كيف يمكن تقييم خسائر الحوثيين جراء الهجمات الأمريكية.. هل تكذب واشنطن ام تخفي المليشيا الحقيقة؟
تاريخ النشر: 5th, May 2025 GMT
أصبحت خسائر الحوثيين، جراء الهجمات الأمريكية، لغزا محيرا في الأوساط السياسية والعسكرية، ففي حين تؤكد الولايات المتحدة أنها ألحقت أضرارا كبيرة بالبنية التحتية العسكرية للحوثيين، وكبدتهم خسائر فادحة في القيادات ومراكز القيادة والسيطرة، فضلا عن تدمير مخازن أسلحة ومنظومات اتصالات عسكرية وورش تصنيع السلاح أو تجميعه، فإن استمرار الحوثيين في إطلاق صواريخ وطائرات مسيرة ضد أهداف إسرائيلية أو أمريكية، يثير الشكوك في تلك التصريحات، وما إذا كانت الهجمات الأمريكية ستردع الحوثيين عن مواصلة هجماتهم أم لا.
- معادلة معقدة
تعكس البيئة الميدانية معادلة معقدة، فالضربات الأمريكية، بعد تولي دونالد ترامب الرئاسة، تبدو نوعية ومؤلمة، وتختلف كثيرا عن سابقاتها خلال العام الماضي (2024) في عهد الرئيس السابق جو بايدن.
وفي المقابل، لا يعترف الحوثيون بالخسائر، ويتظاهرون بالصمود، ويواصلون هجماتهم دون تغيير ملحوظ أو تراجع كبير وإنما بتفاوت متذبذب يضفي مزيدا من الغموض حول خسائرهم، وهو ما يعني أن واشنطن ليس لديها معلومات استخباراتية كافية سواء عن الأهداف الحوثية المستهدفة بالقصف والتدمير، أو الخسائر التي يتكبدونها جراء الغارات الجوية.
أما الحوثيون، فهم ينتهجون سلوكا غامضا فيما يتعلق بهجماتهم ضد أهداف إسرائيلية أو أمريكية، فالهجمات محدودة، وتتم بمعدل ثلاث أو أربع هجمات أسبوعيا، وهذا الشح في الهجمات الذي يتخذ مسارا خطيا واحدا مع تذبذب خفيف، من الصعب اتخاذه في الوقت الحالي معيارا لتقييم خسائر الحوثيين جراء الضربات الأمريكية، إذا اعتبرنا استمرار قدرتهم على الهجوم معيارا لتقييم الخسائر، وسط شكوك في مدى مصداقية الحوثيين بشأن كثير من هجماتهم التي يعلنون عنها، فضلا عن مدى فاعلية تلك الهجمات وما إذا كانت تستدعي ردا أعنف أم لا.
- طرق تقييم الخسائر
هناك العديد من مناهج تقييم خسائر أي طرف يتعرض لهجمات نوعية، تأتي في مقدمتها المؤشرات الكمية، مثل عدد المواقع المدمرة، والقيادات التي استُهدِفت، وتواتر الضربات، ثم المؤشرات النوعية مثل عدد مراكز القيادة والسيطرة التي دُمّرت، وتعطل منظومات هجومية رئيسية، وتحليل رد الفعل (الحوثي)، مثل استمرار أو تراجع وتيرة الهجمات ضد أهداف إسرائيلية أو أمريكية، وأخيرا المصادر المحلية، رغم محدوديتها وصعوبة التحقق الكامل من دقتها.
وعطفا على ذلك، فطبيعة الخسائر الحوثية المتوقعة تتمثل في: خسائر عسكرية، مثل تدمير مواقع إطلاق صواريخ وطائرات مسيرة وزوارق بحرية ومخازن أسلحة وورش تصنيع أو تجميع الأسلحة، واستهداف مراكز اتصالات أو قيادة، ثم خسائر بشرية، مثل قتل وجرح عدد من القيادات الميدانية والعناصر العسكرية، تليها خسائر اقتصادية، مثل تعطيل بعض شبكات تهريب الأسلحة والموارد المالية عبر الموانئ أو السواحل، وأخيرا خسائر معنوية تتمثل في اضطراب داخلي نسبي وإرباك في الدعاية الإعلامية، رغم محاولات المليشيا الحوثية تصوير الهجمات كعدوان خارجي على أمل أن يمنحها ذلك شرعية محلية.
- عقبات التقييم
هناك العديد من العقبات التي تحول دون تقييم واقعي حاليا لخسائر مليشيا الحوثيين جراء الضربات الأمريكية المستمرة منذ منتصف مارس الماضي، من بينها طبيعة الحوثيين كجماعة غير نظامية (مليشيا)، تعتمد على شبكات متداخلة من البنى التحتية السرية، وتبنيها خطابا مزدوجا يخفي الخسائر الحقيقية (التضليل الإعلامي).
يضاف إلى ذلك التفاوت بين الأهداف الأمريكية المعلنة والحسابات الواقعية، فواشنطن قد تهدف إلى تحقيق أهداف سياسية أكثر من القضاء الكامل على القدرات الحوثية، وهذا ما تؤكده تصريحات مسؤولين أمريكيين بأن الضربات على الحوثيين ستتوقف إذا أوقفوا هجماتهم على السفن في البحر الأحمر.
كما أن طبيعة هجمات الحوثيين لا تعطي مؤشرات كمية يمكن على ضوئها تقييم خسائرهم جراء الضربات الأمريكية، لأنهم يتعمدون أن تكون هجماتهم محدودة، وهذا النهج ربما يعكس محدودية قدراتهم العسكرية، لأن التقشف في الهجمات سيمكنهم من المناورة لمدة زمنية طويلة ومواصلة خداع الأطراف الأخرى من خلال التضليل بشأن قدراتهم العسكرية الفعلية، لأن تكثيف الهجمات على أهداف إسرائيلية أو أمريكية، خلال مدة زمنية قصيرة، سيتسبب بنفاد سريع لمخزونهم من الأسلحة، وبتوقف الهجمات فجأة سيكون ذلك إما مؤشرا على نفاد مخزونهم من الأسلحة أو تعرض معظم مخازن السلاح للتدمير، وهو ما قد يغري خصومهم بالانقضاض عليهم.
- ما دلالات إسقاط طائرات "إم كيو-9"؟
يُعد نجاح الحوثيين في إسقاط عدد من الطائرات الأمريكية المسيرة، نوع "إم كيو-9"، أبرز نصر يتباهون به ضد القوات الأمريكية، لكن هذا النصر يفقد قيمته إذا نظرنا له من زاوية أوسع، لأن له العديد من الدلالات، فاكتشاف تلك الطائرات غير ممكن عبر الرادارات الأرضية التقليدية، وإنما عبر أنظمة الدفاع الجوي الحديثة، مثل "بانتسير إس-1" الروسية، أو "باتريوت" الأمريكية، وهذا يثير التساؤلات حول كيفية تمكن الحوثيين من إسقاط تلك الطائرات المسيرة، فهل حصلوا على أنظمة دفاع جوي متطورة من روسيا مباشرة أو عبر إيران، أم أنهم يستخدمون الرصد البصري أو الحراري عبر مجسات بسيطة وكاميرات حرارية ثم يسقطونها بصواريخ أرض-جو حصلوا عليها من إيران؟
ومهما يكن، فإن إسقاط تلك الطائرات من المرجح أن يحدث عندما تحلق على علو منخفض، وكونها تستخدم للرصد والمتابعة والتجسس وتنفيذ عمليات دقيقة، فإن اقترابها من أهداف مهمة قد يعرضها للرصد البصري أو عبر الكاميرات الحرارية، خصوصا إذا كانت تلك الأهداف تحظى بحماية عالية من جانب الحوثيين، لأن القوات الأمريكية لن تخاطر بطائرة "إم كيو-9" إلا عندما يكون الهدف يستحق المغامرة.
ومع ذلك، فإن إسقاط تلك الطائرات لا يعني بالضرورة فشل مهمتها، بل قد يكون مؤشرا على تتبعها لهدف نوعي سيتم التعامل معه لاحقا بواسطة طائرات حربية متقدمة، مثل طائرة "F/A-18"، وهي أحد أبرز الطائرات التي توجد على متن المدمرة هاري ترومان في البحر الأحمر، ويصعب على الحوثيين إسقاطها نظرا لتفوقها التكنولوجي، وقدراتها على المناورة بسرعة على ارتفاعات عالية، وتستخدم التشويش والتضليل الحراري، وترصد الخطر قبل دخوله مدى الاشتباك، وتعمل ضمن شبكة تحتوي على أقمار صناعية، وطائرات تجسس، ودعم إلكتروني متطور، وهذا يعطيها صورة متكاملة عن الدفاعات الجوية المعادية، مما يسمح لها بتجنبها أو ضربها أولا.
من جانبهم، يتباهى الحوثيون بإسقاطهم عدد من طائرات "إم كيو-9"، ويقدمون ذلك كإنجاز ميداني يعكس قدرتهم على التصدي للطيران الحربي الأمريكي، لكن هذا التباهي يُغفل قراءة أعمق من زاوية التحليل العسكري، فإسقاط مثل هذه الطائرات، التي تُعد عالية الكلفة ومتقدمة تقنيا، لا يحدث عادة في سياق استطلاع روتيني، بل حين تكون الطائرة بصدد مراقبة هدف بالغ الأهمية، وهو ما يعني أن قرار إرسالها تم بناء على معلومات استخباراتية دقيقة تشير إلى وجود نشاط نوعي في تلك المنطقة، يستحق المجازفة بطائرة قد تُكشف وتُستهدف.
وغالبا ما تكون هذه الطائرات قد أنجزت جزءا من مهمتها قبل إسقاطها، مثل تحديد الإحداثيات أو توثيق التحركات، ليُستكمل الهجوم لاحقا بواسطة مقاتلات متقدمة، أو عبر صواريخ دقيقة تُطلق من البحر أو الجو، وهو ما يعني أن إسقاط طائرة "إم كيو-9" ليس دليلا على فشل المهمة، بل مؤشر على اقتراب لحظة الحسم ضد هدف يُعده الأمريكيون بالغ الخطورة أو القيمة، وبالتالي فإن ما يراه الحوثيون نصرا ميدانيا قد لا يكون سوى لحظة تمهيد لهجوم أعنف وأكثر دقة.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول إن الحوثيين يتكبدون بالفعل خسائر فادحة، لكنها ليست شاملة، ذلك أن استخدام واشنطن لطائرات "إم كيو-9" يعني أنها جادة في رصد مواقع الحوثيين وتحركاتهم بدقة، مما يهيئ الأرضية لضربات تالية أكثر دقة وفتكا، وبالتالي فإن كل طائرة يسقطها الحوثيون قد تكون عمليا بمنزلة فاتورة استخباراتية تُدفع ثمنا لخسائر قادمة، وليس نصرا يمنح الحوثيين تفوقا في الميدان، لأن مخاطرة القوات الأمريكية بطائرات عالية التكلفة لا تتم إلا عندما تكون الاستخبارات الأمريكية قد رصدت هدفا بالغ الأهمية، غالبا ما يكون موقعا حوثيا حساسا، أو نشاطا عسكريا نوعيا.
- تقييم الخسائر
لتقييم خسائر الحوثيين جراء الضربات الأمريكية، من المهم تحليل ردود أفعالهم بدقة، من حيث توقيت هجماتهم على أهداف إسرائيلية أو أمريكية ونوعيتها والمواقع المستهدفة، باعتبارها مرآة لفعالية الضربات الأمريكية.
وفي ظل الضبابية الإعلامية وتكتم مليشيا الحوثيين الشديد على طبيعة خسائرها، يمكن قراءة مؤشرات ميدانية وسلوكية تساعد في تقييم حجم ما تكبدته المليشيا من ضربات، خصوصا إذا لجأت، كما يُرجح، إلى تراجع تكتيكي لإعادة ترتيب قدراتها الدفاعية والهجومية، فهذا مؤشر على تعاظم الخسائر، ومحاولة لتفادي الاستنزاف المباشر الذي قد يؤدي إلى انهيار تدريجي يصعب تداركه.
وهذا التراجع قد يُترجم ميدانيا عبر تقليص نطاق الهجمات، أو إعادة انتشار محدود للقوات في مواقع أقل عرضة للاستهداف في حال أكدت ذلك مصادر محلية، وقد يترافق ذلك مع تحركات غير معلنة لفتح قنوات اتصال بوساطة إقليمية (عمانية مثلا)، في محاولة لتفادي التصعيد الأمريكي وتحاشي التدمير الشامل لما تبقى من القدرات العسكرية، خصوصا أن الحوثيين يدركون أن مرحلة الغارات الاستنزافية قد تتحول إلى معركة مباشرة تجردهم من القوة التي بنوها خلال سنوات الحرب.
وفي حال تطورت المواجهة إلى معارك برية في الداخل اليمني، فإن خسائر الحوثيين ستظهر بوضوح، فمن المتوقع أن تتجلى مظاهر الإنهاك العسكري من خلال تراجع المعنويات في صفوف المقاتلين، خصوصا في حال فقدان الغطاء الجوي أو الصاروخي الذي منحهم تفوقا نسبيا، كما أنه إذا اندحر أفراد المليشيا سريعا في مناطق الاشتباك المباشر سيكون ذلك مؤشرا قاطعا على هشاشة المليشيا، حين تُجبر على مواجهة خصومها في معارك برية من دون غطاء ناري أو تفوق لوجستي.
وكذلك الأمر فيما يتعلق بخسارة المليشيا الحوثية لقيادات بارزة جراء الضربات الأمريكية، فهذا لا يمكن تقييمه إلا في حال تبين غياب بعض القيادات لمدة زمنية طويلة، خصوصا القيادات التي عُرفت بكثرة الظهور الإعلامي، وستتعمد المليشيا تأجيل إعلان قتلهم لأغراض نفسية وتكتيكية واحتواء الصدمة داخل صفوفها، والاحتفاظ بهيكل رمزي لقيادة قد تكون بدأت تتآكل بفعل الضربات الأمريكية، لكن من المتوقع أن تكون الخسائر في القيادات محدودة، فالقيادات الرئيسية محصنة في مخابئ سرية وتغير أماكنها باستمرار، بينما الهيكل القيادي غير الرئيسي واسع ومتشعب، كما أنه عديم التأثير في أوساط المليشيا، وبالتالي فاغتيال بعض أفراده لا يمثل أهمية تُذكر.
في المحصلة، إن فاعلية الهجمات الأمريكية ضد الحوثيين لا تقاس بعدد الأهداف التي تم تدميرها، بل بمدى قدرتها على تعطيل قدرات المليشيا، وإرباك تحركاتها، واستنزاف بنيتها التنظيمية والمالية، ويتطلب ذلك اعتماد مقاربات تحليلية أكثر عمقا، تأخذ بعين الاعتبار ردود الفعل الحوثية، ومؤشرات التراجع العملياتي، وسياقات التصعيد الإقليمي بشكل عام.
فإذا توقف العدوان الصهيوني على قطاع غزة فجأة، ستتوقف هجمات الحوثيين لعدم وجود مبررات لها، وقد تتوقف بالتالي الهجمات الأمريكية ضد الحوثيين، وهو ما يعني أن الوضع العسكري للحوثيين ما يزال في طور الغموض، فالانتصارات الإعلامية مضللة، ونجاح إستراتيجية إضعاف الحوثيين لا تكمن في مشهد النصر اللحظي المزيف، بل في بناء توازن ردع طويل المدى يُضعف قدرة المليشيا على المبادرة والمناورة، سواء في سياق التصعيد الإقليمي، أو عودتها لإشعال معارك واسعة في الداخل
المصدر: مأرب برس
إقرأ أيضاً:
استراتيجية الأمن القومي 2025 الأمريكية تعيد تشكيل نظرة واشنطن للعالم
تُعدّ استراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2025 إحدى أكثر الوثائق تأثيرا في رسم ملامح السياسة الدولية خلال العقد المقبل، إذ لا تكتفي بتحديد التهديدات التقليدية، بل تقدّم رؤية أعمق تعكس تحوّلا أيديولوجيا في الطريقة التي ترى بها الولايات المتحدة موقعها في العالم. فوفق تحليلات مؤسسات بحثية بارزة مثل معهد بروكينغز ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، فإن الوثيقة تمثل انتقالا من "إدارة النظام الدولي" إلى "التنافس على تشكيله"، في لحظة عالمية يغلب عليها الاضطراب وتراجع اليقين. هذا الانتقال من "الإدارة" إلى "التشكيل" هو جوهر التحول الاستراتيجي؛ إنه اعتراف بأن العصر أحادي القطب قد انتهى، وأن واشنطن تسعى لفرض نموذجها وقيمها في مواجهة نماذج بديلة.
الصين من "منافس استراتيجي" إلى "خصم حضاري شامل"
تضع الاستراتيجية الجديدة الصين في صدارة التهديدات، مستخدمة مصطلحا لافتا هو "الخصم الحضاري الشامل" هذا التوصيف يعكس قناعة أمريكية بأن بكين لا تسعى فقط إلى التفوق الاقتصادي والعسكري، بل تهدف إلى إعادة صياغة النظام العالمي وفق نموذج حكمها المركزي ونسختها الخاصة من الحداثة.
وبحسب مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، فإن هذه هي المرة الأولى التي تنظر فيها واشنطن إلى الصين باعتبارها قوة نظامية تريد تشكيل قواعد اللعبة الدولية بدلا من التكيّف معها. ولذلك تنتقل المنافسة بين الطرفين إلى مجالات استراتيجية تشمل التكنولوجيا المتقدمة، وسلاسل التوريد، والذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني، وتأثير المؤسسات الدولية. استخدام مصطلح "الحضاري" يعمق الانقسام الأيديولوجي، مما يرفع المنافسة لتكون صراعا وجوديا بين نموذجين متنافسين يمتد ليشمل المؤسسات الثقافية والتعليمية.
تضع الاستراتيجية الجديدة الصين في صدارة التهديدات، مستخدمة مصطلحا لافتا هو "الخصم الحضاري الشامل" هذا التوصيف يعكس قناعة أمريكية بأن بكين لا تسعى فقط إلى التفوق الاقتصادي والعسكري، بل تهدف إلى إعادة صياغة النظام العالمي وفق نموذج حكمها المركزي ونسختها الخاصة من الحداثة. روسيا تهديد يمكن احتواؤه لا منافسته
على الرغم من استمرار الحرب في أوكرانيا، تتعامل الاستراتيجية الأمريكية مع روسيا بوصفها تهديدا "حادّا ومباشرا" لأمن أوروبا، لكنها ليست منافسا شموليا للنظام الدولي كما هي الصين. وتتبنى واشنطن مقاربة "إدارة الصراع" مع موسكو، في محاولة للحفاظ على تركيزها الاستراتيجي على آسيا.
ويرى خبراء في "تشاتام هاوس" أن هذا التحوّل قد تكون له انعكاسات مباشرة على الأمن الأوروبي، حيث يُخشى أن يؤدي إلى تقليص انخراط الولايات المتحدة تدريجيا في القارة، ما يدفع الأوروبيين إلى تطوير مفهوم "الاستقلال الاستراتيجي" بشكل أسرع، مهما كانت العقبات السياسية والاقتصادية. هذا التمييز يكرس "الانتقائية الاستراتيجية" الأمريكية، حيث تُعتبر روسيا تحديا تكتيكيا ومؤقتا يجب "إدارته" لتجنب تشتيت الانتباه عن محور التنافس الحاسم في آسيا.
أوروبا الحليف المتوتر والعاجز عن حماية هويته
لا تخفي الاستراتيجية لهجتها النقدية تجاه أوروبا، التي تتهمها بأنها تعاني "تآكلا حضاريا" نتيجة التحولات الديموغرافية والضغوط الاجتماعية الناتجة عن الهجرة والثقافات المتعددة. وترى الوثيقة أن هذه العوامل أضعفت قدرة أوروبا على حماية نموذجها الليبرالي.
وقد أثار هذا القسم جدلا واسعا، حيث اعتبر "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية" أن واشنطن أصبحت تنظر إلى أوروبا بوصفها الحلقة الأضعف في النظام الغربي. وتبدو هذه الرؤية إشارة مباشرة إلى الأوروبيين بأنهم مطالبون بتقليل اعتمادهم الأمني على الولايات المتحدة، خاصة في ظل التحولات المتسارعة في موازين القوى العالمية. هذا القسم يؤكد أن الولايات المتحدة تستعد لـ "تقاسم العبء" بشكل أكثر صرامة، ويربط الأمن بالهوية، مما يظهر قلقا أميركيا عميقا يتجاوز القدرات العسكرية وصولا إلى تماسك النموذج الغربي نفسه.
تحالفات جديدة قائمة على الهوية والقيم
تتبنى الاستراتيجية الجديدة مبدأ "التحالفات المعيارية"، حيث تمنح الولايات المتحدة الأولوية للتعاون مع الدول التي تشترك معها في الهوية الحضارية والقيم السياسية، أكثر من تلك التي تتقاطع معها في المصالح وحدها. ويرى مركز "بروكينغز" أن هذا التحوّل قد يعمّق الانقسام الدولي، لأنه يعيد اصطفاف الدول وفق اعتبارات أيديولوجية وثقافية، بدلا من المنطق البراغماتي الذي حكم العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب الباردة. هذا التحول يمثل عودة إلى الاصطفافات الأيديولوجية والثقافية، مما قد يعمّق الانقسام بين المعسكرات الدولية، على حساب العلاقات القائمة على المصالح المادية وحدها.
عالم متعدد الأقطاب.. ومع ذلك مضطرب
توضح الاستراتيجية أن العالم يتجه نحو تعددية قطبية مضطربة، حيث تزداد القوى المؤثرة وتتناقص القدرة الأمريكية على ضبط الإيقاع العالمي. وتبرز آسيا كالمسرح الرئيس للتنافس، مدفوعة بصعود الصين والهند وتوسع تأثيرهما في الاقتصاد والتكنولوجيا.
لا تخفي الاستراتيجية لهجتها النقدية تجاه أوروبا، التي تتهمها بأنها تعاني "تآكلا حضاريا" نتيجة التحولات الديموغرافية والضغوط الاجتماعية الناتجة عن الهجرة والثقافات المتعددة. وترى الوثيقة أن هذه العوامل أضعفت قدرة أوروبا على حماية نموذجها الليبرالي. وتؤكد الوثيقة أن التكنولوجيا ـ وخاصة الذكاء الاصطناعي، والبنى التحتية الرقمية، والأنظمة ذاتية التشغيل، وحروب الفضاء والفضاء السيبراني ـ ستكون الميدان الرئيس للصراع القادم. وفي هذه البيئة، تدخل أوروبا مرحلة من الشكوك العميقة حول مستقبل الضمانات الأمريكية، بينما تتزايد الدعوات لإنشاء منظومة دفاعية أوروبية أكثر استقلالا.
ويرى "تشاتام هاوس" أن العقد المقبل سيشهد تحالفات مرنة وصراعات طويلة وتنافسا أعمق بين النماذج الحضارية، في عالم تتداخل فيه القوة العسكرية مع التكنولوجيا والقيم في آن واحد. النقطة الجوهرية هنا هي أن "من يملك التكنولوجيا، يملك مفاتيح المستقبل". هذا يرفع من قيمة "التنافس التكنولوجي" ليصبح مساويا في الأهمية للتنافس العسكري والجيوسياسي.
بداية عصر جديد من التنافس الشامل.. واستشراف لمستقبل مضطرب
تكشف استراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2025 أن الولايات المتحدة ترى نفسها في قلب صراع طويل على هوية النظام الدولي. فالصين خصم حضاري شامل، وروسيا تهديد يمكن ضبطه، وأوروبا حليف يحتاج إلى إعادة تأهيل، بينما تتحول التكنولوجيا إلى الركيزة المركزية للقوة في القرن الحادي والعشرين.
وتشير هذه الرؤية إلى أن الولايات المتحدة تتجه إلى تركيز جهودها على آسيا، باعتبارها محور التنافس الحاسم. وهذا سيقود على الأرجح إلى تراجع نسبي للدور الأميركي في أوروبا والشرق الأوسط، ما قد يخلق فراغات استراتيجية لن تستطيع القوى المتوسطة ملأها بسهولة.
أما على المدى البعيد، فإن العالم يبدو أنه متجه نحو نظام متعدد الأقطاب لكنه عالي التوتر، حيث تتداخل المنافسة في ثلاثة مجالات رئيسية: التكنولوجيا الفائقة، والموارد الاستراتيجية، والتحالفات القائمة على الهوية الثقافية والقيم.
وإذا لم تُطوَّر آليات دولية لإدارة هذا التنافس، فإن العالم قد يدخل مرحلة "اللاسلم واللاحرب المستدامة" التي يتوقعها العديد من الباحثين في الأمن الدولي مرحلة لا تشهد حروبا كبرى، لكنها لا تعرف سلاما مستقرا كذلك.
إن هذه الاستراتيجية، في جوهرها، ليست وثيقة أمنية فحسب، بل خريطة للعالم القادم: عالم تتقاطع فيه الجغرافيا مع التكنولوجيا، ويتنافس فيه المنطق الحضاري مع المصالح الاقتصادية، وتعود فيه القوة إلى معناها الأكثر تعقيدا: من يملك التكنولوجيا، يملك مفاتيح المستقبل.
السيناريو المستقبلي المتوقع هو نظام عالمي غير مستقر، حيث تكون المنافسة المستمرة هي القاعدة الجديدة، بدلا من السلام المستدام.