استفاق السودانيون، أمس الاثنين، على فاجعة مروعة، مع توارد أنباء وصور تظهر الدمار الذي حل بالمتحف القومي في الخرطوم، أحد أبرز المعالم التاريخية في البلاد، والذي كان يضم بين جنباته إرثا حضاريا يمتد لآلاف السنين.
وبدا المشهد قاتما، قاعات خاوية، تماثيل محطمة، وماضٍ سحقته آلة الحرب بلا هوادة.
وعلى وقع هذا الدمار، ضجّت منصات التواصل الاجتماعي بحالة من الحزن والغضب، حيث وجّهت أصابع الاتهام لقوات “الدعم السريع” التي تسيطر على المتحف منذ اندلاع الحرب قبل عامين.

أنقذوا آثار السودان
ووصف البعض ما حدث بأنها “مذبحة للتاريخ”، في وقت كان فيه المتحف يُعدّ من أبرز خزائن التراث السوداني، محتضنا قطعا أثرية تعود إلى عصور مختلفة، بدءا من العصر الحجري، مرورا بحضارات كرمة ونبتا ومروي، وصولا إلى الفترات المسيحية والإسلامية. أصبح اليوم ” خاويا على عروشه”.
وفي خضم هذه المأساة المرعبة ، أطلق ناشطون ومهتمون بالآثار وسم #أنقذوا_آثار_السودان في محاولة للفت أنظار العالم إلى الكارثة الأثرية غير المسبوقة التي يشهدها السودان، وللضغط من أجل اتخاذ خطوات فاعلة لحماية ما تبقى من إرثه الثقافي.

كارثة أثرية غير مسبوقة في السودان.. نهب وتدمير ممنهج للمتحف القومي
وصفت الدكتورة إخلاص عبد اللطيف، مسؤولة المتاحف بهيئة الآثار والمتاحف السودانية، في حديثها لـ”العربية.نت”/”الحدث.نت”، ما حدث بأنه “كارثة تاريخية بكل المقاييس”، مؤكدة أن ما يقارب 90% من المقتنيات الأثرية تعرضت للدمار في واحدة من أبشع عمليات النهب والتخريب التي شهدتها البلاد.
وأضافت عبد اللطيف، بمرارة وحزن، أن المعتدين لم يكتفوا بسرقة الكنوز الأثرية، بل استولوا على الذهب المحفوظ بعد تحطيم أقفاله. وفي مشهد يعكس نية واضحة للتدمير الممنهج، عمدوا إلى إلقاء ما تبقى من القطع الأثرية على الأرض وسحقها بأقدامهم، وكأن الهدف لم يكن مجرد السرقة بل طمس الهوية ومحو التاريخ.
ولم تقتصر أعمال التخريب على نهب المقتنيات بل امتدت إلى مباني هيئة الآثار والمتاحف، حيث تم تدمير الأثاث والأجهزة بالكامل، بما في ذلك أجهزة الحاسوب، في محاولة واضحة لمحو أي أثر للمؤسسة التي تعد الحارس على تاريخ الأمة.
ووفقا للتقييم الأولي للجنة المختصة التي زارت المتحف، فإن حجم الدمار هائل، والعبث طال كل شيء تقريبا.
وختمت عبد اللطيف حديثها بمرارة قائلة: “يمكننا استبدال الأجهزة والأثاث، لكن من يعيد إلينا التاريخ الذي سُرق ودُمِّر؟ هذه جريمة لا تُغتفر… ضياع هذه الكنوز هو ضياع لإرث إنساني لا يُقدر بثمن”.
شهادات من الميدان
وفي السياق ذاته، كتب المخرج السوداني الطيب صديق على صفحته في “فيسبوك”: “اليوم زرنا المتحف القومي… لم ينجُ سوى الإله السوداني الأسد أبادماك، والإله آمون إله الكبش، إله وادي النيل، والملك تهارقا، وبعض الجداريات. أما مقتنيات المتحف ومخازن الآثار، فقد نُهبت وسُرقت ودُمّرت… يوم حزين. صادق مواساتنا للآثاريين السودانيين وللشعب السوداني”.

تحفة معمارية وتاريخ حافل
على ضفاف النيل الأزرق، وتحديدا في شارع النيل بمحاذاة قاعة الصداقة، كان يقف متحف السودان القومي شامخًا منذ افتتاحه عام 1971، حاملا بين جدرانه أكثر من 100 ألف قطعة أثرية، تحكي فصولا ممتدة من تاريخ البلاد، من عصور ما قبل التاريخ إلى الحقبة الإسلامية.
وتعود جذور المتحف إلى عام 1904، حين جرى تأسيسه في كلية الآداب بجامعة الخرطوم، قبل أن يُنقل لاحقًا إلى مقره الحالي، حيث تحوّل إلى إحدى أبرز الوجهات الثقافية في السودان، لا سيما مع احتضانه مقتنيات نادرة من حضارات كوش والنوبة، إلى جانب معابد فرعونية ولوحات جدارية مسيحية.

معابد نجت من الغرق… ولم تنجُ من الحرب
ومن أبرز معالم المتحف، ذلك الفناء الواسع الذي كان يضم متحفا مفتوحا، جرى فيه تجميع معابد ومدافن ونصب تذكارية نجت من الغرق خلال تشييد السد العالي في ستينيات القرن الماضي. وكان المشهد هناك أشبه بلوحة فنية، حيث أُعيد تركيب هذه الآثار حول حوض مائي، ليبدو وكأنها ما زالت قائمة في مواطنها الأصلية على ضفتي نهر النيل.

ومن بين أبرز هذه المعالم:
معابد سمنة شرق وسمنة غرب وبوهين التي تعود إلى العصر الفرعوني. مقبرة الأمير حجو تو حتب، أحد قادة مملكة كوش. أعمدة كاتدرائية فرس، التي تعود إلى الحقبة المسيحية في السودان.
نهب ممنهج وضياع لا يُعوض
لكن هذه المعالم لم تكن في مأمن من تداعيات الحرب المستعرة، ففي سبتمبر (أيلول) الماضي، تعرّض المتحف لواحدة من أكبر عمليات النهب في تاريخه. وكشفت الدكتورة غالية جار النبي، مديرة الهيئة القومية للآثار والمتاحف، عن سرقة الآلاف من القطع الأثرية من المخازن الرئيسية للمتحف.
وأظهرت صور التقطتها الأقمار الصناعية حينها، شاحنات محمّلة بالآثار وهي تتحرك باتجاه جنوب السودان، في تطور أثار مخاوف كبيرة حول مصير هذه الكنوز التاريخية.
ولم يكن المتحف القومي وحده ضحية الفوضى، إذ طالت عمليات التخريب والنهب مواقع أثرية أخرى، من بينها متحف نيالا في دارفور، ومتحف الخليفة عبد الله التعايشي في أم درمان، ومتحف القصر الجمهوري والتاريخ الطبيعي بالخرطوم، ما يعكس حجم الخطر الذي يواجه التراث الثقافي السوداني في ظل الوضع الراهن.

خسارة لا تُعوض
يمثل هذا الاعتداء على المتحف القومي في الخرطوم ضربة موجعة للهوية الثقافية السودانية، إذ يعد واحدا من أهم المراكز التي تحفظ ذاكرة الأمة وتوثّق تاريخها العريق.
وفي ظل هذا الدمار الشامل، تظل التساؤلات قائمة: كيف يمكن استعادة هذه الكنوز؟ وهل ستتمكن السلطات المعنية من ملاحقة المسؤولين عن هذه الجريمة؟

العربية نت

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: المتحف القومی فی السودان

إقرأ أيضاً:

مقررة أممية: المرأة الفلسطينية تتعرض لعنف إنجابي ممنهج

قالت ريم السالم، مقررة الأمم المتحدة المعنية بمناهضة العنف ضد المرأة، إن المرأة الفلسطينية لا تعاني أكثر من الرجل أو الطفل، لكنها تواجه شكلًا مختلفًا من المعاناة، لأنها أنثى، مضيفةً: "الاحتلال الإسرائيلي يدرك أن المرأة الفلسطينية هي حاملة وعد الاستمرارية والوجود، ولذلك يتم استهدافها عمدًا"، مؤكدة أن هذا الاستهداف ليس عشوائيًا، بل يعكس سياسة ممنهجة.

أستاذ علوم سياسية: إسرائيل تعرقل المفاوضات وتسعى لتصفية القضية الفلسطينيةرئيس وزراء السويد: الوضع في غزة مروع ويجب تجميد الشراكة التجارية مع إسرائيل

وأكدت السالم، خلال مداخلة مع الإعلامي أحمد أبو زيد، على قناة "القاهرة الإخبارية"، أن الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق النساء تنطوي على "عنف إنجابي" ممنهج، يتمثل في حرمان المرأة من الإنجاب أو تعريضها لمخاطر صحية قاتلة أثناء الحمل والولادة، وهو ما يندرج تحت بنود الإبادة الجماعية وفقًا لاتفاقية منع الإبادة الصادرة عن الأمم المتحدة، التي تُدرج "منع الإنجاب" كوسيلة للقضاء على جماعة ما.

وتابعت: "قتل الأطفال، ومنع الغذاء والدواء، واستهداف البنية التحتية الصحية، كلها جرائم حرب أدت إلى وفاة العديد من حديثي الولادة، وتعرض النساء الحوامل للخطر، وانخفاض نسبة الرضاعة الطبيعية بسبب سوء التغذية"، لافتة إلى أن نحو 90 طفلًا قُتلوا حتى الآن بسبب التجويع القسري.

وفي سياق متصل، أوضحت السالم أن القانون الدولي الإنساني ينص على ضرورة السماح للمدنيين بالحصول على المساعدات الإنسانية، وإتاحة وصول العاملين في هذا المجال إليهم، "لكن إسرائيل ضربت عرض الحائط بكل هذه القواعد، بل واستهدفت نقاط توزيع الإغاثة وقتلت المدنيين، بمن فيهم النساء، بشكل متعمد".

طباعة شارك الأمم المتحدة المرأة الفلسطينية إسرائيل جرائم حرب الاحتلال

مقالات مشابهة

  • السياحة تطلق مسابقة لتصوير القطع الأثرية التي تم انتشالها من مياه البحر المتوسط
  • «السياحة والآثار» تطلق مسابقة لتصوير القطع الأثرية التي تم انتشالها من مياه البحر المتوسط
  • السوداني يوجه بإزالة جميع المعوقات التي تعترض مشاريع الطاقة
  • مقررة أممية: المرأة الفلسطينية تتعرض لعنف إنجابي ممنهج
  • أمهات في غزة يُرضعن أطفالهن ماءً بدل الحليب وسط حصار وتجويع ممنهج
  • أبرز الانتقالات الصيفية التي شهدتها القارة الأوروبية
  • بالصور: الطفلة نسرين تتحدى الركام من أجل التعليم في غزة
  • 28% في الإيرادات.. وزير السياحة والآثار يجتمع بهيئة المتحف القومي للحضارة
  • فعاليات فنية وثقافية وتعليمية ضمن برنامج التدريب الصيفي بالمتحف القومي للحضارة المصرية
  • مني أركو: تشكيل ما يُسمى «حكومة تأسيس» يمهّد لتدخل دولي في الشأن السوداني