لجريدة عمان:
2025-07-29@18:15:58 GMT

لا تنسوه .. لا تنسوه

تاريخ النشر: 30th, April 2025 GMT

لا تنسوه .. لا تنسوه

الشاعر الذي ما زال تحت الأنقاض لا تنسوه.

قبل الحرب بأيام، لبّى دعوة مدرسة ثانوية، قرأ شعرًا للبنات، عاد إلى البيت، تناول طعامه من يد ابنته ومعبودته جمانة، أشعل ألف سيجارة، غفا قليلًا على الأريكة، ثم جاءت الحرب وجرفت سليم النفار وغفواته وبيته والأريكة وجمانة ويدها والعائلة جميعها، والطالبات والمدرسة والقصيدة.

لا تنسوه.

آهٍ يا عظام الشاعر، ويا عظام القصيدة.

كيف سأشرح موتك يا سليم؟ فأنت لست قصيدة عمودية فـي منهاج مدرسي، ولست مسألة رياضية أو خبرًا سياسيًا على شاشة فضائية ثرثارة، ولا طقسًا مضطربًا سببه تحوّل مفاجئ فـي الفصول.

كيف إذًا سأشرح موتك يا سليم؟

لا أمتلك والله رفاهية هذا الشرح، أن أقف أمام جمهور وأحكي عن شاعر وشهيد وصديق.

كيف سأشرح موتك يا سليم؟

ولأنني أقف أمام جمهور يحب شعبك يا سليم، فسأبذل جهدي لأقول شيئًا عنك وعن جمانة.

هل قلت جمانة؟ يا الله، جمانة جمانة جمانة جمانة...

حسنًا، سأبدأ من جمانة.

جمانة، التي من اثنين وعشرين عامًا، ومن فضةٍ فـي الكلام، ومن حديقة من الضحكات، ومن نهر من الشوكولاتة.

جمانة التي من أبيها، من غزة، من فلسطين.

قبل خمس عشرة سنة، وفـي رام الله الساحرة، على هامش معرض كتاب، كنت أجلس مع سليم، أو لأكن واقعيًا: كنت أجلس فـي صوت سليم، وهو يحكي عن ابنته جمانة.

وأن تجلس فـي صوت صديق يحكي بحرارة عن ابنته ذات السبعة أعوام، فهذا يعني أنك تجلس فـي عين الزمن:

«هل تعرف يا زياد أن جمانة عبقرية فـي الرسم؟ ترفع البحر ليصير سماء، وتسقط السماء لتصبح بحرًا، هل تتخيل المشهد يا زياد؟ هذا المشهد من اختراع ابنتي جمانة. جمانة حياتي يا زياد، حياتي حياتي.

هل تعرف ماذا تقول معلمة اللغة العربية عن جمانة، يا صديقي؟ تقول إن بنات الشعراء قصائد، وإنها فخورة لأنها تُعلّم قصيدة من قصائد غزة».

هل تعرف ماذا تحب جمانة يا صديقي؟

تحب الله، والريح، والمطر، ومحمود درويش، والقوارب، وكتب أبيها، والشوكولاتة.

هل تعرف بماذا تحلم جمانة يا صديقي؟ أن تصبح جنية ترشد بحارة غزة الفقراء إلى بقع السمك الكثير.

تحفظ جمانة أسماء البحارة الفقراء وتعرفهم شهقة شهقة، وسعالًا سعالًا، وتميزهم من خطواتهم وظلالهم وأصواتهم وقواربهم النحيلة، ونعاسهم وخوفهم وتعبهم وأفواههم القليلة الأسنان.

على هامش معرض كتاب قبل خمس عشرة سنة فـي رام الله الساحرة، جلست مع سليم النفار.

كان سليم جبلًا ضخمًا من النار وكتلة عالية من القطن.

كلما كتب سليم قصيدة، شبّ فـينا وفـيه حريق، ونهض سؤال، والتَمعت عينا طفل.

سميته شاعر الطفولة والحرائق.

حافظ التوازن العبقري بين جبل النار داخله الضخم وكتلة القطن العالية.

سيغادر سليم رام الله عائدًا إلى بيته فـي غزة محمّلًا بقوالب شوكولاتة إلى جمانة، هدية من عمها «زوزو» كما تخاطبني.

ستصل الشوكولاتة إلى جمانة، ستتصل بي وتشكرني بصوتها الذي يشبه صوت غزة.

ولا تسألوني عن صوت غزة.

قلت لكم: إني عاجز عن الشرح، وإني الآن مرتجف أمامكم أخوض مغامرة الكلام عن موت سليم وشعره وحياته وموته.

أرجو أن تعذروني على تشتت لغتي وعلى هروبي إلى مجاز المجاز خوفًا من رعب الواقع الذي يشبه المجاز.

ستستمر قوالب الشوكولاتة فـي رحلاتها السنوية مع كل معرض كتاب يحدث فـي رام الله.

عبر قلب سليم، سيستمر قلب «عمو زوز» فـي الفرح، لأن طفلة من غزة تفرح هناك، فـي بلاد الفرح الناقص.

ستكبر جمانة كل عام، لكن الشوكولاتة لن تكبر.

ستظل الطفلة الصديقة لجمانة ثابتة المذاق، كاملة الاستعداد للذوبان السعيد فـي قلب أجمل طفلات غزة.

ستواصل جنية غزة الغامضة، كل عام، وهي تطل فـي فجر القطاع من شرفتها على الشاطئ، إرشاد بحارة غزة الفقراء قليلي الأسنان إلى مناطق السمك الكثير.

وستواصل طفلة اسمها ميار الاستماع الممتع من والدها البحار الفقير قليل الأسنان لحكاية السماء التي تمطر شوكولاتة لذيذة، وقصة السمك الكثير الذي يلمع فجأة على الشاطئ فـيما يشبه تدخلًا إلهيًا رحيمًا.

لم تتوقف رحلات الشوكولاتة من رام الله إلى غزة.

صار عمر جمانة اثنين وعشرين قالب شوكولاتة.

فـي معرض الكتاب الأخير، صيف ٢٠٢٣، وفـي فندق «بيوتي إن» حيث ينزل سليم طيلة أيام المعرض، جلست مع سليم فـي آخر ليلة له قبل أن يغادر إلى موته هناك، فـي بلاد الفرح الناقص.

ست ساعات من الحديث مع سليم، دخّن فـيها نصف مليون سيجارة، وغير جلسته فـي كرسيه ألف مرة، وحكى لي بالتفصيل الذابح قصة استشهاد والده فـي لبنان، تحشرج صوته فـيها آلاف المرات، ومُقسمًا بشرف مجلة الكرمل، حيث مكتب محمود درويش أمامه تمامًا فـي مبنى مؤسسة السكاكيني، أن يواصل النضال بأشعاره إلى أن تعود البلاد إلى بلادها.

وقصة انتقاله من تنظيم إلى آخر بحثًا عن الصدق المطلق كما قال، لكنه لم يجد هذا الصدق المثالي فـي أي تنظيم.

لكم الحائط أثناء هذه الحكاية آلاف اللكمات.

فوجد نفسه أخيرًا فـي حضن تنظيم قاده إليه صديق لوالده الشهيد، قائلًا: «هنا أفضل الموجودين. فكن هنا وانعم بدفء ما، يا سليم.»

أول الحرب.

اتصلتُ بسليم وجمانة قائلًا لهما: «ستصل الشوكولاتة كما كل عام، لا تقلقا.»

سمعتُ ضحكة الجنية من غرفة مجاورة، شممتُ دخان سيجارة سليم، ورائحة الكفتة بالطحينية من المطبخ، الأكلة التي تعشقها جمانة.

ثم فجأة سمعتُ انفجارًا ضخمًا قريبًا.

بعد أسبوع، سأسمع عن قصفٍ لعمارة سكنية وسط غزة.

وسأعرف أن سليم وعائلته كلها، وشقيقه وعائلته كلها، قد دُفنوا تحت الأنقاض.

بعد أسبوع، سأجد بالصدفة فـي هاتفـي رسائل غير مقروءة من سليم.

من هاتفه سأقرأ الرسالة الأخيرة، وهي الأهم:

«عزيزي زياد، نحاول الاتصال عليك. جمانة كتبت قصيدة عنوانها (شوكولاتة وبحارة)، وهي تريد قراءتها لك على الهاتف».

لم أنتبه والله للاتصال، يا سليم.

سامحني يا حبيبي.

تستمر الحرب، ويغزو الصهاينة غزة، وعلى شاطئ بحرها، يسأل جندي مدجج بالكراهية لحجر غزة وبشرها ضابطَه، بينما كانا يمشيان على الشاطئ مع مئات الجنود:

من أين يأتون بالشوكلاتة وهم تحت الجوع والحصار؟.

لم يجب الضابط، «أتلاحظ شيئًا؟ غريب هذا الشعب ،انظر هنا وهناك، ثمة المئات من أغلفة قوالب شوكولاتة فاخرة هنا».

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: رام الله مع سلیم هل تعرف

إقرأ أيضاً:

من يحرك «الوتد»؟ (3)

شعب الله المختار للعذاب...!!

د.  مجدي العفيفي

(18)

اليهود الصهاينة: حين يصبح تحريك الأوتاد عقيدةً تُروى وتُدوَّن وتُقدَّس

منذ أن وُجدوا على هذه الأرض، واليهود لا يُقيمون خيمةً ليست لهم، إلا لينهار وتدُها لاحقًا.

منذ أن حملوا كتبهم، وراحوا يمزّقونها بأيديهم، تارةً بالتأويل، وتارةً بالتزوير، بدأت لعبة الأوتاد...

لعبةٌ لا تُمارَس بعصبيةٍ عابرة، بل بدهاءٍ متجذّر، بعيونٍ تترقّب أين الضعف في خيام الآخرين، وبأيدٍ تتقن شدّ الوتد ثم خلخلته... لا لشيء إلا لتسقط الخيمة فوق من فيها.

(١٩)

تحريك الأوتاد... من التوراة إلى جغرافيا الدم

لسنا بحاجة إلى وثائق سرية، ولا إلى نظريات مؤامرة فضفاضة، فالأمر مكتوبٌ في العلن، في التوراة نفسها التي لم تبقَ كما أُنزلت، ولا بقيت كما أراد لها الله، بل كما شاء العقل اليهودي المحرّف أن تكون: "وإذا دخلتَ أرضًا ليست لك، فاقتلع شعبها من جذوره... واضرب فيهم بالسيف واللعنة."

»حين تقرب من مدينة لكي تحاربها، استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك.
وإن لم تسالمك بل عملت معك حربًا، فحاصرها.. وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك، فاضرب جميع ذكورها بحد السيف..
وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كل غنيمتها، فتغتنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك.

هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدًا، التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا، فلا تستبقِ منها نسمةً ما«.

(سفر التثنية – الإصحاح العشرون)

ثم جاء القرآن العظيم ليُرسم الصورة بإحكام: ﴿كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادًا والله لا يحب المفسدين﴾ (المائدة: 64).

ومرّت الأجيال، ولم يتغير جوهر اللعبة... هي ذاتها: تحريك الأوتاد.
في كل أرضٍ حلّوا بها، لم يطلبوا مأوى فقط... بل بدأوا بهدم خيام غيرهم.
من مصر إلى بابل، من يثرب إلى أوروبا، من فلسطين إلى نيويورك... في كل مرة، تبدأ القصة بذريعة، وتنتهي بالفوضى.

(٢٠)

هل تخريب العالم... جينات يهودية؟

قد يبدو السؤال قاسيًا... لكن التاريخ نفسه يجيب: ليس الأمر متعلقًا بدين، بل بعقيدةٍ تمّت هندستها بدقة داخل الذهنية اليهودية.

فكرة "شعب الله المختار" -للعذاب- ليست مجرد نص ديني، بل مبرر وجودي لرفض الآخر.

وهم "أرض الميعاد" لا يعني فقط فلسطين، بل أي أرض يمكن الوصول إليها وخلع وتدها.

الطقوس، التلمود، القصص، كلها تدور حول السيطرة والهيمنة والنقمة الأبدية من التاريخ والناس والإله نفسه...

فهم لا يعيشون داخل جغرافيا، بل يحيكون شبكة خيوط فوق الجميع.

إن لم يكن بالإعلام، فبالمال... وإن لم يكن بالمال، فبالتشريع... وإن لم يكن بالتشريع، فبصناعة العدو، وتحديد من هو "الشرير" و"الإرهابي" و"المعادي للسامية".

وهم، في كل مرة، لا يُمسكون بالمطرقة... بل يكتفون بتحريك الوتد... ثم يراقبون الخيمة تسقط... ويقولون: "نحن لا دخل لنا، فقط كنّا نحتمي".

 

 

(٢١)

الصهيونية: الوتد الأكثر خطورةً من إبليس نفسه

الصهيونية ليست ديانة، ولا قومية، بل مشروع إبليسي خالص، يتقن صناعة الفتن، ويعرف بالضبط أين يزرع الكلمة، وأين يغرس الشك، وأين يُشعل النار.

هي من صنعت "الشرق الأوسط الجديد" لا أمريكا وحدها، وهي من موّلت الحروب، والخرائط، والانقلابات، والشاشات التي تُبرر الخراب، وهي من حوّلت ضحيتها إلى جلّاد، وجلّادها إلى ضحية.

الصهيونية اليوم لا تحرّك وتدًا في الخفاء، بل تفعلها على مرأى الكوكب كله، تُقنّن الاحتلال، تُجرّم المقاومة، تضحك في مؤتمرات الأمم المتحدة، بينما الطائرات تُسقط خيام الأطفال في غزة، وتنشر فكرها في مناهج التعليم والإعلام، حتى بات الناس يُعيدون سرد روايتها دون أن يشعروا.

إن إبليس -إن جاز التعبير- يُفسد بأدوات خفية... أما الصهيونية، فقد تفوقت عليه، فهي تُخرّب باسم القانون، وباسم الدين، وباسم السلام.

 

(٢٢)

من يُثبّت الوتد في وجههم؟

سؤال أشدّ من المستحيل... لأن من يريد أن يثبت الوتد، عليه أن يكون واعيًا للعبة كلها، ألا يكرر خطابهم، ولا يردد كلماتهم، ولا يراهم بشرًا فقط، بل مشروعًا خبيثًا له جذور فكرية وسياسية ومالية متشابكة.

من يُثبّت الوتد، لا يكفي أن يكرههم، بل أن يُفكّك آلتهم، أن يفضح خطابهم، أن يخرج من أسر روايتهم، أن يُعيد تعريف العدو من جديد، لا كما ترسمه شاشاتهم.

اليهود -ومنذ بداياتهم- لم يكونوا كتلةً دينية فقط، بل عقلية تبحث عن المعركة حتى في مأمن، عن الضحية حتى في النصر، عن الوعد حتى في الكارثة.

هم لم يحتاجوا إلى إبليس... لأنهم اختاروا أن يكونوا أوتاده في الأرض، يحركونها في الظل تارة، وفي العلن تارة أخرى، ولا يعنيهم من يسقط... طالما بقيت خيمتهم فوق الجميع.

فاحذر أن تكون منهم، أو أن تُصفّق لهم، أو أن تصمت حين ترى وتدًا يُحرّك.
لأنك -إن سكت- ربما تكون الخيمة التالية التي تُهدم، فوقك... وبيدك.

ونواصل السردية الوتدية الإبليسية إن كان في العمر بقية!

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • بالشورت.. ظهور لافت لـ مي سليم على الشاطئ
  • مؤتمر مستقبل وطن | الفنان أحمد فؤاد سليم: الرئيس بيثق فينا ولازم نكون قد الثقة
  • سلوى عثمان وأحمد فؤاد سليم يدعوان المصريين للمشاركة في انتخابات الشيوخ
  • الرُّقْيَةُ الشَّرْعِيَّة.. شِفَاءٌ يُرْتَجَى أَمْ مَكَاسِبُ تُجْتَنَى
  • عرض قطري لرضا سليم بالأهلي.. اعرف التفاصيل
  • تقرير يحذر من أزمة شوكولاتة في أوروبا بسبب الانهيار المناخي
  • سليم كرافاطة يكشف عن أغنيته الجديدة"مادار فيا"
  • مي سليم تتألق في أحدث ظهور عبر إنستجرام..شاهد
  • من يحرك «الوتد»؟ (3)
  • مي سليم تخطف الأنظار في أحدث ظهور عبر إنستجرام.. شاهد