأوكراني، بما في ذلك استضافة مفاوضات سلام بين الطرفين، خاصة أن تركيا تمتلك خبرة في هذا الجانب ونجحت عام 2022 في الوساطة بين الطرفين والتوصل إلى اتفاق، تم إفشاله سريعًا بواسطة رئيس الوزراء البريطاني السابق، بوريس جونسون.
لكن الملاحظ أن الرئيس التركي لم يعرض خدمات مجانية للأوروبيين، فقد أعلن في المقابل تمسك بلاده بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وإلغاء استبعاد تركيا من برامج إمدادات المنتجات الدفاعية للاتحاد الأوروبي وإعادة الإعمار في أوكرانيا.
وأضاف أردوغان "أنه من مصلحة الطرفين التصرف بمنظور إستراتيجي طويل الأمد في العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي".
إذن هناك قناعة لدى أنقرة أنه لا يمكن لأوروبا تأسيس منظومة أمنية جديدة بدونها، وبحسب تعبير الوزير هاكان فيدان فإنه: "لا يُمكن بناء هيكل أمني مستدام ورادع للاتحاد الأوروبي إلا بمشاركة تركيا".
توسك في أنقرةيقول المثل البولندي القديم: " إذا لم تشرب الخيول التركية من مياه نهر فيستولا، فلن يتم إنقاذ بولندا"، هذا المثل يعكس عمق الروابط التي تجمع شعبَي البلدين منذ عهد الدولة العثمانية.
إعلانومن هنا كانت مبادرة، رئيس الوزراء البولندي، دونالد توسك، بزيارة أنقرة في 12 مارس/ آذار الجاري، لبحث الترتيبات الأمنية الأوروبية مع أردوغان، خاصة أن توسك كان رئيسًا للمجلس الأوروبي، عندما تفاوض مع تركيا بشأن اتفاق عام 2016 للحد من تدفق اللاجئين إلى أوروبا.
توسك كان صريحًا وواضحًا وهو يطلب من أردوغان "أن يتحمل أكبر قدر ممكن من المسؤولية عن استقرار المنطقة"، مؤكدًا أن "تخطيط أوروبا لكافة الخطوات المتعلقة بأمن القارة بالتعاون مع تركيا سيكون في مصلحة الجانبين".
لكنه كان من الذكاء بمكان بحيث لم يتجاهل المطلب الرئيس لتركيا حيث قال: "نريد أن تصبح تركيا عضوًا في الاتحاد الأوروبي".
هذا الإلحاح الأوروبي على جذب الأتراك إلى منظومتهم الأمنية المرتقبة يثير تساؤلًا عما يمكن أن تقدمه تركيا لأمن القارة الأوروبية.
تركيا والأمن الأوروبيمنذ قمة الاتحاد الأوروبي في هلسنكي، ديسمبر/ كانون الأول 1999 وتركيا تحمل صفة "دولة مرشحة" للانضمام للاتحاد، ولكن منذ ذلك الحين لم يحرز الملف تقدمًا ملحوظًا.
لكن من جهة أخرى، فإن من الخطأ اختزال علاقة تركيا بأوروبا في ملف الانضمام للاتحاد، إذ يرتبط الجانبان بعلاقات جغرافية وأمنية وسياسية لا يمكن تجاوزها.
فرغم أن كثيرين يصنفون تركيا دولة آسيوية، باعتبار أن الجزء الأكبر من أراضيها (الأناضول) يقع في الجانب الآسيوي، فإنه لا يمكن إنكار أنه لا يمكن الفصل طبيعيًا بين آسيا وأوروبا، إذ تعتمد عوامل الفصل على محددات ثقافية وسياسية واقتصادية أكثر منها جغرافية.
كما تتداخل جغرافية تركيا مع نظيرتها الأوروبية باعتبارات عدة، حيث تضم تركيا منطقة شرق تراقيا ما يجعلها تصنف دولة بلقانية، كما أن إطلالتها على بحر إيجه وشرق المتوسط تجعل منها دولة جنوب أوروبية.
وعلى المستويين؛ السياسي والأمني تعد تركيا دولة مؤسسة للعديد من الهياكل الأوروبية ذات الأهمية، مثل منظمة الأمن والتعاون الأوروبي، التي يتولى أمانتها العامة الآن الدبلوماسي التركي، فريدون سينيرلي أوغلو.
إعلانكما ساهمت تركيا في تعزيز الأمن في دول أوروبا الغربية، خلال سنوات الحرب الباردة، عبر عضويتها المبكرة والفعالة في حلف شمال الأطلسي.
لكن السنوات التي أعقبت انتهاء الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفياتي، وحلف وارسو، قادت إلى تهميش الأهمية التركية لحلف الناتو والأمن الأوروبي، بتراجع أهمية الحدود الجنوبية للحلف وأوروبا.
أما اليوم فتتجدد الحاجة لتركيا، للمساهمة في حفظ أمن القارة الأوروبية، فهي تمتلك ثاني أكبر قوات برية في الناتو بتعداد يتجاوز 750 ألف جندي عامل واحتياطي.
لكن الأهم من العدد، كما يقول فيدان، أنّ هذا الجيش"يمتلك عناصر ومعدات قتالية تم اختبارها في ساحة المعركة. فكم عدد الجيوش التي يمكن تكوينها في أوروبا وتتمتع بهذه الخبرة؟" والتساؤل هنا للوزير التركي.
كما أنّه بحسب موقع جلوبال فاير باور، يحتل الجيش التركي المركز التاسع ضمن أفضل عشر قوى عسكرية عالمية لعام 2025.
وفي مجال الصناعات الدفاعية، حسب تقرير لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، فقد ارتفعت حصة الشركات التركية في الصادرات العالمية للأسلحة من 0.8% خلال الفترة بين 2015 و2019 إلى 1.7% بين 2020 و2024، ما جعلها تحتل اليوم المرتبة الحادية عشرة في صادرات الدفاع العالمية بحسب إعلان أردوغان.
وفي الملف الأوكراني، رغم سياسة الحياد التي انتهجتها أنقرة منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، فإن ذلك لم يحُل دون تزويدها كييف بالطائرات المسيرة والقذائف.
كما أغلقت تركيا مضائقها وأجواءها، أمام السفن والطائرات العسكرية الروسية، وقادت بالاشتراك مع رومانيا وبلغاريا، قوة لكشف الألغام في البحر الأسود دون السماح بمشاركة أي قوى خارجية.
كذلك أعلنت تركيا استعدادها المساهمة في أي قوة دولية لحفظ السلام في أوكرانيا، خلال المرحلة المقبلة.
إعلانوعلى الصعيد الإنساني نجحت تركيا في التوصل إلى اتفاقية تصدير الحبوب من روسيا وأوكرانيا عام 2022، تحت رعاية الأمم المتحدة.
إذن فتركيا تمتلك فعليًا ما يمكن أن تقدمه للقارة العجوز في ملفَّي الأمن ودعم أوكرانيا، فما الذي يمكن أن تقدمه أوروبا لتركيا؟
ماذا لدى الاتحاد الأوروبي؟تقديري أن قبول عضوية كاملة لتركيا في الاتحاد الأوروبي أمر بالغ الصعوبة حاليًا، فبعيدًا عن الأسباب الجيوثقافية، فلا تزال هناك ملفات عالقة تحول دون ذلك الآن، وأهمها ملف العلاقات التركية اليونانية، التي يصعب تطبيعها الآن؛ بسبب ملفَّي جزر بحر إيجه، والتنقيب عن الغاز والثروات المعدنية شرق البحر المتوسط.
أيضًا تلعب الأزمة القبرصية دورًا ضاغطًا في عدم إنجاز الانضمام، إذ تملك كل من اليونان وإدارة قبرص الجنوبية حق الاعتراض داخل الاتحاد، وتعطيل انضمام تركيا.
لكن مع ذلك، فالاتحاد الأوروبي يمكنه منح تركيا بعض الامتيازات والفرص، مثل إنهاء جميع العقوبات السالبة المتعلقة بتصدير الصناعات الدفاعية إليها، وإنهاء استبعادها من الشراكات الأمنية بين الاتحاد وحلف الناتو، كذلك إدراجها ضمن الدول المشاركة في التعاون الهيكلي الدائم المعروف باسم PESCO، وهو تجمع يهدف إلى تعميق التعاون الدفاعي بين دول الاتحاد الأوروبي.
على المستوى الاقتصادى، فإنه يمكن للاتحاد الاستجابة لطلب تركيا المُلح والمتكرر، بتحديث اتفاقية الاتحاد الجمركي.
أيضًا فإن تركيا تحتاج اليوم إلى إنهاء أزمة تأشيرات منطقة "شنغن" والتي كانت مدرجة ضمن اتفاقية اللاجئين الموقعة بين الطرفين، لكن لم يفِ بها الاتحاد حتى اليوم، وتفاقمت الأزمة في ظل الرفض المتزايد لمنح التأشيرة للمواطنين الأتراك.
وأخيرًا فإن التوافقات التركية الأوروبية بشأن الأمن والدفاع، لن تكون نهاية المطاف، فلربما تضع أنقرة أمام تحديات جديدة في مواجهة الولايات المتحدة وروسيا على حد سواء.
إعلانالآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات رمضان الاتحاد الأوروبی ترکیا فی لا یمکن
إقرأ أيضاً:
يوم الحساب للمستعمر: كيف تفتح حرب إسرائيل على إيران جراحا قديمة؟
بينما يتبدد وهم الحصانة من المساءلة والحساب لديها، تشعل تل أبيب ناراً لن يكون بوسعها إطفاؤها. ما لبثت طهران تستعد منذ عقود لهذه اللحظة.
لم تعد إسرائيل تخفي جرائمها. فها هي تشن حرب إبادة جماعية في غزة – تدمر المستشفيات والمدارس والمساجد ومجمعات الشقق السكانية، حتى تجاوز عدد من قتلوا حتى الآن 55 ألف إنسان، فيما يخنق الحصار التام القطاع المدمر.
يمشون على الأقدام أميالاً وسط الركام، منهكين جوعى، حتى إذا لاحت لهم في الأفق شاحنات المساعدات، هرعوا إليها.. بعضهم يعود بكيس طحين بينما يعود آخرون بجثث ذويهم وقد تخضبت بالدماء – بعدما أجهز عليهم الرصاص والقصف وهم يبحثون عن بضع حبيبات يقتاتون منها.
وما غزة سوى جبهة واحدة.
لبنان جبهة أخرى تعيث فيها إسرائيل قتلاً وتدميراً – تقصف المنازل، تغتال عبر الحدود، تحتل القرى التي لم تغادرها منذ أن اجتاحتها. تحتل مرتفعات الجولان، وتتوسع في الأعماق من جنوب سوريا، وتطلق الصواريخ على ضواحي دمشق.
الحدود لا تعني شيئاً. القوانين لا تعني شيئاً. تنطلق إسرائيل حيث تريد، وتفتك بمن تريد.
وها هي الآن تتجه نحو إيران.
بعد المحادثات غير المباشرة بين طهران وواشنطن في عُمان، شنت إسرائيل على حين غرة حرباً على إيران. في البداية كانت الاغتيالات، التي طالت القادة العسكريين والعلماء والمسؤولين المدنيين. ثم جاءت الضربات الجوية: على المواقع العسكرية، وعلى محطات توليد الطاقة، وعلى المطارات – وحتى على البنية التحتية العامة. والمبرر؟ برنامج إيران النووي السلمي، الذي يخضع للرصد التام من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
النفاق الغربي
إنه لنفاق مذهل حقا.
سارع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الوقوف إلى جانب إسرائيل موكداً على أن برنامج إيران النووي يشكل تهديداً للأمن العالمي – هذا الكلام يصدر عن نفس فرنسا التي ساعدت سراً إسرائيل في بناء مفاعلها النووي في ديمونا في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ممكنة بذلك إسرائيل من امتلاك الترسانة النووية الوحيدة غير المعلنة في المنطقة، في انتهاك سافر للقانون الدولي. فلا عمليات تفتيش، ولا رقابة، ولا محاسبة.
يعتقد بأن إسرائيل تمتلك الآن ما بين 80 إلى 90 رأساً نووياً، إلى جانب القدرة على توجيه ضربة ثانية عبر الغواصات والطائرات. وهي ترفض الخضوع لعمليات تفتيش، ولم يسبق أن وقعت على معاهدة منع انتشارالسلاح النووي. ومع ذلك تقصف إيران بلا هوادة بحجة منع انتشار السلاح النووي.
سرعان ما لحقت بريطانيا بفرنسا، فبعثت بطائرات مقاتلة تابعة لسلاح الجو الملكي إلى الشرق الأوسط لمساندة إسرائيل. ثم صعدت الولايات المتحدة أكثر بتحريك مدمرتين باتجاه شرقي البحر المتوسط، وتعزيز شحنات الأسلحة، وتنسيق العمليات العسكرية مع إسرائيل أولاً بأول.
واشنطن ليست متفرجا، بل مشارك فعلي في الحزب الدائرة ضد إيران.
أما المفوضية الأوروبية، فأنبرت تجتر ذات المقولات البالية "لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها"، حتى وهي المعتدية، حتى وإيران هي من تدفع عن نفسها في وجه عدوان أجنبي.
نفس المعزوفة التي تستخدم لتبرير الإبادة الجماعية في غزة، نفس التستر على الجرائم، فالقانون الدولي وجميع الأعراف الإنسانية تُعطل حين يتعلق الأمر بإسرائيل.
يستمر الغرب في تسليحها وتزويدها بكل احتياجاتها – ليس من أجل حماية المدنيين وإنما من أجل الهيمنة على المنطقة. من أجل ضمان بقاء إسرائيل قوة نووية وحيدة. من أجل السيطرة، والسحق والتمدد.
لنكن واضحين: إسرائيل لم تكن مجرد دولة. لقد صنعت كمستعمرة استيطانية غربية من لتحل محل الامبراطوريتين المنسحبتين من المنطقة: بريطانيا وفرنسا. تسحب بريطانيا قواتها، ولكنها لا تتنازل عن طموحاتها. ثم دخلت الولايات المتحدة على الخط، وتسلمت مهام إدارة شؤون المنطقة. تبدلت العناوين، لكن الأهداف نفسها: إخضاع المنطقة، وسلب ثرواتها، وإسكات شعوبها.
ولكن هذه المرة يُمني كتاب إرشادات اللعبة بالفشل.
عالم عربي ساخط
يحكم إسرائيل الآن حفنة من المهووسين، الذي لا يتورعون عن الحديث عن هوسهم على الملأ ولا عن التفاخر به. وزراء يهددون بالاستئصال ومستوطنون يشيدون بالإبادة الجماعية وجنود يصورون أنفسهم وهم يساوون بالأرض مجمعات سكنية كاملة، ويعرضون الملابس الداخلية للنساء اللواتي شردوهن أو قتلوهن. عائلات مدفونة تحت أكوام من الخرسانة، وأطفال خلت منهم فصولهم الدراسية – وكل ذلك باسم "الأمن".
في القدس يتعرض المسجد الأقصى، أحد أقدس الأماكن الإسلامية، للاجتياح المرة تلو الأخرى. تسير عصابات من الغوغائيين الإسرائيليين في الطرقات هاتفة: "عسى أن تحترق قراكم." يحتفلون بتدمير المدارس في غزة.
في الأثناء، يقف أمام الكاميرات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، مهندس نظام الفصل العنصري ومهندس الحرب، ليزعم بأنه يدافع عن "العالم الحر".
يتابع الناس عبر العالم العربي ما يجري – بمرارة واشمئزاز وسخط عارم. يصافح زعماؤهم أيادي مجرمي الحرب، ويطبعون بينما تحرق إسرائيل البشر والحجر، في منطقة باتت مشلولة، لا حول لها ولا قوة.
حتى الآن، حتى برز لإسرائيل من يقف لها بالمرصاد.
إيران ليست غزة. بل هي دولة ذات سيادة يعيش فيها ما يقرب من تسعين مليون نسمة، وتمتد على رقعة مساحتها 1.65 مليون كيلومتر مربع. تحبط تضاريسها الغزاة، ويمتص عمقها الهجمات، وتصل صواريخها إلى أعماق إسرائيل. تعرضت للحصار وللعقوبات، ولأعمال التخريب وللاغتيالات –ومازالت واقفة، ترد لهم الصاع صاعين.
للمرة الأولى منذ عام 1948 تجد المدن الإسرائيلية نفسها تحت وطأة القصف المستمر.
لقد تبدد وهم الحصانة الكاملة.
لا يمكن لإسرائيل ادعاء أنها الضحية – ليس عندما تكون لديها القنابل والرؤوس النووية، وتحظى بدعم كل القوى الغربية. ليس عندما تكون قد أمضت عقوداً وهي تهاجم الآخرين وهي في مأمن من المساءلة والعقاب.
فتح الجراح القديمة
بالفعل، لقد بددت مقاومة إيران الأوهام: أسطورة إسرائيل التي لا تهزم، والتزام المنطقة الصمت، وكذبة الحياد الغربي.
حتى من كانوا يوماً معادين لإيران انطلاقاً من ذرائع طائفية أو سياسية، ها هم اليوم يشجعون – ليس لأن إيران خالية من العيوب، ولكن لأن أحدا ما، أخيرا، هب ليقول كفى!
وفي داخل إيران انبعث شيء أعمق. لقد فتقت هذه الحرب وفتحت جراحاً قديمة.
معظم الناس يعلمون ما حدث في عام 1953 عندما نظمت المخابرات الأمريكية سي آي إيه والمخابرات البريطانية إم آي سيكس انقلاباً ضد رئيس الوزراء محمد مصدق بعد أن أمم النفط الإيراني. أسقطت عملية أجاكس حكومة منتخبة ديمقراطياً وأعادت إلى السلطة محمد رضا شاه، الدكتاتور الموالي للغرب. ما تبع ذلك كان خمسة وعشرين عاماً من القمع على يد عناصر السافاك، البوليس السري، الذين تلقوا تسليحهم وتدريبهم من قبل الغرب.
ولكن الجراح تعود إلى ما هو أقدم من ذلك.
في مطلع عقد التسعينيات من القرن التاسع عشر، هز تمرد الإمبراطورية بعد أن سلم الشاه السيطرة على قطاع التبغ الإيراني بأسره إلى شركة بريطانية. حينها، نظم الإيرانيون بزعامة رجال الدين، من مثل آية الله شيرازي، مقاطعة وطنية، أفضى ذلك في نهاية المطاف إلى إلغاء الامتيازات الممنوحة للشركة. أضعف التمرد حكم سلالة القاجار وغرس في الذاكرة الجمعية لإيران درساً لافحاً مفاده: عدم الخضوع ثانية للسيطرة الأجنبية.
مازالت تلك الذاكرة حية – يتردد صداها في كل هتاف، في كل احتجاج، وفي كل جنازة.
كل صاروخ يُطلق اليوم يحمل معه عبء قرن من الإذلال والغدر والمقاومة.
راج مؤخرا مقطع فيديو، انتشر كالنار في الهشيم، تظهر فيها امرأة حاسرة الرأس، صوتها يهدر غضباً، تندد بالإبادة الجماعية في غزة، وبصمت الغرب إزاء ذلك، وبعقود من الامتهان الذي تعرض له بلدها، ثم تصرخ بأعلى صوتها: "نحن نريد قنبلة نووية."
لا يتعلق الأمر بالتدمير، وإنما بالكرامة، والتصميم على "ألا ننكسر مجددا".
هذا ليس مجرد صراع عسكري، وإنما محاسبة تاريخية، وتفجر سيكولوجي.
إيران لا تنتقم فحسب، وإنما تتذكر.
وها هو التغير ينتشر.
التشبث بالهوس
أطلقت باكستان، البلد الوحيد ذو الأغلبية المسلمة الذي يمتلك أسلحة نووية، صفارة الإنذار. فقد حذر وزير دفاعها من أن المنطقة على شفا الهاوية، وأن باكستان قد تكون التالية. وإذ تعمق إسرائيل تحالفها مع الهند، فإن باكستان بإمكانها استشراف ما هو آت.
وتركيا هي الأخرى على أهبة الاستعداد، حيث حذر الرئيس رجب طيب أردوغان في العام الماضي من أن إسرائيل قد "تضع عينيها" على بلاده إذا لم يتم وقفها عند حدها. تبع ذلك تصريح نتنياهو أمام الكنيست بأن "الإمبراطورية العثمانية لن تنبعث من جديد في أي وقت قريب." ليس هذا درساً في التاريخ، بل تهديد واضح. تعلم تركيا أن ما يجري الآن لا يتعلق بإيران وحدها، بل إنها حملة غايتها التأكيد على الهيمنة على المنطقة بكل مكوناتها.
اليوم، تؤمن إسرائيل، التي تحظى بدعم غربي وقوة لا رادع لها، بأن بإمكانها أن تخضع العالم الإسلامي بأسره: تقصفه، تجوعه، تمزقه، وتهينه.
ولكن المنطقة في صحوة. هذه حرب حول الكرامة، حول فكرة أن بإمكان أي كان في هنا الوقوف منتصب القامة مرفوع الهامة.
ومع ذلك، مازال الغرب معلقا بأوهامه وأحلامه. بعيد الضربات الأولى على طهران، أجرت البي بي سي مقابلة مع ابن الشاه، وسألته عما إذا كانت الهجمات الإسرائيلية قد "تحرر" إيران. وكأن الإيرانيين ينتظرون أن يأتي لإنقاذهم ابن الدكتاتور – الدكتاتور الذي أسقطوه بأنفسهم. وكأن "الحرية" تولد بين الصواريخ وأطماع الملوك.
خُيل لإسرائيل أن بإمكانها تكرار الماضي: أن تغتال، وتقصف، ثم تدعي النصر لنفسها. لكن لهيب النيران اليوم يضطرم في تل أبيب، وحيفا، وعسقلان.
الحرب اخترقت العمق الإسرائيلي، لتبدد وهم الحصانة.
إيران قادرة على التحمل والاستمرار، وهي التي ما لبثت تعد لهذه اللحظة منذ عقود. لقد ولى حلم إسرائيل بأن بإمكانها تدميرها في أيام من غير رجعة.
أشعلت تل أبيب ناراً هي عاجزة عن احتوائها. وماذا عن الغرب؟ هاهو يقف مجددا من خلف إسرائيل – نزع عنه قناعه، ومضى يسلحها، يحصنها، ويستخدمها لمآربه. لا من أجل السلام أو العدل، بل من أجل السيطرة.
ولكن المنطقة هذه المرة يقظة. ويوم الحساب قد حل.
التاريخ يمضي، وقد لا تكون وجهته لصالح الغرب.
ميدل إيست آي