لجريدة عمان:
2025-06-30@09:20:52 GMT

عُمان التسامح

تاريخ النشر: 5th, April 2025 GMT

يرتبط مفهوم التسامح بحرية التعبير عن الرأي، وقدرة الإنسان على تفهُّم الآخر وفكره ومعتقداته، وتقبُّله كما هو باعتباره شخصية مستقِّلة لها ثقافتها وهُويتها وانتماءاتها، ولذلك فإن التسامح يدُّل على الاحترام والتقدير للآخر بناء على احترام الذات وتقديرها؛ فمن يؤْمن بحقه في التعبير عن رأيه وبحقوقه الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وغيرها، فإنه يؤمن - بالضرورة - بأحقيّته لغيره.

ولهذا فإن التسامح لا يقوم على المرتكز الديني وحسب، بل هو أسلوب حياة، يعتمد على قبول ثقافة الآخر؛ أي قبول الاختلاف بين الثقافات سواء كان دينيا أو فكريا أو اجتماعيا أو اقتصاديا أو غير ذلك، ولأن كان هذا الاختلاف قد أدى إلى إيجاد سُبل للوفاق والسلام والتفاهم تحت مظلة التسامح، إلاَّ أنه قد اتسع في العصر الحديث، خاصة في ظل الانفتاح الكبير القائم على التقنيات وتطوُّر وسائل التواصل من ناحية، وتغيُّرات السياسية والحروب ووسائل العُنف المختلفة من ناحية أخرى.

فقد أدت تلك المتغيرات إلى إحداث مجموعة من الإشكالات على المستويات الوطنية والإقليمية، الأمر الذي دفع المجتمعات اليوم إلى التركيز على مفاهيم التسامح، التي أصبحت تعاني أمام ما يتم وما يظهر في المجتمعات خاصة تلك الواقعة تحت الضغوط السياسية والاقتصادية، وما يظهر في وسائل التواصل الاجتماعي والوسائط التقنية الأخرى من انتهاك للقيم والتطرُّف والعُنف والإخلال بالحقوق، ولهذا فإن الاهتمام بالتسامح والتفاهم يُعَّد أساسا تنمويا لبناء الأوطان وترسيخ مبادئ المواطنة الإيجابية والتعايش السلمي بين أبناء المجتمع الواحد بتعدُّده وتنوُّعه.

إن التسامح قيمة أخلاقية وإنسانية غايتها الخير وتقوم على البناء والإعمار، لذا فإنها قاعدة عامة تستوجب الاحترام والعمل على دعمها بوصفها مبدأ يقوم على تبادل المصالح والمنافع المشتركة وبناء الشراكة المجتمعية التي تعزِّز التقدير والاستقرار، وتُسهم في إرساء العيش المشترك واحترام الآخر باعتباره تنوعا يثري الثقافة والفكر وتبادل العلوم والمعارف، ويُعزِّز القيم الإنسانية القائمة على الاختلاف.

فالاختلاف والتباين هما السمة الإنسانية التي ينبغي البناء عليها وفق مقتضيات التبادل والتفاهم والتسامح والشراكة الفاعلة، وهذا ما تأسسَّت عليه عُمان وما عُرفت به نهجا وسيرة حضارية، في تعاملها مع الآخر دولا وشعوبا وأفرادا، الأمر الذي جعلها منارة لمفاهيم التسامح، ومثالا يُحتذى به في علاقاتها وتعاملاتها وقدرتها على إيجاد الحلول القائمة على الحوار والتفاهم والجنوح إلى السلم وحسن الجوار، ما جعلها وسيطا ورسولا لدعم السِلم والصلح ورأب الصدع والشقاق.

إنها عُمان التي تتميَّز بتنوُّع ثقافتها وتعدُّدها، وتسامحها الذي يشهد له التاريخ الإنساني عبر الحقب التاريخية؛ ولعل ما تقوم به اليوم من جهود في الوساطة الخارجية على المستوى الإقليمي والدولي، وما تقدمه من وسائل ومبادرات سلمية قائمة على التفاهم، إضافة إلى مواقفها الواضحة حيال الاعتداءات على الشعوب وسيادة الدول، ليس خافيا على العالم؛ فعُمان صديقة العالم باختلافه وتنوُّعه وتعدُّده، فهي لا ترتكز في ذلك سوى على فكر التسامح والتفاهم والحِوار.

ولأن التسامح هو الأساس الذي تقوم عليه عُمان في تعاملها مع الآخر، فإنه ينطلق من جوهر المجتمع، الذي اعتمد على مبادئ التسامح والتفاهم في علاقاته مع بعضه البعض، والتعايش مع تعدُّده الثقافي وتنوُّعه باعتبارها أصولا؛ فليس غريبا على المجتمع العماني تنمية فكر التسامح وفق معاملاته الإنسانية ، ورعايته لأفراده، وقيامه بالخدمة المجتمعية، والعمل المشترك، ودعم السلام الاجتماعي وتعزيز القيم الأخلاقية وتعظيمها، والدعوة إلى السلام والحوار والنقد البنَّاء باعتبارها ركائز المواطنة الصالحة.

ولقد عزَّز انفتاح الدولة واتساع آفاق الاستثمار والسياحة والتعليم وغيره، روح التسامح لدى المجتمع العماني؛ فالمقيم على هذه الأرض الطيبة له حق الاحترام والتسامح كما هي حقوقه الأخرى غير المنقوصة، وهو أمر لا تقرُّه الدولة في مواثيقها وتشريعاتها وحسب، بل يقرُّه المجتمع على نفسه باعتباره واجبا وأصلا من أصول التعامل مع الآخر، ولذلك فإن ما نجده من مظاهر التعاون والتشارك بين المواطنين والمقيمين في الحياة اليومية والأعمال عموما، وفي المناسبات الدينية والوطنية بشكل خاص، يكشف تلك الروح الأخلاقية التي يتمتع بها المجتمع.

ولعل المشاركة في مظاهر الاحتفالات والعادات والتقاليد التي يحتفي بها المجتمع العماني خلال شهر رمضان المبارك، وأيام الأعياد، التي يشارك فيها المقيمون والسُيَّاح بكل محبة وإخاء، تُظهر قيم المجتمع وبيئته المتسامحة التي تربى عليها العماني، فالمجتمعات لا تُبنى بالفكر الأحادي بل بالاختلاف القائم على البناء والتنمية والتطوير كل بفكره وقدراته ومهاراته وتوجهاته، ولهذا فإن تلك المشاهد لا تعكس سوى الوعي بثقافة التسامح واحترام الآخر ضمن مبادئ التعايش الإنساني.

في استطلاعه للرأي بشأن (التسامح لعام 2025) في دورته الثانية، قدَّم المركز الوطني للإحصاء والمعلومات تقريرا لافتا خاصا برأي المقيمين في عُمان عن (مدى تسامح المجتمع العماني معهم)، وقد ظهرت النتائج وفقا للجنس والفئة العمرية والمحافظات؛ إذ بلغت نسبة الوافدين الذين يرون أن المجتمع العماني يتسم بالتسامح تجاههم 90.9%، مقارنة بـ 90.7% عام 2024، وأن 95.6% من الوافدين لم يتعرضوا لأي شكل من أشكال التمييز أو إساءة التعامل من العمانيين، مقارنة بـ 93.6% في عام 2024.

وأن 90.4% من الوافدين يشعرون بتقبُّل المجتمع العماني لهم على الرغم من اختلاف ثقافتهم، مقارنة بـ 92% عام 2024، كما أن 86.7% من الوافدين يشعرون بحرية التعبير عن آرائهم في مواضيع الحياة اليومية مقارنة بـ 86.6% عام 2024. إن أهمية هذه النتائج لا تكمن في نسبتها العالية بقدر ما تكشف قيمة التسامح باعتباره جوهر المجتمع العماني وأساسا للتنمية الوطنية؛ فهي نتائج تعكس وعي المجتمع بأهمية الاختلاف في بناء الأوطان، وقيمته في بناء مجتمع متماسك على تنوِّعه (عرقيا، وثقافيا، ودينيا، ولغويا، واقتصاديا ...).

ولعل ارتفاع نسب نتائج التقرير في مؤشراته المختلفة، يلفت الانتباه إلى الدور الإيجابي الذي تقوم به الوسائط التقنية المختلفة؛ فعلى الرغم من تلك التحديات التي يمكن أن تواجه قيم التسامح والتعايش في ظل التطورات التقنية والانفتاح المتسارع، إلاَّ أن جوهر المجتمع العماني يقود تلك التقنيات نحو الاستفادة القصوى منها في تعزيز القيم الأصيلة، ودعم توجهاته الوطنية الداعية إلى التفاهم والحوار، الأمر الذي يكشف من جهة أخرى الوعي المتزايد للمجتمع العماني وللشباب بشكل خاص في أهمية التسامح وقدرته على تعزيز حق التعبير عن الرأي والفكر والحفاظ على الحقوق الإنسانية.

إن مثل هذه الاستطلاعات لا تكشف تسامح المجتمع العماني وحسب، بل أيضا مستوى الشفافية، ومدى تحقيق أهداف «رؤية عمان 2040»؛ فلكي نكون (مجتمعا رائدا عالميا في التفاهم والتعايش والسلام)، علينا أن نصل إلى أعلى مستويات التسامح، علينا أن نكون يدا واحدة وقلبا واحدا، علينا أن نؤمن بالاختلاف باعتباره أصلا من أصول التنمية الوطنية، فبه نتكامل ونتعاون ونتشارك، وبه نكون جميعا (مواطنين ومقيمين) على اختلافنا بُناة لهذا الوطن.

فالتسامح في عُمان ليس قيمة جديدة، بل قيمة متوارثة جيلا بعد آخر، آمن بها أجدادنا عندما عبروا البحار والقارات، وجعلوه سمتهم الذي يُعرفون به، وبه تعاملت الدولة منذ القِدم في بناء علاقاتها السياسية والتجارية والاقتصادية، وها نحن نسير على النهج، ومهما انفتحت عُمان وتطوَّرت فإن لها ركائز لن تحيد عنها، وهي ركائز أخلاقية يقودها الدين المتسامح والفكر المتعايش والعقل المستنير والمجتمع المتماسك الذي يجعل من التسامح أساسا للتنمية الوطنية المستدامة.

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة فـي مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: المجتمع العمانی التعبیر عن مقارنة بـ عام 2024 الذی ی

إقرأ أيضاً:

(فؤادنا) الذي رحل

حينما كنت طالبا في الثانوية العامة بمدينة تعز، كان هناك شاب يكتب الشعر ويلقيه في المناسبات الوطنية او المساندة لقضيتنا العربية فلسطين، وكان الكثيرين يتحدثون عن فؤاد مطر الذي شعره لا يختلف كثيرا عن شعر الغاضب العربي احمد مطر..

لم اعرفه بشكل مباشر، حتى انتهيت من دراستي في إعلام جامعة صنعاء وبدأت العمل الصحفي، عرفته على المنابر في صنعاء شاعرا في الفعاليات وسمعت عنه خطيبا مفوها في جامع بجنوب العاصمة صنعاء، وتعرفت عليه أكثر في مؤتمرات الإصلاح العامة حيث كان يلقي أشعارا تحظى بتصفيق من قبل الحاضرين في الجلسات الافتتاحية لتلك المؤتمرات الإصلاحية.

لم يقف الأمر عند ذلك، لكن سمعت عن ذات الشاب الشاعر والخطيب المفوه انه ناشط مجتمعي ويقدم الخدمات لشباب وناس الحي الذي يسكن فيه، الي ان تعرفت عليه في صحيفة الصحوة بعدما تعرض له من اعتقال من قبل السلطات الأمنية بسبب خطبه الغاضبة من الأوضاع المتردية، وكان الكثير من الأصدقاء يحدثونني عن خطبه التي يتوافدون لحضورها في جامعه من مختلف مناطق العاصمة صنعاء.

كان الجميع قد تعودوا على قصائده الجميلة التي يلقيها في افتتاح مؤتمرات الإصلاح العامة، وحتى كان حضوره وطنيا في خطبه وشعره في ٢٠١١ من على منبر ساحة التغيير في الستين، كان الكثيرين يحرصوا على الحضور لسببين حماسهم لثورة ١١ فبراير وتأييدها وأيضا للاستماع لعدد من الخطباء الذين يعبرون عن مطالبهم وفي مقدمتهم فؤادنا الجميل ذو الجسم النحيل والكلام العذب واستخدام فنون اللغة الجميلة الفارس في محرابها.

خلالها ألتقينا لقاءات معدودة في أماكن عدة حتى كان آخر لقاء لي به في مدرسة نعمة رسام عام ٢٠١٥ حينما كنت ناطقا للمقاومة الشعبية بمدينة تعز، لم يزد الأمر على المشاركة في الحديث للصحفيين برفقة الشيخ حمود المخلافي والشهيد ضياء الحق الاهدل، وانقطعنا عن بعض باستثناء تواصل محدود عبر الفيسبوك وحينها وصلتني اخباره عن مرضه وخضوعه لعملية زراعة كلى، حتى كان تواصلي الأخير به تلفونيا وهو في تعز لأجل خدمة لصديق ولم يخذلني فيها بالتواصل معه والسعي لخدمته، وحينما زرت تركيا مؤخرا كنت عازم على التواصل معه واللقاء به فإذا بي اسمع بالصدفة انه تم نقله إلى القاهرة وحالته خطيرة.

كان فؤاد نموذجا للشاب الثائر والإصلاحي المنفتح على مختلف شركاء العمل السياسي كانت بوصلته موجهة نحو الظلم والفساد والفشل ايا كان نوعه ويخاصم سياسيا بأخلاق وقيم قل ان تجدها لدى فرقاء العمل السياسي، لم يقل كلاما جارحا في حق أيا من خصومه ولكنه انتقد وعارض وفق قواعد الديمقراطية المتعارف عليها.

كان فؤاد الحميري مربيا فاضلا وعرفت ذلك من خلال الشباب الذين تعلقوا به وتعلموا على يديه وداعية وسطي وخطيبا غير تقليدي يطوع اللغة الجميلة لإيصال رسالته الوعظية ومقارعة الظلم الجبروت وثائرا يعبر عن ملايين اليمنيين وخاصة شريحة الشباب وشاعرا مفوها كتب قصائده القصيرة والطويلة لأجل القضية التي حملها في وطنه اليمني وامته العربية والإسلامية.

حالة الحزن التي طفت علي سطح الوسائط الاجتماعية تؤكد ان فؤاد الحميري لم يكن صوت معبر عن نفسه وحتى حزبه ولكنه يعبر عن اوجاع وآلام وطموحات واحلام اليمنيين، رحمة الله تغشاه واسكنه فسيح جناته وتعازينا لكافة أسرته واحبائه ومحبيه داخل الوطن اليمني وخارجه.

مقالات مشابهة

  • و أمرت النيابة العامة بحبس مالك السيارة المتسببة في حادث الطريق الإقليمي بمحافظة المنوفية لتمكينه المتهم من قيادتها رغم علمه بعدم حيازته رخصة تجيز له قيادة تلك المركبة. جاء ذلك في إطار التحقيقات التي تجريها النيابة العامة في الحادث المروري المروع الذي وقع
  • وزير التسامح يحضر أفراح الغفلي والخاطري
  • شبانة: التفريط في وسام خطأ كبير والأهلي متمسك به إلا إذا
  • شبانة: التفريط في وسام خطأ كبير والأهلي متمسك به
  • خطفت زوجها بـ 30 ألف جنيه وسرقت موبايله.. وجنايات القاهرة تعاقبها بالسجن المشدد 7 سنوات
  • الدرعي: تجربة الإمارات قامت على إعلاء قيم التسامح
  • (فؤادنا) الذي رحل
  • الحويج: بحثت مع نظيري العماني تعزيز التعاون الاقتصادي   
  • غرم العمري: الحديث الذي أراه عن فهد المفرج وفهد بن نافل لا يصح
  • تدفن أسرار البيوت بموت من فيها!