المقاطعة الاقتصادية.. سلاح الشعوب في وجه الطغيان
تاريخ النشر: 4th, May 2025 GMT
من اليمن إلى غزة… موقف الكرامة لا يُساوَم عليه ففي زمن تتكالب فيه قوى الاستكبار على الشعوب الحرة، لا يمكننا أن نقف صامتين أمام مشهد العدوان المتكرر على اليمن، الذي لم يرتكب ذنباً سوى أنه أعلن وقوفه مع غزة ومع قضايا أمته بوضوح لا لبس فيه. لقد واجهت بلادنا، في الأيام القليلة الماضية، عدواناً أمريكياً غادراً، راح ضحيته أبرياء من الأطفال والنساء، والسبب أن اليمن لم يخضع، ولم يسكت، بل صرخ في وجه الظلم: “أنا مع فلسطين”.
لكن الموقف الرسمي هذه المرة لم يكن صمتاً ولا إدانةً عابرة، بل كان قراراً جريئاً وموقفاً عملياً. ففي زيارة استثنائية لوزارة الاقتصاد والصناعة والاستثمار، أعلن فخامة المشير الركن مهدي المشاط، رئيس المجلس السياسي الأعلى-يحفظه الله- عن منع دخول المنتجات الأمريكية والإسرائيلية إلى اليمن، ومنح مهلة لا تتجاوز ثلاثة أشهر لتطبيق القرار بشكل كامل.. مؤكداً أن المقاطعة ليست خياراً عاطفياً، بل واجب شرعي، يستند إلى نصوص صريحة من القرآن الكريم.
لقد استشهد فخامة الرئيس بالآية الكريمة: “لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا”، وهي دعوة قرآنية لمقاطعة كلمة واحدة كان يستخدمها اليهود لما تحمله من نية سخرية وخبث. فإن كان الإسلام قد أمر بمقاطعة كلمة لما فيها من إهانة، فكيف لا يُلزمنا بمقاطعة منتجات تُستخدم في تمويل الحروب، وشراء الصواريخ، وصناعة الأسلحة التي تزهق أرواح المسلمين في اليمن وفلسطين على حدّ سواء؟
المعركة اليوم لم تعد محصورة في ميادين القتال، بل امتدت إلى ساحة الاقتصاد. ففي كل مرة نشتري فيها منتجاً أمريكياً أو صهيونياً، فإننا نساهم دون أن نشعر في تقوية آلة القتل التي تستهدف شعوبنا. في المقابل، فإن قرار المقاطعة ليس فقط امتناعاً عن الشراء، بل هو موقف أخلاقي، وثورة هادئة، وسلاح بأيدي الشعوب حين تُمنع عنها البنادق.
إن ما يميز هذا القرار اليمني أنه لم يصدر استجابة للغضب الشعبي فقط، بل جاء منسجماً مع هوية الشعب ومبادئه الدينية والإنسانية. هو تأكيد أن الكرامة الوطنية لا يمكن أن تباع أو تُساوَم مقابل رفاهية مزيفة توفرها بضائع العدو. وهو أيضاً تذكير لكل من يتهاون في أمر المقاطعة أن الموقف لم يعد يحتمل التردد، وأن القادم سيكون أشد على من لا يلتزم بهذا الواجب.
إن منح مهلة لثلاثة أشهر هو اختبار للوعي العام، ولضمير كل تاجر ومواطن. فمن يصرّ على الاستيراد أو البيع أو الشراء بعد ذلك، فإنه يصطف بشكل واضح في الصف المقابل للأمة، صف المجرمين والغزاة. وهذا ما أشار إليه فخامة الرئيس بوضوح حين قال: “من لا يقاطع، فليقاطَع من الناس، وقد تُتخذ بحقه إجراءات صارمة.”
اليوم، تُكتب صفحة جديدة من صفحات العزة في تاريخ اليمن. هذه المقاطعة ليست مجرد رد فعل عاطفي، بل معركة وعي وشرف، وأداة مقاومة حضارية. إنها الرسالة التي تقول للعدو: لسنا بحاجة إلى منتجاتكم… كرامتنا أغلى.
ليعلم الجميع ان المقاطعة ليست شعاراً، ولا صيحة لحظية. إنها اختبار حقيقي للإيمان والولاء، امتحانٌ لمدى ارتباطنا بديننا، بقرآننا، بقضايانا. فإما أن نقف في صف الشهداء، أو نكون ممن يموّل قتلتهم.
“إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم” [الممتحنة: 9]
وها هم قد قاتلونا، وأخرجوا أهلنا من فلسطين، وتآمروا على اليمن.
فهل نبقى متفرجين؟ أم نردّ بالوعي… وبالمقاطعة؟
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
مأساة غزّة ليست مجازًا.. والإنسان أولًا
«الإنسانُ أَشكَلَ عليهِ الإنسان» ضمنها التوحيدي في المقابسات سنة 380هـ، لكن دون أن يدرك أن هذا الاستشكال سيتحوّل بعد قرونٍ إلى عمًى منهجي يسيطر على ضمير أمة كاملة. فأحد أكثر تجلّيات هذا العمى فداحة هو ما يتكشّف لنا اليوم في تمثّلاتنا لغزّة؛ إذ نعيشها في تماهٍ من الظلمة حين نشاركهم خذلان إنسانها، وإن كان ذلك في مجازٍ مُهدم الأركان، نتعلّق به تعويضًا عن الفعل، وتعيش أوزانه خللًا دفينًا يختزل المأساة في الشعار، و«القضية» في الوعد. فعندما يواجه الوعي العربي آلامه فإنه يتمسّك بالفكرة بوصفها رمزًا مستقِرًّا أكثر من تمسّكه بإنسانها الحي. إنه يتعلّق بالعنوان لا بالاسم، وبالخريطة لا بالصباح الحر. وهنا يغيب عنه جوهر العدالة التي حتماً تُقاس بقدرتها على لمس اليومي، وعلى منح فرصة في الحصول على الخبز الحلال. والحقيقة أن الغائب فينا ليس التعاطف، بل حقيقة الإنسان في غزة. إنه يتلقى الضربات منفردًا، ويعيش الكارثة مثل جملة يتيمة قرر كاتبها أن يختتم بها سطره. كما أننا لا نعرف في إنسان غزّة إلا رقمًا يُدرج في جدول الشهداء. وفي ظل هذا الغياب نكفّ عن رؤية المأساة كما هي، ونُحيلها إلى توصيف أبكم يتجنّب ألم التورط في الحقيقة. فغزّة لا تفهم فينا إلا باعتبارها حالة (بروميثية) لا تهدأ حتى ننسى، بل تشتعل في فضاء يُعاد فيه تشكيل العلاقة بين القوة والحياة، وتتقاطع فيه البُنى الشرسة للحرب مقيمة حضورها المحكم للحصار، لتحول الجغرافيا هناك، بل وفينا إلى سجن مفتوح تغدو فيه الحياة اليومية اختبارًا دائمًا للنجاة. وكل هذا ليس مهماً، بل الأهم هو كيف نرى مآسينا وهي تُحرج ذواتنا وتقهر وعينا. ومع هذا نوفر لهشاشتنا الاستفادة المثلى من الموت في غزة مع ضمائر مشبعة بالتأييد لا التفكير؛ فالذي يجري على أرض كنعان هو نتاج دقيق لسياسة تدمير بطيء لا تستهدف الجدران وحدها، وإنما تفرغ مفردات البقاء من معناها؛ فيتحوّل الخبز إلى أمنية، وقطرة الماء إلى أداة إذلال، والطفولة إلى نص معطوب في بيان عسكري لا يكتبه الشعراء. ومن هنا فإن ما وثّقته الأمم المتحدة منذ نهاية مايو 2025م حول المفزعة بقتل ما لا يقل عن 798 مدنيًا أثناء محاولتهم الوصول إلى مساعدات غذائية لا يُقرأ كحدث مأساوي فحسب، بل هو علامة على تحوّل الجوع من مظهرٍ للفقر إلى ميدانٍ حاشد بالعزاء. وما جرى في 11 يوليو من مذبحة طالت 66 فلسطينيًا في شمال القطاع يتجاور مع قصف مماثل في الجنوب أودى بحياة 22 مدنيًا بينهم ستة أطفال؛ إذ أُزيل الفارق تمامًا بين المأوى والمعسكر، وبين الجندي واللاجئ، بل وبين القانون والذخيرة. كل هذا في مشهد يُعاد فيه صناعة صورة من الخوف المؤجل نهرع إليها كلما مسّنا وخز الضمير، ثم نعود نصرخ أننا ظلمنا.
ومع اتساع هذا التراكم لا تعود الهشاشة مجرّد عرضٍ طارئ، بل تتكشّف كبنية تُدار، وتُنتَج، وتُعاد صياغتها يوميًا داخل المنظومة الدولية التي تنتزع من الضحية حتى حقّها في الألم. فغزّة لا تُقاس بعدد الشهداء، بل بما يُغلَق من أبواب حولها، وباتساع الفجوة بين الصراخ والقدرة على الفعل. وتلك الفجوة لا تُفسَّر بغياب الوسائل، بل بغياب الإرادة؛ إذ تتباين المواقف بقدر تباين المصالح، ويُقاس الألم بموازين السياسة لا بمعايير العدل. فالاتحاد الأوروبي لا يملك سوى التصريحات المترددة، فيما تواصل الأمم المتحدة عدّ القتلى بلغة بيروقراطية لا تفضي أبدًا إلى حماية القطاع. ووسط هذا تستمرّ الولايات المتحدة في تقديم دعمها بصمتٍ ثقيل يمنح شرعية مموّهة يتوارى خلف خطاب الردع، ويتجمّل بمنطق المصالح. وهكذا؛ لا تواجه غزّة آلة قتل فحسب، بل تُطوَّق بسردية تنتزع من الضحية صوتها، وتحوّل الجريمة إلى ضرورة أمنية، لتُختزل المأساة في جداول حسابية، ويتحوّل الألم إلى فقرة في تقرير جافّ. وفي هذه المساحة الرمادية حيث يتقاطع الضجيج الإعلامي مع انعدام الفعل؛ تتشكّل هشاشة لا تنبع من ضعفٍ داخلي، بل من غياب العدالة في عالمٍ لا يرى في قتل الإنسان ما يستدعي الحزم. ولذلك؛ فإن ما يحدث ليس قصفًا لجغرافيا، ولكنه نزعٌ تدريجي لحقّ الوجود، وانهيارٌ لما تبقّى من القدرة الإنسانية على مواجهة نفسها دون أن تعترف بفشلها.
إنه لمن الواضح أننا أمام انسداد سياسي عربيّ وعالميّ؛ حيث تُستنزف المبادرات الدبلوماسية داخل دائرة تفاوضية مفرغة لا تقوم بشيء سوى إعادة إنتاج العجز، والتواري عن مواجهة الأزمة. ومع هذا الانسداد تنبثق مبادرات شعبية دولية تعيد تعريف الفعل المقاوم، ومن أبرزها أسطول الحرية الذي أبحر من ميناء سيراكيوز (مدينة ساحلية في إيطاليا) باتجاه غزّة على متن السفينة حنظلة، في فعل ندرك سلفا أنه سيُواجَه بتعنّت الكيان، لكنه يظل علامة رمزية تُحرج ضمير العالم الذي يُوصَف بـ«الحر». ويأتي هذا بعد اعتراض سفينة مدلين (Madleen) في وقتٍ سابق. وما تكرار هذه المحاولات إلا رهانٌ صريح على فضح الحصار، وتثبيت صورته الإجرامية. غير أن هذا الجهد الإنساني المقاوِم يصطدم بجدار أشدّ من الحصار ذاته: جدار المصالح الغربية؛ حيث يعيش الضمير الأوروبي والأمريكي أزمة مزدوجة بين ما يُعلنه من قيم، وما يُطبّقه من سياسات. ومع أن الحكومات تتواطأ بالصمت أو التصريحات الغامضة؛ فإن الجامعات والمؤسسات الشعبية في الولايات المتحدة تشهد انتفاضات متتالية عبّر عنها طلبة وأكاديميون ومثقفون في رفض صريح للانحياز الرسمي. وهو ما عبّر عنه المفكر الأمريكي البارز نعوم تشومسكي حين أشار إلى أن الولايات المتحدة لا تدعم إسرائيل على الرغم من سياساتها الوحشية، بل بدافعٍ من هذه السياسات ذاتها. فعندما تقصف الطائرات الإسرائيلية أهدافًا مدنية فإن ما ينفجر عمليًا هو طائرة أمريكية يقودها إسرائيلي؛ دعمٌ حاسم ومباشر لا يختبئ وراء المجاز، بل يُجسّد مشاركة فعلية في الجريمة.
إن هذا الحصار -الذي لا يتوقف عن التحوّل من إجراء سياسي إلى واقع يومي- يواصل تفكيك شروط الحياة قطعةً قطعة، حتى ليغدو الجسد نفسه عرضةً للاختناق الرمزي قبل أن ينهار فعليًا. ومع تراجع إمدادات الوقود واستمرار القيود بات شلل المستشفيات في غزّة خطرًا وشيكًا لا تشير إليه التقارير الإعلامية فقط، بل تؤكده تقارير صادرة عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)؛ حيث وصفه باحثون فرنسيون في قضايا المياه والصحة العامة بأنه ليس أزمة تقليدية، بل «أزمة مصنوعة سياسيًا»، مشيرين إلى أن «الإنكار بات سياسة قائمة بذاتها، وأن المشكلة يمكن حلّها خلال يومٍ واحد فقط إذا توفّر الوقود». هكذا لم يعد الماء يُستهلك كما يُستهلك الهواء، بل تحوّل إلى أداة هيمنة تُقاس بها درجات البقاء والإذلال، وتُدار بها الحياة من تحت، وتُعاد عبرها صياغة السيادة اليومية في أدق تفاصيلها. وهذا التحوّل من المادي إلى الرمزي لا ينفصل عن المشهد التفاوضي الذي يُعاد إنتاجه كصورة أخرى من الحصار؛ إذ تُعقَد منذ مايو محادثات غير مباشرة برعاية أمريكية وقطرية في محاولة لإحياء هدنة شاملة، لكن اشتراط حركة حماس انسحاب الجيش الإسرائيلي، وضمان إدخال المساعدات يُواجَه برفض قاطع، ما يجعل العملية التفاوضية محكومة منذ بدايتها بميزان القوة لا بمقتضى العدالة. وإذا كان ثمة خيطٌ يجمع كل هذه الفصول المتناثرة من المأساة؛ فهو أن ما يجري في غزّة ليس حالة إنسانية طارئة، وإنما نموذج مكتمل لهشاشةٍ مُنتَجة عمدًا؛ حيث تتحوّل العدالة إلى توازن مشروط، وتُفرَغ الكلمات من فاعليتها أمام وقائع لا تُدار بالضمير. ففي غزّة الآن يتحوّل الخبز إلى هدف عسكري، والماء إلى مشهدٍ للعقاب، والطفل إلى ضحيةٍ قابلة للإحصاء.
إن ما يزيد هذه الهشاشة فتكًا أننا نغفل عن العطب الكامن في الوعي الإنساني الراهن؛ ففي أصواتنا التي تتألم لهذه المأساة لا نملك سوى الاستثمار في المجاز لا الفعل. إنه مجازٌ يتحدّث عن حماية المدنيين، لكنه ينتهي إلى بلاغة مقنعة تعفي الفاعل من التورط في المسؤولية. والحقيقة التي لا مفرّ من التصريح بها أن الإنسانية قد تخلّت عن غزّة، ولم يبقَ أمام ضمير العالم إلا أن يعترف بأن غزّة تُحاكمه، وتعرّي هشاشة وعيه. أما نحن العرب فإن لم تتغير بنية الوعي، وإن لم ترتفع قيمة الإنسان في سُلّم القيم السياسية؛ فإن المذبحة ستظل طقسًا سنويًا نحوم حوله بالرقص على جثث الموتى حاملين كلماتنا الجاهزة في موسم عزاء غير مقدّس. ولعل من المفارقة أن مسكويه في القرن الخامس الهجري قد فهم ما لا يزال عصيًّا على وعينا الحديث حين كتب: «الفضائل تتعلّق بالنفس الإنسانية من حيث هي إنسان، لا من حيث هو ابن قبيلة أو طائفة». وما بيننا وبينه أكثر من تسعة قرون، لكن الهوّة الأخلاقية تبدو أوسع من الزمن.
غسان علي عثمان كاتب سوداني