حين تُنتهك السيادة، ويُداس الحق، وتُحاك المؤامرات لتمزيق الوطن، لا صوت يعلو فوق صوت القبيلة، ولا راية تُرفع أعلى من راية النكف! إنه النداء الذي لا يُرد، والصيحة التي توقظ الدم في العروق، وتجمع السواعد من كل وادٍ وسهلٍ وجبل، ليقف اليمني  كما كان دومًا حارسًا لأرضه، وصائنًا لعرضه، وسدًّا منيعًا في وجه الغزاة والطامعين.

يمانيون/ تقرير/ طارق الحمامي

 

النكف القبلي ليس مجرد تقليد أو موروث، بل هو إعلان تعبئة شاملة، وراية وحدة تلتف حولها القبائل اليمنية حين يُدق ناقوس الخطر،  وهو اللحظة التي يتحول فيها الصوت الفردي إلى جَمع، والانتماء العائلي إلى انتماء وطني جامع، والموقف المحلي إلى موقف أمّة بأسرها.

في هذا التقرير، نسلّط الضوء على المعنى الحقيقي للنكف، ونغوص في تاريخه الضارب في جذور اليمن، ونكشف كيف تحوّل إلى سلاح اجتماعي فاعل يواجه العدوان ويُفشل مشاريع التفرقة والفتنة، ويُعيد رسم خريطة التضامن الوطني.
كما نستعرض كيف تجاوز النكف حدوده الجغرافية، ليُصبح موقفًا قوميًّا شجاعًا من قضايا الأمة، وفي طليعتها فلسطين، القضية التي تسكن وجدان كل يمني حر ، إنه تقرير عن الشرف، عن الهوية، عن اللحظة التي يقول فيها اليمني ’’ لن نُهزم ما دام فينا قبائل تُجيب نداء النكف، وتصون عهد الدم والعرض والوطن’’ .

 

ما هو النكف القبلي؟

النكف في اللغة العربية يُقصد به: الاستنفار والدعوة السريعة للنصرة،  أما “النكف القبلي” في العُرف اليمني، فهو استدعاء قبلي يُعلن في ظروف استثنائية لمواجهة خطر داهم، سواء كان اعتداءً خارجيًا، أو فتنة داخلية تهدّد السلم المجتمعي ، يتم الإعلان عن النكف بواسطة رموز عرفية أو رسائل شفوية أو مكتوبة، وغالبًا ما يترافق مع إرسال خيوط قماش (مقطّعة من ملابس النساء – وتُعرف بـ “المرقة”)، أو سلاح شخصي، كدلالة رمزية على استعجال الحضور والمشاركة، وقد تصل إلى القبائل المجاورة أو الحليفة خلال ساعات معدودة.

 

الخلفية التاريخية للنكف القبلي

النكف القبلي ليس وليد اليوم، بل هو تقليد موغل في القدم، وارتبط دومًا بهيبة القبيلة وقدرتها على حماية أبنائها ومبادئها، في التاريخ اليمني، استخدم النكف كأداة لمجابهة الحملات العسكرية، الثأر للكرامة، أو ردع الظلم، وغالبًا ما كان يُعلن عقب حادثة تستدعي ردًا جماعيًا، كقتل شيخ، أو الاعتداء على امرأة، أو خرق واضح للعرف والسلم، واستخدمت القبائل النكف لمساندة المجاهدين، أو لردع الغزو العسكري،  كما ظهر جليًا خلال الصراع مع الاستعمار البريطاني في الجنوب، وفي مقاومة الاحتلال العثماني في الشمال.

 

النكف القبلي في وجه العدوان الحديث

في ظل ما يتعرض له اليمن من عدوان خارجي منذ العام 2015، عاد “النكف القبلي” للواجهة، لكن هذه المرة بمعناه الأشمل والأنبل ’’النكف من أجل الوطن’’ ، أطلقت قبائل يمنية من مختلف المحافظات نداءات نكف إلى بقية القبائل للالتحاق بجبهات القتال، والدفاع عن السيادة الوطنية، والمشاركة في رفد الجبهات بالرجال والمؤن، وقد شكّل هذا الحضور زخمًا شعبيًا حاسمًا في تثبيت الجبهة الداخلية، وصد محاولات تمزيق اليمن على أسس طائفية أو مناطقية.

ففي صنعاء ، والجوف، ومأرب، وعمران، وذمار، وصعدة، وحجة ، والمحويت ، ورداع، والحديدة، وكل المحافظات الحرة ، تكرر مشهد النكف العفوي والرسمي، كرمز للتلاحم المجتمعي، ورفضٍ قاطع للمشاريع الخارجية التي ترمي إلى إشعال الفتنة وإعادة اليمن إلى عهد التبعية والتقسيم.

 

النكف القبلي .. سلاح ضد الفتنة

في لحظات الفوضى، لا صوت يعلو فوق صوت العقل الجمعي، و”النكف القبلي” أضحى اليوم منصة لتوحيد المواقف، وتغليب مصلحة الوطن على الانقسامات، لم يعد مقتصرًا على نصرة أبناء قبيلة أو ثأر محلي، بل صار وسيلة جماعية لدرء الفتنة ، فحين تُستهدف النساء، وتُنتهك القيم، ويُهدد الأمن، تعلو صيحات النكف ليس للانتقام، بل لاستعادة التوازن وفرض هيبة الدولة والمجتمع معًا.

 

النكف القبلي .. وسيلة تجمع حول الثوابت الوطنية وقضايا الأمة

في عمق النكف القبلي، لا يكمن فقط البعد المحلي أو العرفي، بل تنبع منه روح وطنية وأممية تعكس مدى ارتباط القبائل اليمنية بثوابتها ومبادئها الكبرى، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية كقضية مركزية للأمة العربية والإسلامية.

لقد أصبح النكف القبلي، في كثير من محطاته خلال السنوات الأخيرة، يتجاوز نطاق الجغرافيا، ليعبّر عن موقف قومي جامع، يتسق مع موقف الشعب اليمني الأصيل من الظلم والاستعمار والهيمنة الأجنبية، أينما كانت، فحين تتعرض فلسطين لعدوان، أو تُنتهك حرمة المسجد الأقصى، لا تتأخر القبائل اليمنية في إعلان النكف الرمزي، تضامنًا واحتجاجًا ومساندة.

رمزية النكف في المواقف من فلسطين

خلال الاعتداءات الصهيونية على غزة، برزت مظاهر النكف في عدة محافظات يمنية، حيث أعلنت قبائلها مواقف موحدة تؤكد على أن معركة الأمة ضد العدو الصهيوني هي معركتها، وأن فلسطين قضية لا تقبل المساومة أو النسيان.

وشهدت الساحات اليمنية خروج القبائل اليمنية بالسلاح،  ومبادرات دعم رمزية ومادية، تؤكد أن النكف لم يعد حكرًا على قضايا محلية، بل أصبح أداة ضغط وتفاعل مع الهمّ العربي.

النكف القبلي والتربية الوطنية

من خلال هذا المفهوم، بات النكف أحد روافد التربية الوطنية والقومية داخل المجتمع اليمني، خاصة في المناطق القبلية، حيث يُعلّم الأب أبناءه أن الاستجابة لنداء النكف لا تكون فقط لحماية حدود القبيلة، بل لحماية القيم الكبرى، مثل العدل، الحرية، والكرامة، وهذه كلها تتجسد في موقف اليمنيين من قضايا الأمة، وفي مقدمتها فلسطين.

 

النكف اليوم .. بين الأصالة والتحديث

رغم طابعه التقليدي، إلا أن النكف القبلي بات يتخذ أشكالًا أكثر تنظيمًا وتنسيقًا، إذ تتفاعل معه مختلف الجهات الاجتماعية، من زعماء قبائل، إلى علماء الدين، والنخب الثقافية، وصولًا إلى الفعاليات المدنية، وقد رافقته اليوم حملات إعلامية رقمية، وبيانات موحدة، تعبّر عن وحدة الصف ورفض الانقسام.

 

خاتمة

النكف القبلي ليس مجرد صيحة حرب، بل هو إعلان للكرامة ،  وإعلان بأن المجتمع اليمني، برغم ما مرّ به من محن، لا يزال متمسكًا بجذوره، بثقافته الراسخة، وبقدرته على التوحد عند الخطر، في زمن تفككت فيه الهويات في كثير من الأوطان، ظل “النكف اليمني” شاهدًا على قوة التلاحم القبلي، وعلى معادلة بسيطة ولكن فعالة، إذا كانت الدولة تُغيب أحيانًا، فالقبيلة تحضر، وحين تحضر القبيلة فإنها تحضر بوطنية لا تُشترى.

المصدر: يمانيون

كلمات دلالية: القبائل الیمنیة النکف القبلی موقف ا

إقرأ أيضاً:

عمق الأزمة اليمنية في حضرموت والمهرة

وضاح اليمن الحريري

تأخذ الازمة اليمنية الحالية أكثر من بعد سياسي او عسكري، كما إنها ليست مسألة أرض يتم استعادتها او منطقة نفوذ بهذا الشكل أو ذاك، إنها تمثل أزمة تحمل في مظاهرها تصدعات المشروع الدولاتي لمنظومة الفكر السياسي العربي وأمنه القومي ببعده الجيوسياسي وهو في طور التفكيك واعادة التشكل، حقله في اليمن هو أحد النماذج للتفكيك المباشر، بخلق اسباب كافية لتطبيقه، تعود إلى سوء الادارة واخفاقات التنمية والتقدم في ظروف سابقة.

نعني بالأزمة اليمنية في حضرموت والمهرة، تصرف الانتقالي الجنوبي منفردا بدخول قواته الى تلك المحافظتين والسيطرة على أراضيها، متخذا أكثر من مبرر لذلك الفعل، غير مكترث بالتبعات اللاحقة وفيما قد تسفر عنه، في محاولة لفرض واقع عسكري جديد فيهما، هنا تكون المسألة واضحة في أن الانتقالي الجنوبي اتخذ قراره، مرتجلا او متأنيا، في التصعيد تجاه الشرعية التي يمثل في نفس الوقت أحد مكوناتها، مما يعني إنه لم يكن ينظر يوما لنفسه ولقواته الا باعتبارهما جزءا مؤقتا في بنية الشرعية، لارضاء أطراف من دول التحالف.

تقف في الضفة الأخرى من مجرى الأزمة واندفاعها، بقية مؤسسة الشرعية ممثلة برئيس مجلس القيادة الرئاسي، الذي يستند هو الاخر الى تحالفات سياسية وعسكرية حاضرة محليا وإقليميا، ترى في السلوك المنفرد للانتقالي اعتداء صارخا على مرجعيات تم التوافق عليها مسبقا، أهمها اتفاق الرياض واعلان نقل السلطة. لكن حتى هذا التحالف يقف أيضا في خانته قوى تتفاوت في مدى لؤمها السياسي واستعدادها العسكري لتفجير الموقف عسكريا، في انتظار الاشارة لذلك.

يجب أن ينظر الى الأزمة في شقها السياسي، لنزع فتيل الاشتعال وتنفيسها، في الاتجاه الذي ينفس من تصاعد التوتر، بعد أن تفاقمت عملية الاحتشاد عند المجموعتين، لأن الأزمة وأبعادها لا تعني الانتقالي الجنوبي وحده ولا تعني مؤسسة الشرعية وحدها، كي يتصرفا كما يشاءان، لكنها تمس وبقوة حسابات اقليمية لها وزنها وثقلها، كحسابات المملكة السعودية، بل والأهم من هذا، إنها تمس وبعمق فرص الاستقرار والعيش الآمن للناس في كامل الاتساع الجغرافي والأمني لليمن على اقل تقدير، مما يمثل رهانات غير محسوبة العواقب بدقة، على اعتبار أن الأمر الواقع سيفرض نفسه دون تحديات فعلية، رغم أن خيار الحسم بطريقة صلبة يعلن عنه ومازال قائما.

سيذهب المختلفون حول الأزمة والمتفاوتون في تقديرها الى تقديرات غير صحيحة بالمرة، اذا ظنوا إنها ستمر مرورا عابرا، على حقول النفط وموارد الثروة في شرق اليمن، مع العلم ان هذه الموارد هي فقط المرئية في الأفق، بينما ما خفي قد يكون أعظما، بالتالي فإن خيار الانتقالي الجنوبي وخيار المؤسسة الشرعية، لا يمثلانهما وحدهما، لكن ايضا يمثلان حسابات أخرى ذات ارتباط شديد الأهمية، بما سيجر خلفه من التبعات والتبدلات في القرارات والمواقف، بانعكاس كل ذلك على المواطنين اليمنيين جنوبا وشمالا بالدرجة الأولى.

لن أقول هنا إن علينا بالحكمة اليمانية،لأنها مفقودة في هذه اللحظة على اية حال، لن أقول أن علينا بالدم لأنه لغة الأبطال الذين يذهبون سدى من اجل تغيير التوازنات على أرض الواقع، سأقول أن علينا بالسياسة والمزيد من السياسة الحصيفة والمسئولة، عند التعامل مع هذه المستويات العالية من الأزمة.

تصرف الانتقالي الجنوبي منفردا، فاقدا لصبره وبانيا لخياراته مستندا على حسابات الغير وتقديرهم للموقف، بينما تتصرف مؤسسة الشرعية خارج احتواء الموقف وطنيا نتيجة تشتتها وبعثرتها المرئية، المبنية على عدم قدرتها على اتخاذ القرارات في وقتها المناسب، عاجزة عن تفعيل المرجعيات المتفق عليها، المملكة أيضا تتصرف بالاستناد الى المعركة السياسية التي تخوضها على المستوى الاقليمي ووفق مصالحها، بغض النظر عن التبعات فيما سيعانيه المواطنون، إذن من يخيف من في هذه الأزمة الشرسة وغيومها تتجمع على رؤوس اليمنيين وتتفاقم جنوبا وشمالا.

سيمضي الوقت دون قرارات، لن يتمكن الانتقالي الجنوبي من اعلان دولته واذا اعلنها سيحمل الناس ما لا طاقة لهم به وسيكتفي بالبقاء على الأرض، لن تتمكن مؤسسة الشرعية الا بالبقاء كضيف دائم الاقامة في الرياض حتى اشعار آخر، لن تتمكن المملكة من اتخاذ قرارات صعبة بسهولة ولها أن تحتفظ بمصالحها، لن يتمكن المشاغبون الاقليميون من انهاء الحصة دون درس وسيجبرون على البقاء على مقاعدهم كأشقياء..السياسة ومزيدا من السياسة هي الحل المؤثر حاليا..علينا اذا بدأ الحوار أن نمضي فيه حتى آخره وله مساراته واوعيته واجراءاته واذا لم يبدأ فلابد ان ينطلق فورا..ودمتم.

مقالات مشابهة

  • الهباش: الجرائم التي يرتكبها الاحتلال في فلسطين تزيد موجة العنف
  • المخلافي: مشكلة النخب اليمنية تكمن في المجاملة بقضايا الوطن
  • الخارجية اليمنية: عيدروس الزبيدي لا يمكنه إعلان الإنفصال وما حدث شرق اليمن كان مفاجئًا
  • منذر بودن: منطقة القبائل صمّام الوحدة الوطنية
  • كانديس أوينز.. اليمينية السوداء التي ناصرت فلسطين وعادت الصهيونية
  • سيناريوهات البيك أب والتسلّل البرّي.. ما الذي يتدرّب عليه الطيّارون الإسرائيليون اليوم؟
  • سنابل الصمود .. كيف حول الشعب اليمني ’’الزراعة’’ إلى سلاح لمواجهة العدوان والحصار
  • تاريخ شعب فلسطين
  • إعلام فنزويلي يثني على تضامن اليمن: موقف شجاع يجب أن يقتدي به العالم التقدمي
  • عمق الأزمة اليمنية في حضرموت والمهرة