ثمَّة مُسلَّمة تمهيديَّة يتعيَّن -اليوم- على كل مؤمن بالله ورسوله أن يتشرَّبها حتى تتغلغل في ثنايا نفسه، وتصير طبعا من طبيعته، وهي أننا نقطع آجالنا القصيرة طلبا لألوان المعارف، وتحصيلا لشتَّى الخبرات، وطيّا لأعمارنا بالسنوات؛ حتى تتهيأ نفوسنا بهذا كله في لحظة معينة، وتصلُح لتلقي القرآن كما تلقَّاهُ العربي الأول، أو على الأقل ببعض الاستعداد الفذ الذي تمتَّع به هذا العربي الحُجَّة.
وهذا لا يعني أننا نخرج صفر اليدين إذا حاولنا التنعُّم بالفيوضات الإلهيَّة في مراحل الحياة المبكرة، وقبل أن تصقلنا المعارف وتُهذِّبنا رياضة الأعوام وخبراتها، وإلا لانتفى التكليف لانتفاء المقدرة على تلقي أمر الله وحمله على مُراده عز وجل؛ بل يعني أنَّ ما نُحصِّلهُ -حينذاك- مع الجهد الجهيد -في البيئة الحديثة المفسِدة الصارِفة- لا يكاد يعدو فُتاتا مما تلقَّاه العربي الأول بفطرته وحدها، ودون جهد تقريبا؛ العربي الذي سلَّم الله فطرته وحفظ نفسه من غواشي الحضارات الوثنيَّة، لتُحسن تلقي الوحي وتمثُّله؛ حتى صار الوحي المنزَّل عليها غضّا طريّا كأنه حوارٌ ممتدٌّ مع هذه النفس المهيأة لتلقيه والحركة به، بل كأنه وقودٌ خارقٌ كانت تلك النفس الأبية في أشد التعطُّش إليه.
إعداد النفس لهذا التلقي ليس خطوة ثانويَّة، ولا هي نهائيَّة، ولا هو بالمرحلة التي سنتخطَّاها يوما؛ وإنما هي صيرورة أبديَّة تجبُ المواظبة عليها من المهد إلى اللحد، تخليصا للنفس مما يعلق بها في كل يوم، ومراجعة لها فيما تلقَّتهُ بهذه العوالق
وهذا يعني أننا نُنفق الأعمار في محاولة استنقاذ الفطرة وتخليصها من غواشي هذه الحضارة المهيمنة، ومما تغلغل في نفوسنا من سوآتها، وتنقيتها من مُعطياتها المفسِدَة وتصوراتها المشوِّهة، ثم حفظها وصقلها؛ لأن هذه الفطرة هي جهاز الاستقبال الرباني الذي يتنزَّل عليه كلام الله. وكلما انصلحت مرآتها؛ انضبط ميزانها بما تتلقاه من أمر ربها. وما المعارف والرياضة والخبرات -كلها- سوى حروف اللغة التي يستنطق بها القرآن -متى استقامت- جموع الأسرار والمعاني الإلهيَّة التي خُطَّت على لوح الفطرة الحافل ابتداء. أي أننا نُنفق الأعمار في غسل هذه الأدران حتى نسمو إلى مستوى تلقي ذلك العربي البدائي الموصوف بالجهالة والبربريَّة! نُجاهد حتى نتخلَّص من جاهليتنا الحديثة المركَّبة، ونبلُغ المستوى الرفيع لهذه الجاهليَّة البسيطة "النقيَّة"؛ التي لا يحول الله بها -في الغالب- بين المرء وقلبه، إلا أن يكون صاحب القلب عُتلّا زنيما لا يُرجى منه خير!
وإعداد النفس لهذا التلقي ليس خطوة ثانويَّة، ولا هي نهائيَّة، ولا هو بالمرحلة التي سنتخطَّاها يوما؛ وإنما هي صيرورة أبديَّة تجبُ المواظبة عليها من المهد إلى اللحد، تخليصا للنفس مما يعلق بها في كل يوم، ومراجعة لها فيما تلقَّتهُ بهذه العوالق، وكيف تلقَّته، وهل وقع منها موقع العبوديَّة المكلَّفة المأمورة أم أنها تلقَّته على غير الوجه الذي أراده له ربها؛ فضاق به الصدر الجهول، أو تأفَّفت منه عجلة النفس الأمّارة، أو تحرَّج بسببه القلب المهزوم أمام غواشي الوثنيَّة.
هذه الصيرورة الجهاديَّة الجوانيَّة، التي ناط الله بها حُسن تلقي أمره؛ هي في جوهرها تقويضٌ لتسلُّط الأهواء والشهوات، لئلا تتألَّه في النفس بانسياق الأخيرة وراءها لاهثة، سواء أهواء تلك النفس وشهواتها أو الأهواء التي يوحي لها بها شياطين الإنس والجن ليصرفوها عن الإنصات لربها، والإذعان لأمره؛ حتى يتمكَّنوا هُم من بث ما يريدون بين خواء جنبيها، تمهيدا لاستغلالها وتعبيدها لهم في آخر المطاف.
هذه "المكابدة الجوانيَّة" ضروريَّة كذلك لأن حُسن التلقي الذي ستثُمره -مُفرَّقا وعلى مُكث- هو أولى مراحل العمل الذي يقتضيه الإيمان. بل إن العمل دون انضباط آلة هذا التلقي يعني خروج أي عمل مشوها فاسدا مُفسدا -مهما حَسُنت النيَّة- أو يُفضي إلى القعود والنكول -وربما الانسلاخ من الحق والعياذ بالله- نأيا بالنفس عن الصراع المنهك في سبيل ضبط العمل المستحيل تحقيقه في ظل التلقي المشوَّش/ المشوَّه.
ابتغاء الأوجه الجماليَّة والبلاغيَّة والفنيَّة في القرآن، إنما هو عرضٌ جانبي ومحصِّلة ثانوية ينالها المؤمن الذي يتوجَّه إلى كتاب ربه -ابتداء- طلبا للهداية في أمره كله، وفي إصلاح شأنه كله؛ فإنما ينال هذه الأغراض كافَّة بالتبعيَّة، ومعها كل الفوائد الصحيَّة والتغذوية والوقائيَّة من السحر والمس والجن والمرض.. إلخ. لكنَّ هذه الأغراض والمطالب "الدنيويَّة" كلها لا ينبغي أبدا أن تكون أولويَّة المؤمن الناشر لكتاب ربه
وقد جُعِلَ العمل البراني والمكابدة الجوانيَّة صيرورة تبادُليَّة يعتمد كل طرف فيها على الآخر ويُنضجه، ويُكمله. فإن الأعمال ينعكس تحقُّقها على دخيلة النفس وتصوراتها، كما تُغذي المكابدة كل عمل يتشكَّل وتُعين وجهته. ومن يسقُط من القافلة بسبب أداءه اليوغا والانعكاسات الروحيَّة لذلك على سائر عمله، وجه آخر لمن ينتكس به المسير بسبب الاقتراض بالربا أو استعمال بطاقات الائتمان وأثر ذلك على نسيجه الروحي. وأكثر أهل زماننا تُجرَّف أرواحهم ابتداء بتوهُّم "العلم" بمعناه الإلهي في العلوم الطبيعيَّة/ الماديَّة، التي وضع الغرب بناءها ليصرف المؤمن بها عن ربه الحق، أو بانتكاس ولائهم الديني وانحصاره في حدود بلد حُصر فيه أهلهم منذ قرن أو بعض قرن. وإذا كان تدقيق المرء في اختيار خطواته في العمل البراني ضرورة تكوينيَّة لانعكاس آثار أي عمل على جوانيه، فإن المكابدة الجوانية ضرورة وجوديَّة لأنها هي التي تخلع باطل العمل وتجتث جذوره من النفس؛ فتجعلها فيه من الزاهدين. وهذا كله يؤثر فيما نتلقاه عن رب العزة جلَّ شأنه، ويرسم ملامحه وحدوده.
* * *
وقد كثرت في اﻵونة الأخيرة الأبحاث الغربيَّة، التي تصبُّ في أن تلاوة "نص مقدَّس" بجماع النفس لربع الساعة يوميّا يقي الإنسان من الزهايمر والخرف، وهو أمر مُتواتر عند الحفَّاظ وأهل العلم من شيوخنا منذ عقود، بل منذ قرون؛ بيد أنه ليس هو السبب الذي يدفع الإنسان المؤمن لتلاوة كلام ربه العلي. فإن المؤمن مُتعبَّد بالتلاوة غير مسؤول عن آثارها، ولا مُكلَّف بمعرفة هذه الآثار وتتبُّعها أو تحريها! وقد علَّمنا صاحب الظلال -قدس الله روحه الطاهرة- أن ابتغاء الأوجه الجماليَّة والبلاغيَّة والفنيَّة في القرآن، إنما هو عرضٌ جانبي ومحصِّلة ثانوية ينالها المؤمن الذي يتوجَّه إلى كتاب ربه -ابتداء- طلبا للهداية في أمره كله، وفي إصلاح شأنه كله؛ فإنما ينال هذه الأغراض كافَّة بالتبعيَّة، ومعها كل الفوائد الصحيَّة والتغذوية والوقائيَّة من السحر والمس والجن والمرض.. إلخ. لكنَّ هذه الأغراض والمطالب "الدنيويَّة" كلها لا ينبغي أبدا أن تكون أولويَّة المؤمن الناشر لكتاب ربه يتلوه آناء الليل وأطراف النهار، كما يُوهم بذلك بعض الدُّعاة السذَّج الذين يتشدَّقون بشتَّى صور الإعجاز القرآني؛ وإنما يتعيَّن على المؤمن أن يكون توجُّهه للكتاب الكريم مُلتزما بالغرض الأساس الذي أنزله الله له: هداية الإنس والجن وتذكيرهم بربهم الحق، وبيان أمره إليهم في كل شأن يعتري حياتهم. فإنما يتجلى هذا الإعجاز -بالتبعيَّة- تثبيتا من لدن ربنا العلي لعباده المؤمنين، وتوكيدا لهم أن صلاح أمرهم كله -حرفيّا- منوط بالاستجابة لأمره، والانسجام مع نواميسه، وأن هذه اﻵيات زيادة في إيمان الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون؛ "فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ" (التوبة: 124).
وكما تنزَّل القرآن الكريم على حضرة نبينا ليسعى في إبلاغه إلى أمته ثم إلى العالمين، فإننا نسعى إلى هذا الكتاب المعجز -حقيقة ومجازا، جوانيّا وبرانيّا- سعيا نرجو معه لا بلوغ نوع من المعرفة بحرفه المكرَّم فحسب، أو نيل قسط من العلم الإلهي بتأويله فحسب، وإنما نسعى به وله ومعه -أولا وآخرا وفي كل زمان ومكان- إلى الدخول في زُمرة المهتدين به -جملة ودون تمييز- المذعنين لمحكَمِهِ، الواقفين تأدُّبا عند متشابهه.
x.com/abouzekryEG
facebook.com/abouzekry
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء مؤمن القرآن النفس الإيمان القرآن إيمان النفس مؤمن قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة هذه الأغراض ة التی أننا ن
إقرأ أيضاً:
مفتى الجمهورية يشهد حفل تكريم حفظة القرآن الكريم بقرية أم الزين بالشرقية
شهد الدكتور نظير عياد، مفتي الجمهورية ورئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم إحتفالية تكريم حفظة القرآن الكريم والتي نظمتها مؤسسة الحاج عبد العزيز الغرباوي الخيرية بقرية أم الزين بمركز الزقازيق، في حضور الدكتور محمد إبراهيم حامد وكيل وزارة الأوقاف، ولفيف من القيادات الشعبية والتنفيذية وأهالي القرية.
بدأت فعاليات الاحتفالية بكلمه للمهندس أحمد الغرباوي، رئيس مجلس إدارة مؤسسة الحاج عبد العزيز الغرباوي الخيرية رحب فيها بحضور فضيلة المفتي للمشاركة فى الإحتفالية ومعبرًا عن شكره الجزيل لهما، مؤكداً إستمرار دور الجمعية في تشجيع أهل القرآن على حفظه والعمل به.
وهنأ الدكتور نظير عياد مفتي الجمهورية الحضور بحلول العشر الأوائل من شهر ذي الحجة واقتراب عيد الأضحى المبارك، مشيراً إلى أن هذا اللقاء يُعَد من اللقاءات المهمة نظرًا لإرتباطه بأهل القرآن الكريم، ذلك الكتاب الذي أحكم الله آياته في أفضل أيام الدنيا، مستشهدًا بحديث النبي ﷺ: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام»، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء» (رواه البخاري).
وأكد مفتي الجمهورية أن حفظ القرآن الكريم لا ينبغي أن يقتصر على الحفظ فقط، بل يجب أن يمتد إلى الفهم والعمل بمضامينه وأوامره، خاصة في عصر تموج فيه الفتن والأحداث، مشيرًا إلى قوله تعالى: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 38]. وأضاف أن التسلح بالقرآن الكريم والتمسك بأحكامه وحدوده هو السبيل للحفاظ على الإنسان من الفتن والفوز في الدنيا والنجاة في الآخرة، مستشهدًا بقوله تعالى: ﴿ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2]، داعيا حفظة القرآن للعمل بما حفظوه من القرآن الكريم، وعدم الإكتفاء بالحفظ اللفظي، بل الحرص على التطبيق العملي الذي يُخرج الناس من الظلمات إلى النور، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [إبراهيم: 1].
وشدد فضيلة المفتى على أهمية الإحسان من جانب حافظ القرآن الكريم إلى والديه، باعتباره سببًا في رفع درجاتهما، مشيرًا إلى حديث النبي ﷺ: «بروا أبناءكم يبركم أبناؤكم»، مختتما كلمته بتوجيه رسالة إلى أهل القرآن وذويهم حول ضرورة التكامل والتعاون بين المؤسسات الأهلية ومؤسسات الدولة لتحقيق النهضة بالنشء، مستشهدًا بحديث النبي ﷺ: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (رواه مسلم).
وخاطب أولياء الأمور قائلًا: «عليكم بالقرآن الكريم، فهو الضامن والحافظ للأبناء، وهو ما يرسخ قيم العفة والفضيلة، ويدفع إلى الخير، ويُحَصِّن الأبناء بالقول والفعل الحسن، ويعزز الرقابة الذاتية، ويحميهم من الفتن والحروب الفكرية المنتشرة على منصات التواصل وغيرها».
وأعرب الدكتور محمد إبراهيم حامد وكيل وزارة الأوقاف عن سعادته بالمشاركة في إحتفالية تكريم حفظة القرآن الكريم، قائلاً هنيئاً لأبنائي وبناتي حفظة كتاب الله وأهل القرآن لقد خصكم الله بفضله فملأ صدوركم بكلامه وألزمكم مسؤولية عظيمة في الأخلاق والسلوك، مقدما التحيه لأولياء الأمور الذين حرصوا على تحفيظ أبنائهم القرآن الكريم وطالبهم بالإهتمام بتنمية مهاراتهم ومواهبهم بالشكل الذي يضمن مشاركتهم بفاعلية في كافة الفعاليات والمسابقات الدينية التي تقام داخلياً وخارجياً.
شهدت الإحتفالية قيام فضيلة المفتي بتكريم حفظة القرآن الكريم، وتسليمهم جوائزهم، والتي تمثلت في شهادات تقدير وجوائز مالية ورحلات عمره، والتقاط الصور التذكارية معهم تشجيعاً لهم على الإستمرار في حفظ القرآن الكريم وتعلم أحكامه.
واختتمت فعاليات الإحتفالية بتقديم إبتهالات دينية للمبتهل الشيخ ابراهيم السيد راشد نالت إستحسان الحضور.