الهوية والولاء في عصر السلطان صلاح الدين
تاريخ النشر: 12th, April 2025 GMT
11 أبريل، 2025
بغداد/المسلة: سیروان عبدالكريم علي
إن الحجة القائلة بأن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب الأيوبي (1137-1193) فشل في المساهمة في القضية القومية الكردية تُسيء فهم السياق التاريخي الذي عاش فيه بشكل أساسي. إن تقييم الشخصيات التاريخية من منظور القومية الحديثة هو فرض للمفاهيم المعاصرة على عالم القرون الوسطى الذي كان منظمًا وفق مبادئ مختلفة تمامًا للهوية والانتماء.
خلال القرن الثاني عشر، عندما برز السلطان صلاح الدين الأيوبي، كان الناس في جميع أنحاء العالم الإسلامي يعرّفون أنفسهم في المقام الأول من خلال الانتماء الديني وليس الهوية العرقية أو القومية. إن مفهوم القومية كما نفهمه اليوم – بتأكيده على اللغة المشتركة والثقافة والسيادة الإقليمية – لم يكن موجودًا ببساطة. بدلاً من ذلك، كان الشرق الأوسط في العصور الوسطى متحدًا من خلال روابط الإيمان، مع الأمة (المجتمع الإسلامي) كمصدر رئيسي للهوية الجماعية.
كما يقول الشاعر المعاصر لصلاح الدين، ابن جبير في رحلته:
“وكان السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله قد وحد القلوب على التقوى، وجمع الشمل على الهدى”
كان عالم صلاح الدين عالمًا حيث كان الولاء السياسي موجهًا نحو السلالات و القبائل والسلطات الدينية بدلاً من الدول القومية. إنجازاته في توحيد مصر وسوريا تحت حكم الأيوبيين واستعادة القدس من الصليبيين في عام 1187 كانت مدفوعة بالحماس الديني والبراغماتية السياسية، وليس بالاعتبارات العرقية. على الرغم من أن صلاح الدين كان بالفعل من أصل كردي، فإن تطبيق التوقعات القومية الكردية الحديثة على أفعاله غير متزامن تاريخيًا بشكل أساسي.
وقد وصفه الشاعر ابن سناء الملك بقوله:
“أعدت بسيفك القدس الذي ضاع واسترجعت بالعزم أرض الأقصى
وما كان إلا الدين همك وحده فيا لك من سلطان عدلٍ ومن فتى”
هناك تحديات عدة في اتخاذ السلطان كرمز قومي للشعب كردي فعلى الرغم من السياق التاريخي، يجادل بعض العلماء والقوميين الكرد بأنه من الإشكالي المطالبة بصلاح الدين كرمز للقومية الكردية بأثر رجعي. هذه الحجة المضادة لها مزايا لعدة أسباب:
أولاً، على الرغم من أنه كان كرديًا عرقيًا، ولد في تكريت (في العراق الحديث)، إلا أن إنجازاته السياسية والعسكرية لم تُصاغ أبدًا من حيث الهوية أو التطلعات الكردية. طوال حياته المهنية، عمل في إطار الوحدة الإسلامية بدلاً من الخصوصية العرقية. كانت إدارته وجيشه متعددي الأعراق، بما في ذلك العرب والأتراك وغيرهم من المجموعات إلى جانب الكرد.
وقد ذكر المؤرخ ابن الأثير في كتابه “الكامل في التاريخ” أن السلطان صلاح الدين:
“كان يقرب إليه كل من يظهر منه الصلاح والديانة، لا ينظر إلى عرقه ولا أصله، بل إلى إخلاصه وتقواه”
وفي الوقت نفسه، هناك رأي آخر يشير إلى أن السلطان صلاح الدين اعتمد بشكل كبير على أبناء عشيرته وعلى الكرد في تأسيس دولته وجيشه، مما يعكس الطبيعة القبلية للولاءات السياسية في ذلك العصر، حيث كان من الطبيعي أن يعتمد القادة على دوائر الثقة الأقرب إليهم، بدءًا من العشيرة والقبيلة، ثم التوسع إلى التحالفات الأوسع.
ثانيًا، تكمن الأهمية التاريخية الأساسية للسلطان صلاح الدين في دوره كموحد للأراضي الإسلامية ضد الصليبيين وكمؤسس للسلالة الأيوبية. امتدت رؤيته السياسية عبر الحدود العرقية، مع التركيز على إنشاء كيان إسلامي موحد بدلاً من تعزيز المصالح الكردية على وجه التحديد.
ثالثًا، هناك القليل من الأدلة على أن السلطان صلاح الدين نفسه أكد على هويته الكردية كأمر ذي أهمية سياسية. المصادر المعاصرة التي تناقشه تركز على تفانيه الديني، وبراعته العسكرية، وفطنته السياسية بدلاً من خلفيته العرقية.
وقد وصفه القاضي الفاضل، وزيره ومستشاره، في إحدى رسائله:
“كان همّه نصرة الإسلام وحماية بيضته، لم يكن يرى فرقاً بين عربي وعجمي إلا بالتقوى، ولا بين شامي ومصري إلا بالعدل”
اليوم نرى رئيس جمهورية إيران الإسلامية ورئيس جمهورية العراق الفدرالية من أصول كردية، ويمثلون أحزابًا قومية. فلماذا لا يساهمون في تأسيس الدولة الكردية وانفصال الكرد من إحدى الدول برئاسة شخصية كردية؟ في حين من المفترض أن يكونوا قوميين بكل المعاني!
هذه المقارنة تكشف بوضوح عن التناقض في انتقاد السلطان صلاح الدين التاريخي. إن السياسة المعاصرة، مثل السياسة في العصور الوسطى، معقدة وذات طبقات متعددة. القادة السياسيون يعملون ضمن أنظمة مؤسسية ودستورية وجيوسياسية معقدة تتجاوز الانتماءات العرقية البسيطة. إن تولي قيادي كردي منصبًا رفيعًا في دولة غير كردية لا يعني بالضرورة “خيانة” للهوية الكردية، بل قد يعكس فهمًا أكثر دقة للسياسة كفن الممكن.
لذلك نرى بأن هذا الرأي القائم على انتقاد السلطان صلاح الدين لعدم تأسيس دولة كردية غير منطقي ويسيء إلى سمعة الكرد والإقليم ومبادئ الديمقراطية الكردية التي يسعى إليها برلمان وحكومة إقليم كردستان وشعبه. هذا النوع من التفكير الأحادي يتجاهل التعقيدات السياسية والتاريخية، ويضع معايير غير واقعية لتقييم الشخصيات التاريخية والمعاصرة.
إن حملة تشويه رأي المؤرخ المصري د. يوسف زيدان وإلغاء سفره إلى أربيل متعلقة بآرائه حول تأريخ السلطان، فعدم قبول رأيه تضر بسمعة إقليم كردستان سياسيا كمنطقة معروفة بالتعددية وقبول الآخر وقبول الرأي المخالف. مثل هذه الإجراءات تتناقض مع القيم الأساسية التي يسعى الإقليم لتمثيلها في العالم المعاصر.
نحن نوثق السلطان صلاح الدين الأيوبي كجزء من تاريخ الدولة الأسلامية الأموية، وله أكثر من تفسير ورأي. فهو كان شخصية سياسية قبلية ذات ولاء للدولة الإسلامية الأيوبية، بغض النظر عن القوميات المختلفة. وعندما ننظر إلى السياق التاريخي الكامل، يصبح من الواضح أن فهم شخصية مثل السلطان صلاح الدين الأيوبي يتطلب منا تجاوز التفسيرات الأحادية والبسيطة.
لذلك يتطلب التحليل التاريخي منا فهم الشخصيات في سياقها الخاص بدلاً من الحكم عليها وفقًا للمعايير القومية الحديثة. ويجب قراءة تاريخ السلطان صلاح الدين الأيوبي بناءً على قيم وهياكل سياسية من زمنه – حيث كانت الوحدة الدينية، وليس القومية العرقية، هي المبدأ المنظم للمجتمع. إن محاولة المطالبة بالشخصيات التاريخية أو انتقادها من خلال عدسة قومية بأثر رجعي يشوه فهمنا للماضي ويفرض توقعات غير معقولة على الجهات السياسية التاريخية والمعاصرة على حد سواء.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
About Post Author moh mohSee author's posts
المصدر: المسلة
إقرأ أيضاً:
ألغاز الاغتيالات السياسية
من الناحية السياسية، تبدو الاغتيالات أقرب إلى الكوارث الطبيعية منها إلى انفجاراتٍ مُحكمة، فهي تُحدث فوضى، وقد تغيّر مسار التاريخ. غير أن منفّذيها لا يمكن أن يعرفوا مُسبقًا الاتجاه الذي ستأخذه الأحداث بعدها، حين أطلق غافريلو برينسيب الرصاصة التي قتلت الأرشيدوق فرانز فرديناند عام 1914، كان هدفه انتزاع استقلال السّلاف الجنوبيين من الإمبراطورية النمساوية - المجرية؛ لكن ما نتج عن فعلته كان اندلاع الحرب العالمية الأولى ومقتل ملايين البشر.
وعلى الضفّة الأخرى، عندما اغتال متطرّف يميني رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين عام 1995 خلال تجمع مؤيّد لاتفاقات أوسلو، يمكن القول إنه حقق هدفه كاملًا، وهو القضاء المستمر على مسار السلام. لهذا يُشار إلى اغتيال رابين أحيانًا بوصفه «أنجح» عملية اغتيال في التاريخ الحديث.
تبدو الحادثتان مختلفتين جذريًّا، لكنّهما، وفق معيار المؤرخ سايمون بول في كتابه «موتٌ تحت الطلب: تاريخٌ حديث لعمليات الاغتيال»، تشترك الواقعتان في سمات أساسية. يكتب بول: «قبل عام 1914، كان الاغتيال حكرًا على أفراد ساخطين، أو المتآمرين في بلاطات الملوك، أو جماعات صغيرة من المتحمسين لقضايا خاسرة». غير أنّ برينسيب دشّن نموذجًا جديدًا، فحتى لو كانت نتائج الاغتيال فوضوية، فإن دوافعه أصبحت واضحة. صار القاتل السياسي شخصية «عقلانية»، دقيقة في اختيار هدفها، ذات دوافع قابلة للقراءة، وفي كثير من الأحيان جزءًا من حركة أوسع أو مؤامرة تستهدف إسقاط السلطة.
وعلى الرغم من أنّنا نسمع غالبًا عن برينسيب وحده، فإنه كان جزءًا من خلية اغتيال تضم سبعة رجال، مرتبطة بشبكة سرية أكبر بكثير. أما قاتل رابين، فكان ينتمي إلى حركة آخذة في الاتساع، ضمّت في صفوفها إيتمار بن غفير، السياسي الذي هدّد رابين مباشرة على الهواء قبل اغتياله، والذي يشغل اليوم منصب وزير الأمن القومي في إسرائيل.
يلاحظ بول تاريخيًّا أنّ «النتائج المباشرة للاغتيالات خيّبت آمال منفذيها في معظم الأحيان»، ما عدا اغتيال رابين، فهي واحدة من الاستثناءات النادرة. مثال آخر محتمل هو ما جرى عام 1942، حين نفّذ عملاء بريطانيون ومقاتلون من المقاومة التشيكية عملية مشتركة لقتل راينهارد هايدريخ، أحد أكثر قادة النازية وحشية، وأحد مهندسي «الحل النهائي». كانت دوافع العملية واضحة تمامًا، وأصبحت، كما يكتب بول، «نموذجًا للاغتيال الشريف الذي ينفّذه ديمقراطيون يتصرّفون بضمير». لكن النتائج الأخرى كانت كارثية، فقد أغار النازيون على قرية ليديتسه التي آوت يومًا أحد مشغّلي الراديو البريطانيين، فقتلوا رجالها، وزجّوا بنسائها في معسكرات الاعتقال، وأخذوا الأطفال «الآريين» لتربيتهم في أسر ألمانية، بينما ذبحوا بقيتهم.
ويختصر بول ما خلص إليه التقرير البريطاني حول اغتيال هايدريخ بقوله: «كان نجاحا تقنيّا... وكارثة عمليّاتية».
يُعد كتاب «موتٌ تحت الطلب: تاريخٌ حديث لعمليات الاغتيال» عملًا متينًا ومشحونًا بالتفاصيل، وأحيانًا جافًا، ولا يبدو أنه سيُلهب خيال أصحاب نظريات المؤامرة، أو أي قارئ آخر، لكنه يظل كتابًا مفيدًا بفضل شموله الدولي ودقّة توثيقه. والأهم أنّه لا يُهمل عمليات الاغتيال التي ترعاها الدول، خصوصًا تلك التي خطّطت لها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية خلال الحرب الباردة. ويبدي بول مزيجًا من السخرية والذهول وهو يقتبس من دليل تدريبي للوكالة حول الاغتيالات، فمع أن «القتل لا يمكن تبريره»، كما ينصح الدليل، فإن التخلّص من زعيم سياسي يشكّل صعوده خطرًا مباشرًا على قضية الحرية قد يُعد أمرًا ضروريًا»، ما يعني، بحسب الدليل، أن «الأشخاص الذين يشعرون بالاشمئزاز الأخلاقي لا ينبغي لهم محاولة تنفيذ الاغتيال». أما لمن يتجاوزون تلك الحساسيات، فيوصي الدليل بـ«الطريقة الأكثر فعالية»، وهي إسقاط الهدف من ارتفاع لا يقل عن خمسة وسبعين قدمًا على سطح صلب. ويُفضَّل تجنّب المسدسات، فيما يُقبل باستخدام البنادق، التي أصبحت في القرن الحادي والعشرين السلاح الأكثر شيوعًا في عمليات الاغتيال.
ماذا يريد القتلة السياسيون اليوم؟ سؤال يعتمد جوابه على كل حالة، لكنه سؤال تستدعيه الظروف، خاصةً مع بروز مؤشرات على تصاعد العنف السياسي في الولايات المتحدة. ومن أبرز الأمثلة الحديثة محاولتا اغتيال الرئيس دونالد ترامب، إحداهما في بنسلفانيا عام 2024 حين أصابته رصاصة أثناء إلقائه خطابًا انتخابيًّا. وهناك محاولة إحراق منزل حاكم ولاية بنسلفانيا جوش شابيرو في أبريل بينما كان مع أسرته بداخله، إضافة إلى مقتل النائبة في برلمان ولاية مينيسوتا ميليسا هورتمن وزوجها مارك في يونيو، واغتيال الناشط اليميني تشارلي كيرك في سبتمبر. وبعد أسبوعين فقط من مقتل كيرك، أطلق رجل النار في مركز احتجاز للهجرة في دالاس، لكنه قتل اثنين من المحتجزين بدلًا من الضباط الذين كان يستهدفهم، بعدما استبدّ به - وفقًا لوالديه - خوفٌ هوسي من إصابته بمرض إشعاعي.
استقراء سريع لهذه الحوادث يوحي بأن عصر برينسيب قد انتهى. فقد عاد المشهد إلى زمن المتآمرين الغاضبين والمنعزلين، وإلى رجال ــ فما زال معظم القتلة من الرجال ــ تحرّكهم دوافع ضبابية تتكوّن من مظالم شخصية واضطرابات نفسية ورحلات عبثية عبر الإنترنت. توماس ماثيو كروكس، الشاب العشريني الذي حاول قتل ترامب في بنسلفانيا، كان جمهوريًا مسجّلًا، لكنه ذو ميول متشابكة، ويبدو أنه كان يفاضل بين عدة أهداف بارزة، من بينها جو بايدن وترامب، قبل الحادثة بأسابيع.
ولا نعرف بعد ما الذي كان يأمل تايلر جيمس روبنسون، الشاب من ولاية يوتا المتهم بقتل تشارلي كيرك، في تحقيقه. (لم يُقدّم روبنسون حتى الآن أيّ دفوع.) المدّعي العام جيف غراي رسم سيناريو مفاده أن روبنسون، الذي نشأ في عائلة جمهورية، كان قد اتجه مؤخرًا نحو اليسار وأصبح ــ كما أخبرت والدته الشرطة ــ «أكثر ميلا للدفاع عن حقوق المثليين والمتحولين». وبحسب غراي، كان شريك روبنسون في السكن ــ وهو شريك عاطفي كذلك. وفي تبادل رسائل بعد مقتل كيرك، سأله شريكه: «لماذا فعلت ذلك؟» فأجاب روبنسون: «لقد اكتفيتُ من كراهيته. بعض أشكال الكراهية لا يمكن التعايش معها».
مهما كان روبنسون يظنّ أنه سيحققه، فإن نتائج اغتيال كيرك جاءت عكس ما قد يتخيّله، فهناك الآن تشديد فيدرالي ومحلي على حرية التعبير، وصعود متزايد لشخصية المتطرف الأبيض نك فوينتس الذي يسعى لملء الفراغ الذي تركه كيرك. وكفعلٍ يُفترض أنه تضامن مع المتحوّلين ــ إن كان ذلك ما قصده ــ فقد ترك شريكه، وربما مجتمع المتحوّلين عمومًا، في وضع أكثر هشاشة.
في العقود الماضية، كان العنف السياسي في الولايات المتحدة غالبًا ما يُنفَّذ من قِبل جماعات منظَّمة مثل «الطقس تحت الأرض» اليسارية في سبعينيات القرن الماضي، والميليشيات اليمينية وحركات مناهضة الإجهاض في الثمانينيات والتسعينيات. أمّا اليوم، فأغلب هذه الأعمال يرتكبه أفراد لا ينتمون إلى أي تنظيم. وكما كتبت رايتشل كلاينفيلد، الزميلة البارزة في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، فإن هناك «تيارًا أعمق، وهو تفكّك العنف السياسي وخروجه من إطار الجماعات، بينما يتطرّف الأفراد ذاتيًا عبر التفاعل على الإنترنت».
و«أنتيفا» التي يلوّح بها ترامب دائمًا كفزّاعة جاهزة ــ شبكة قاتلة ومنظمة تشبه الجيش الجمهوري الإيرلندي ــ لا وجود لها أصلًا. في الواقع، نحن أمام أفراد يقدمون على أفعال مباغتة ومبهمة لا تبدو جزءًا من أي حملة واضحة المعالم. وحتى حين يخلّفون وراءهم «رسالة» ــ بيانات مبتورة، أو سلسلة منشورات على مواقع التواصل، أو كلمات منقوشة على أغلفة الرصاص ــ فإن الوضوح يظل عصيًّا. نحن نقرأ آثارًا باهتة لأفكار لم تتماسك لتصبح أيديولوجيا.
وفي تعليقها على محاولة اغتيال ترامب، قالت كاثرين كينِيلي، الخبيرة في تقييم التهديدات، لصحيفة «نيويورك تايمز»: «مثل هذه الحوادث التي نعجز عن فهم دوافعها أصبحت أكثر شيوعًا».
لكن ذلك لا يمنع السياسيين والناس من فرض تفسيراتهم الخاصة بعد وقوع الأحداث. ففي أكتوبر الماضي، سُئل مايك جونسون، رئيس مجلس النواب، عن تهديدات بالقتل وُجهت لهَكيم جيفريز، زعيم الديمقراطيين في المجلس، من رجل شارك في اقتحام الكونغرس في السادس من يناير، ثم سُجن ثم نال عفوًا من ترامب. فأجاب جونسون بالإشارة إلى ما سمّاه «ثقافة الاغتيال» التي ــ حسب زعمه ــ تغذيها اليسار، مضيفًا، بسخافة واضحة: «فلنحرص على ألا نحولها إلى قضية حزبية».
كان ذلك تفسيرًا متعسّفًا، لكن الواقع أن الجمهور المتلقي للعنف السياسي بات هو الذي يركّب المعنى ويرسم الرواية. وحين لا نجد مؤامرة، نخترع واحدة.
ومن بين جميع حوادث الاغتيال التي شهدتها الولايات المتحدة مؤخرًا، يبدو أن الحادثة التي تمتلك «أوضح سردية»، أو على الأقل أكبر جمهور وجد نفسه قادرًا على تبنّي تفسير لها، هي مقتل الرئيس التنفيذي لشركة «يونايتد هيلثكير» براين تومبسون، في ديسمبر 2024.
قُتل تومبسون بالرصاص خارج أحد فنادق وسط مانهاتن بينما كان يحضر اجتماعًا لفعالية الشركة السنوية مع المستثمرين. وفي قطاع يُعرف أصلًا بسمعته السيئة في رفض المطالبات وتحميل المرضى ديونًا طبية ضخمة، كانت شركة «يونايتد هيلثكير» سيئة السمعة أكثر من غيرها. وخلال فترة إدارة تومبسون، ارتفعت أرباح الشركة من 12 مليار دولار في سنة 2021 إلى 16 مليار دولار في سنة 2023.
وعندما اتضح أن المتهم هو لويجي مانِيوني، شاب وسيم في السادسة والعشرين، خريج جامعة بنسلفانيا، ويبدو أنه اختار هدفه بعناية، تحوّل بسرعة إلى بطل شعبي لدى كثير من الأمريكيين ــ روبن هود بقلنسوة، المنتقِم الذي أطلق آلاف النكات والصور الساخرة.
وقد كتب مانِيوني في دفتر بسلك حلزوني صادَرته الشرطة: «مشكلة أغلب الأعمال الثورية أن رسالتها تضيع على الناس العاديين.» وكتب أيضًا: «مؤتمر المستثمرين فرصة ذهبية. إنه يجسّد كل ما هو خاطئ في نظامنا الصحي. ماذا تفعل؟ تقضي على المدير التنفيذي في مؤتمر المحاسبين الطفيليين. إنه عملٌ موجَّه ودقيق ولا يعرّض الأبرياء للخطر. والأهم من ذلك ــ الرسالة تفسّر نفسها بنفسها.»
لكن ــ وكما يشير الصحفي جون هـ. ريتشاردسون في كتابه الجديد «شخصية لويجي: كيف تشكّلت وما الذي يعنيه الاغتيال؟»، لم تكن الرسالة واضحة بالقدر الذي ظنّه مانِيوني. يقول ريتشاردسون متسائلًا: «ماذا كان يُفترض أن يحققه هذا الاغتيال الرمزي؟ سلسلة هجمات على رؤساء الشركات؟ انهيار المجتمع التكنولوجي؟ ثورة؟ أم نظام رعاية صحية أفضل؟».
ريتـشاردسون ــ وهو صحفي بارع واسع الاطلاع ــ لا يجد إجابات مقنعة عن هذه الأسئلة. فهو لم يُجرِ مقابلة مع مانِيوني ولا مع أي شخص مقرّب منه. كما أن القضية لم تعد إلى المحكمة بعد، ومن ثمّ لم تتضح ملامح دفاعه القانوني بالكامل. (مانِيوني دفع ببراءته من تهم القتل والملاحقة).
حاول ريتشاردسون أن يقتفي أثر ما تبقى من حضور مانِيوني على الإنترنت، تتبع منشوراته على «ريديت»، والحسابات التي كان يتابعها على «إكس»، وقوائم الكتب التي راجعها أو دوّنها على «غودريدز». ما وجدَه كان صورة لشاب يميل إلى كتب التطوير الذاتي وتعليقات اجتماعية شائعة، ويقدّم نصائح لطيفة للآخرين حول آلام الظهر ــ وهو أمر عانى منه بنفسه قبل خضوعه لعملية ناجحة ــ ولا يبدو أنه كان غارقًا في نقاشات متعلقة بالسياسات الصحيّة الأمريكية. كانت أفكاره حول ما هو «خاطئ» في العالم، مثل كثير من الناس، صادقة لكنها غير مكتملة، ولا تنتمي بوضوح إلى اليمين ولا اليسار.
يكتب ريتشاردسون: «نظرة إلى حسابات لويجي وهو يدخل عالم الكبار تكشف أنماطًا ثابتة تتمثل في اهتمامه بالصحة، والذكاء الاصطناعي، والمواد المخدرة المهلوسة، وتغيّر المناخ، والطاقة النووية، واللحوم المنتَجة في المختبرات، والتطور، وصغار الغوريلا... إلى جانب انجراف تدريجي نحو ما يُسمى «المانوسفير»؛ أي دائرة المؤثّرين الذكور ذوي الميول اليمينية».
ولفهم مانِيوني أكثر، عاد ريتشاردسون إلى تقاريره السابقة عن ناشطي «الإرهاب البيئي»، وعن «التسريعيين» ــ وهم الذين يعتقدون أن تسريع التغير التكنولوجي سيُسهم في إسقاط النظام القائم ــ وعن الشباب الذين تأثروا بأفكار تيد كاتشينسكي، «مفجّر الجامعات والطائرات» المعروف بـ«يونيبومبر». كما اعتمد على مراسلات سابقة مع كاتشينسكي نفسه. هذه المقارنات مفيدة بحد ذاتها، لكنها لا تسلط الكثير من الضوء على مانِيوني، الذي يبدو أنه لم يتعمّق في تلك الأفكار إلا هامشيًا. بل ويمكن القول إن قصة كاتشينسكي نقيض قصة مانِيوني تقريبًا، فالأول كتب بيانًا طويلًا ومعقّدًا ضد المجتمع التكنولوجي الحديث، وشنّ حملة تفجيرات قتلت ثلاثة أشخاص وأصابت ثلاثة وعشرين، كثير منهم أبرياء لا علاقة لهم بصراعاته الفكرية. أمّا مانِيوني، فقد كانت حجّته ضد شركات التأمين موجزة وحديثة العهد، وتركّزت على هدف واحد مختار بعناية.
صحيح أن مانِيوني قرأ بيان «يونيبومبر» وراجعه، لكنه عبّر بوضوح عن رفضه لطرقه: «تيد كاتشينسكي يطرح نقاطًا مهمة بشأن مستقبل الإنسانية، لكنه لإثبات وجهة نظره يرسل قنابل إلى الأبرياء بلا تمييز.»
لكن الفعل يصبح مفهومًا ــ وأكثر من ذلك، لا يُمحى ــ عند النظر إلى ردود الفعل عليه. نعم، كان جزء من التمجيد الساخر لمانِيوني والشماتة في موت تومبسون مجرد هراء بارد المشاعر على الإنترنت. لكن جزءًا كبيرًا منه عبّر عن ألم حقيقي وغضب مشروع حيال نظام الرعاية الصحية القائم ــ النظام الذي يعيش الناس ويموتون تحته.
تستشهد تالبت بمعلق على «فيسبوك» اقتبسَ ريتشاردسون كلامه: «بعيدًا عن المزاح، لا أحد هنا مخوّل أن يقرر من يستحق الحياة أو الموت. هذا عمل خوارزمية الذكاء الاصطناعي التي صممتها شركات التأمين لتعظيم أرباحها من صحتك».
بالنسبة لبعض الناس، بدا مقتل تومبسون أشبه بعملية اغتيال «مشروعة» على غرار اغتيال هايدريش النازي. وفي استطلاع أجرته جامعة شيكاغو بعد الحادثة، قال سبعة من كل عشرة أمريكيين إن قطاعي التأمين والرعاية الصحية يتحمّلان «قدرًا متوسطًا» على الأقل من المسؤولية عنه.
بعد ما يقارب عامًا على الحادثة، جمع صندوق الدفاع القانوني لمانِيوني أكثر من مليون دولار. وبحسب الصفحة المخصّصة للأسئلة الشائعة، يتلقى مانِيوني ما بين عشر رسائل ومئة وخمس عشرة رسالة يوميًا، يسجّلها جميعًا ويرد على كثير منها. أما الصور التي تُرسل إليه، فبلغت حدًا جعله «يرجو بلطف» ألا يرسل الناس أكثر من خمس صور دفعة واحدة.
يقترح ريتشاردسون أن «النتائج البعيدة المدى لاغتيال براين تومبسون» قد تدفع في اتجاه تحقيق نظام رعاية صحية شامل يطالب به ملايين الأمريكيين. لكن ما يتطلّبه هذا الهدف فعلًا هو حركة اجتماعية وإرادة سياسية راسخة. وما لدينا حتى الآن ليس سوى «عبادة شخصية» تحيط بشاب في السجن، وتلال من رسائل المعجبين.