مع تجدد حرب الإبادة الجماعية على الفلسطينيين في قطاع غزّة، وبعدما فعل الفلسطينيون في هذا الشريط الضيق والمحاصر فوق ما يمكن لأيّ مجموعة بشرية أخرى أن تفعله، مجتمعا ومقاومة، من الصمود القهري أو الاختياري، بلا أيّ أفق واضح لكيفية إنهاء هذه الحرب؛ تعلو أصوات عربية، تتوخّى المبررات في الدفاع عن العجز العربي الظاهر، وهي مبررات لا ينتبه أصحابها إلى أنّهم يدينون أنفسهم ودولهم، دون قصد منهم، بل من حيث أرادوا العكس.
ويمكن ملاحظة ذلك في الجدل الذي انفتح مرّة واحدة، في الردّ على ما يُسمّى "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين" الذي أصدر فتوى من عدد من النقاط، إلا أنّه جرى تجاهلها كلها، للردّ على النقطة الأولى التي أوجبوا فيها على كلّ مسلم مستطيع الجهاد لأجل فلسطين، وبقطع النظر عن كلّ ما يمكن قوله عن تصدّي المشايخ الموسومين بالعلم الشرعي في بلادنا لقضايا المسلمين العامّة، والرأي في الحالة العلمية والمشيخية في هذه البلاد، بما في ذلك الاتحاد المذكور، ودون دخول في سجالات تافهة، بين مختلف الأوساط المشيخية المتنافرة في البلاد العربية، فإنّ الردود كلّها، وسواها مما يتناول موقف البلاد العربية من حرب الإبادة، لا تفعل شيئا أكثر من إدانة هذه البلاد من حيث أرادت تبرأتها أو الدفاع عنها أو إعذارها.
يفترض أن يكون لأيّ وحدة سياسية يُعبَّر عنها بالدولة هدف من وجودها، ويكون النظام السياسي والحالة هذه ملتزما هذا الهادف، وساعيا إلى تحقيقه، وليس أقلّ، حينئذ، من ضمان القدر المعقول من الحياة الكريمة لمواطني هذه الوحدة السياسية. ومن المعلوم أنّ الوحدات السياسية في البلاد العربية أكثرها تفتقر للامتداد التاريخي، أيْ أنّها مصطنعة بالكامل، وهذا لا يعيبها في إطار النظام الدولي، والقيم السياسية الحاكمة له، التي تتيح لأيّ مجموعة بشرية تتلمس المشترك الجامع بينها؛ تقرير مصيرها في إطار وحدة سياسية خاصّة بها، لكن هذا لا ينفي في المقابل أحقية السؤال عن معناها وسبب وجودها، علاوة على ما في حكاية المشترك الجامع هذا من اصطناع، فلا هو القومية ولا هو الدين ولا هو الطائفة، فلا تدري بعد ذلك سبب تكاثر الدول في المجال العربي.
وفي المقابل، ثمّة استثناء لبلاد عربية تمتاز بالامتداد التاريخي على الجغرافيا المعاصرة ذاتها تقريبا، مما يُرجِع حقيقة الدولة فيها إلى ما قبل الدولة الحديثة في السياق العالمي وفي السياق العربي الخاص، ولكن هذه كذلك من حيث سياسات النظم الحاكمة لها ينبغي أن تكون خاضعة للتساؤل ذاته إن لم يكن لها وظيفة واضحة تمنح النظام الممثل لها الشرعية بالتزامه بها.
وبالنزول من هذا التجريد إلى الحادثة العينية محلّ الحديث، وهي حصار قطاع غزّة وتجويع أهله وتجديد الإبادة عليهم، يجري الدفاع مثلا عن مصر بأنّه لا يمكنها فعل أيّ شيء تحت سقف الحرب، وأنّ المقترحات كلّها المقدمة لمصر تفضي إلى حرب خاسرة، ما دامت إسرائيل منفلتة من أيّ قيد والولايات المتحدة في ظهرها، وإذن، ليس على مصر أكثر من محاولة منع التهجير، مع الرضا بالعجز وقلّة الحيلة إزاء الإبادة المتجددة على غزّة.
مصر من الدول القليلة المستثناة من الاصطناع المعاصر، للامتداد التاريخي الذي تمتاز به من حيث علاقة جغرافيتها بالسلطة والتاريخ، ويكاد يشاركها في ذلك المغرب واليمن إلى حدّ ما، وهي دولة كبيرة بهذه الجغرافيا، وبمواردها البشرية، وكما يفترض بمواردها الطبيعية، ولم تنجح أيّ دولة عربية أخرى في أخذ مكانها، من حيث الصلاحية لتكون قاعدة العرب، أو الجامع لهم. ومما لا ينبغي التردد في قوله، أنّ دفع دول عربية أخرى، لا سيما إن كانت صغيرة أو تفتقد المبرر التاريخي والجغرافي والاجتماعي لانفصالها في وحدة سياسية خاصة بها، لمصر عن وظيفتها العربية التاريخية؛ هو من معالم الزمن المنكوس الذي نعيشه. ودولة هذه حالها من حيث تاريخها ومواردها وموقعها من فلسطين، والتصاقها بحالة الإبادة على حدودها، يفترض بها ألا تكون عاجزة إزاء حالة الإبادة، وألا تكون خياراتها منحصرة في الحرب التي يرفضها المدافعون عن موقفها الراهن، الذي يكاد يقتصر على رفض التهجير، دون فعل شيء لوقف الإبادة.
حتى خيار الحرب، وبمنطق وطني صرف، وبقطع النظر عن فلسطين إن كان هناك واجب عربي نحوها لا يسقط بالتقادم أم لا، وبقطع النظر عن كلّ مقولات الأمن القومي العربي والمشتركات الثقافية التي تحتم أن تكون فلسطين مسؤولية عربية لحوحة لا تفتفر أبدا، وحتى لو سلمنا بكلّ الخطابات اليمينية الشعبوية التي قد تتصدر بدفع رسمي في بعض الدول العربية عن أولوية الوطن، وانعدام المسؤولية تجاه أيّ أحد آخر؛ أليس من المخزي أن تكون إسرائيل، بالرغم من كل العيوب الجوهرية في مبدأ وجودها، أو الظروف الموضوعية المعاندة لهذا الوجود، الدولة الوحيدة في الإقليم القادرة على الحرب؟! التي لا تخشى الحرب؟! وتسعى إليها؟!
لا يعني ذلك أنّه ينبغي أن تكون الحرب هدفا، ولكن الخشية منها، وعدم الاستعداد لها، والتذرع بالدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل، أمر مثير للسخرية السوداء. فما معنى وجودنا نحن العرب، حتى متفرقين، في وطنيات غير قادرة على الاستعداد لحرب قد تفرض عليها؟! القضية ليست أن تقاتل دفاعا عن فلسطين، ولكن القضية لماذا تجد نفسك، بعد كلّ هذه السنوات من الاستقلال؛ عاجزا عن القتال لو فرض القتال عليك، أو عاجزا عن التحقق في نفوذ ومكانة تناسب تاريخك ومواردك البشرية والطبيعية، أو عاجزا عن فعل أيّ شيء تحت سقف الحرب؟!
ماذا يعني أن تصف دولة عربية أخرى نفسها بأنّها كبرى، في الخطاب الشعبوي الذي تُدفع إليه لجانها الإلكترونية وكتّابها منعدمو الموهبة، وهي غير قادرة على اتخاذ موقف عروبي، يطابق معنى وجودها، تجاه المذبحة الواقعة على الفلسطينيين في غزّة؟! وعلاوة على التطلع البادي للتطبيع مع هذه الدولة (أي إسرائيل) التي ينبغي أن تخجل أيّ دولة عربية من الاقتراب منها، لانعدام مبررات وجودها، ما الكبير في أن تكون عاجزا إلى هذه الدرجة، فتسخّر إعلامك للحطّ من الضعيف الذي سعى لاسترداد قضيته، سواء أصابت حساباته أم أخطأت؟! هل تتخلّى أمريكا عن إسرائيل إذا أخطأت الأخيرة حساباتها؟! وماذا يعني أن تمتد دولة عربية صغيرة لا يكاد يصل عدد سكانها الأصليين إلى مليون نسمة لفرض هيمنتها على الإقليم بما في ذلك على مصر، محاولة أن تكون إسرائيل الثانية وبالتحالف مع الأخيرة؟! ماذا تريد وماذا تستفيد؟! وما المعنى من بلد عربي يعيش احترابا داخليّا مكتوما طول وجوده بعد حرب أهلية فعلية وهو لا يستطيع أن يسميَ رئيسه ولا رئيس حكومته إلا في إطار التفاهمات الإقليمية والدولية؟! وأيّ شيء يفعله بلد عربي كبير بموارد هائلة بعد كفاح 132 سنة للاستقلال، وهو لا يكاد يرتقي بحياة مواطنيه إلى مستوى موارده، ولا بموقعه السياسي، سوى بالصراع المزمن مع بلد عربيّ جار يفترض أن المشتركات التي تجمعه به لا تجمعه مع أيّ أحد آخر؟!
وإذن، فالذين يدافعون عن المواقف الراهنة للدول العربية من المذبحة يدينون أنفسهم، وينقضون خطابهم من داخله، فلو سلمنا بأنّ العقل يقضي بالعجز العربي الراهن، والأمر ليس كذلك قطعا، فعلينا أن ندين أنفسنا، دولا وأنظمة حاكمة وفعاليات شعبية، لبلوغنا هذا الحال من العجز، دون أن يكون هناك ما ندافع عنه حقيقة، فالذي يخشى الحرب، سواء بدوافع وطنية ضيقة، أو لحسابات مادية صرفة، لا يجد شيئا آخر يدافع عنه حقيقة من حيث الوجود السياسي للنظام الذي في بلده، وهو ما يطرح السؤال عن معنى وجودنا نحن العرب، باستثناء وجودنا القهري الناجم عن تناسلنا في هذه الجغرافية الممتدة.
فالذي يزعم أنه كبير لا تزيد حقيقة ما يقول على كونه إنشاء مدرسيّا ساذجا، فلا جغرافيته ولا موارده تجعله كبيرا في إقليمه؛ ودولة صغيرة بلا مبرر تاريخي أو جغرافي تعربد عليه، والكثير من هذا الكبير يعيش مواطنوه في مستويات معيشة مذلة ولا تكاد تتجاوز الكفاف، وعلى ذلك، أي شيء يبقى في سياسات هذه الدول ما يقتضي الدفاع عنه بعد ذلك؟!
x.com/sariorabi
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه حرب الفلسطينيين مصر إسرائيل مصر إسرائيل فلسطين غزة حرب مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة اقتصاد صحافة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة دولة عربیة أن تکون من حیث
إقرأ أيضاً:
ما وراء خطة نتنياهو بشأن احتلال غزة التي لا ترضي أحدًا؟
أكد تحليل لشبكة "سي إن إن " أنه بعد مرور ما يقارب العامين على اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية ضد قطاع غزة، صوّت المجلس الوزاري الأمني المصغر على خطة توسع عسكري جديدة تستهدف السيطرة على مدينة غزة.
وأضاف التحليل أن "المبادرة، التي جاءت بدفع مباشر من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، تكشف على نحو واضح عن أبعاد سياسية داخلية أكثر مما تعكس استراتيجية عسكرية محكمة الإعداد".
وقال إنه "رغم التحذيرات الشديدة من القيادة العسكرية الإسرائيلية والمخاوف المعلنة من تفاقم الأزمة الإنسانية وتعريض حياة نحو خمسين رهينة إسرائيلياً ما زالوا في غزة للخطر، أصر نتنياهو على المضي بالخطة قدماً. يأتي هذا التوجه في وقت يشهد فيه الدعم الدولي لإسرائيل تراجعاً ملحوظاً، إلى جانب انخفاض التأييد الشعبي الداخلي لاستمرار الحرب"، على حد وصفه.
ونقل عن مراقبين قولهم إن "لهذه الخطوة فائدة خفية لنتنياهو، إذ تمنحه مساحة زمنية إضافية لتعزيز فرص بقائه السياسي، خاصة مع اعتماده على دعم شركائه في الائتلاف اليميني المتطرف، وهو ما يعني عملياً إطالة أمد الحرب. فقد لعب وزراء مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش دوراً أساسياً في تعطيل أي تقدم بمفاوضات وقف إطلاق النار، مهددين بإسقاط الحكومة إذا توقفت العمليات العسكرية".
ومع ذلك، لم تصل خطة نتنياهو للسيطرة على مدينة غزة إلى مستوى طموحات شركائه، إذ يطالب بن غفير وسموتريتش باحتلال كامل للقطاع كخطوة أولى لإعادة بناء المستوطنات الإسرائيلية فيه، وصولاً إلى ضمه نهائياً. حتى أن الخطة لم تواكب ما روج له نتنياهو نفسه قبل الاجتماع، حيث صرح في مقابلة مع قناة "فوكس نيوز" بأن إسرائيل تعتزم السيطرة على كامل قطاع غزة، ما أعطى انطباعاً بحسمه قرار الاحتلال الكامل.
وأوضح التقرير أن "نتنياهو تبنى نهجاً تدريجياً، يبدأ بمدينة غزة فقط، متجنباً السيطرة على مخيمات أخرى قريبة يُعتقد أن بعض الرهائن الإسرائيليين محتجزون فيها. وحدد موعداً فضفاضاً لبدء العملية بعد شهرين، تاركاً الباب مفتوحاً أمام جهود دبلوماسية محتملة لإحياء صفقة تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار، وربما إلغاء العملية".
وذكر أن "هذا الموقف أثار غضب شركائه اليمينيين الذين اعتبروا الخطة غير كافية. وقال مصدر مقرب من سموتريت:ش إن الاقتراح الذي قاده نتنياهو ووافق عليه مجلس الوزراء يبدو جيداً على الورق، لكنه في الواقع مجرد تكرار لما جرى من قبل، قرار بلا معنى، ولا أخلاقي، ولا يخدم المشروع الصهيوني".
وقال إن "التحفظات لم تأتِ من الجناح السياسي فقط، بل من المؤسسة العسكرية أيضاً. ففي اجتماع ماراثوني استمر عشر ساعات، عرض رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، إيال زامير، معارضة الجيش الحاسمة لإعادة احتلال غزة، محذراً من أن أي عملية جديدة ستعرض حياة الرهائن والجنود للخطر، وستحوّل غزة إلى "فخ" يفاقم استنزاف الجيش المنهك بفعل القتال المستمر، كما سيزيد من عمق المأساة الإنسانية للفلسطينيين".
وبيّن أن "هذه المخاوف العسكرية تتسق مع توجهات الرأي العام، إذ تظهر استطلاعات متكررة أن غالبية الإسرائيليين تؤيد إبرام اتفاق لوقف إطلاق النار يعيد الرهائن وينهي الحرب. لكن قرارات نتنياهو تبدو منفصلة عن توصيات الجيش وإرادة الجمهور، بل مدفوعة، وفق محللين ومعارضين سياسيين، باعتبارات البقاء السياسي الضيقة".
وأضاف "دولياً، تضع خطة السيطرة على غزة إسرائيل في عزلة متزايدة. فحتى مع الدعم الواسع الذي حصلت عليه من إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب خلال الحرب، فإن تفاقم أزمة الجوع والمجاعة في القطاع أضعف شرعية العمليات الإسرائيلية. وقد كانت التداعيات سريعة، إذ أعلنت ألمانيا، الحليف الاستراتيجي الأهم بعد الولايات المتحدة، تعليق بعض صادراتها العسكرية إلى إسرائيل، فاتحة الباب أمام دول أوروبية أخرى لخفض مستوى العلاقات".
وأشار إلى أنه "في نهاية المطاف، يمضي نتنياهو بخطة لا تحظى برضا أحد: لا شركاء إسرائيل الدوليون، ولا قيادتها العسكرية، ولا الجمهور الذي يطالب بإنهاء الحرب، ولا حتى حلفاؤه المتشددون الذين يرون أنها غير كافية".
وأوضح أن "الجمهور الوحيد الذي تخدمه هذه الخطة – كما يصفه منتقدوه – هو نتنياهو نفسه، إذ تمنحه مزيداً من الوقت لتجنب الخيار الحاسم بين وقف إطلاق نار قد ينقذ الرهائن، أو تصعيد عسكري واسع يُرضي ائتلافه. وبذلك، فإن الخطوة تمثل أكثر من مجرد مناورة عسكرية؛ إنها استمرار لأسلوب نتنياهو الكلاسيكي في إطالة أمد الحرب، على حساب سكان غزة والرهائن الإسرائيليين، من أجل هدف واحد: بقاؤه السياسي".