القاهرة وأولوية المستقبل الآمن للسودان
تاريخ النشر: 9th, May 2025 GMT
بالرغم من تقدم الجيش السودانى شهرى مارس وإبريل 2025، وانحسار قوات الدعم السريع المتمردة من العاصمة الخرطوم، فما زال الحسم لصالح الدولة السودانية الموحدة بحاجة إلى الكثير من الجهد على مختلف الأصعدة، لاسيما وأن مصادر التسلح لقوات التمرد لم تتوقف بعد، وهجماتها العشوائية تستهدف إسقاط الدولة السودانية ككل.
هذه البيئة مُحملة بالتحديات الأمنية والسياسية، ليس فقط للسودان وحكومته، ولشعبه، بل للعديد من الدول المجاورة وفى المقدمة مصر، والتي بدورها تتحرك في اتجاهات عدة لمساعدة مجلس السيادة السودانى على استكمال مهمة إنهاء التمرد وبناء السلام الشامل، وتفعيل المؤسسات السيادية، وترسيخ آليات الدولة الوطنية لكل السودانيين، وإعادة الإعمار، والإسهام في عودة اللاجئين السودانيين طواعية إلى وطنهم الغالى مُحاطين بالأمن والأمان.
مبادئ مصرية رشيدة
تنظر مصر إلى السودان كبلد شقيق له وضع خاص للمصريين جميعاً؛ تاريخياً واجتماعياً وسياسياً، ويُعد استقراره الشامل عنصراُ رئيسياً في منظومتى الأمن القومى المصرى والأمن الإقليمي معاً، وهو ترابط وتشابك في المصالح والمصائر معاً، يجعل القاهرة دائماً في حالة استعداد لبذل كل ما يمكن من جهد ومساندة للمؤسسات الشرعية السودانية، وترسيخ وحدة السودان وسيادته، ورفض التدخلات الخارجية التي تسهم في استمرار القتال العبثى من قبل جماعة التمرد وخيانة الأمانة، ما يحول دون اكتساب السودان حالة الاستقرار السياسى المنشود.
اهتمام القاهرة بالتنسيق والتشاور مع مؤسسات السودان الشرعية لا يتوقف عند حد التعامل مع الأوضاع الطارئة وحسب، بل يأخذ منحى مستقبلياً، يبدأ بتوفير متطلبات الجيش السودانى العاجلة، وإعادة تأهيل المرافق العسكرية التي تضررت بسبب هجمات الدعم السريع، ويمتد إلى ترسيخ التوافق حول القضايا المصيرية المشتركة، وفى مقدمتها التعامل مع المواقف الإثيوبية الرافضة لحقوق البلدين في مياه النيل، ولسياستها لفرض الأمر الواقع، ورفضها التعاون مع دولتى المصب بخصوص كيفية تنظيم تدفق المياه، ومنعها المعلومات الضرورية بخصوص تشغيل ما يعرف بسد النهضة، ما يَضُر ويُربك السياسات المائية لدولتى المصب، الأمر الذى يدفعهما لبحث كيفية مواجهة هذا السلوك الإثيوبي العدائى والحفاظ على حقوقهما المائية المشروعة والتي لا تنازل عنها.
زيارة البرهان رئيس مجلس السيادة السودانى في الثامن والعشرين من إبريل الماضى، بدعوة من الرئيس السيسى في ظل تلك التطورات المتسارعة، مثلت حدثاً مهماً على أكثر من صعيد؛ فمن جانب تجسد علاقات وروابط أخوية بين شعبى وادى النيل، وتعكس حرص مصر على أن تكون دائماً عنصر بناء فى جهود السلام ووقف الخراب وإعادة الاعمار، وتعيد الاعتبار للمبادئ التي تتمسك بها تجاه السودان، لاسيما إعطاء الأولوية للحفاظ على الدولة الوطنية المتماسكة ومؤسساتها الواحدة، والتأكيد على رفض أي أدوار تقوم بها جهات محلية وجماعات مسلحة تحصل على الدعم من قبل جهات غير وطنية، تستهدف تقويض مؤسسات الدولة وترسيخ الانفلات الأمني وترويع الآمنين.
وتحرص القاهرة على تأكيد موقفها الراسخ الرافض للتدخلات الخارجية التي تستهدف تعميق الانقسام بين السودانيين وبعضهم البعض، وكذلك الحرص على القيام بدور بناء من أجل السلام والتنمية، وتقديم كل صنوف الدعم للمؤسسات الشرعية وجهودها لإعادة الإعمار، والإسهام الإيجابي في عملية عودة المواطنين السودانيين الى وطنهم طواعية، وتوفير سبل الإقامة للاجئين السودانيين في مصر.
المبادئ التي تتمسك بها مصر تجاه الحالة السودانية على النحو المشار إليه، من شأنها أن تعيد للسودان استقراره وأمنه، شريطة أن تتوقف الحرب، وأن تُهزم الطموحات العبثية لقوات التمرد السريع، وتدور عجلة المباحثات بين أطراف الصراع المؤمنة بالوطن السودانى الموحد ذي السيادة، بأقصى درجة من الشفافية وحُسن النوايا، وبما يسمح بمرحلة انتقالية تمهد لنظام سياسى ناضج يحفظ حقوق البلاد والعباد معاً.
المعضلة التي تواجه تلك المنظومة من القيم والمبادئ المصرية الرشيدة، أنها تتطلب قناعة مسبقة وراسخة من قبل أطراف الصراع بأولوية وقف الحرب والدمار، وأولوية بناء السلام الداخلى، والاعتراف بحق المواطنين السودانيين في البقاء الآمن في وطنهم الأصيل دون أى قدر من الابتزاز السياسى أو الأمنى من قبل أى جهة سودانية، رسمية أو غير رسمية، فضلاً عن حق السودانيين جميعاً فى الأمن الشامل والتنمية والاستقرار.
التشاور المستمر والمصير المشترك
تدرك القاهرة أن التشاور وتبادل الرؤى مع المؤسسات السودانية التي تمثل السودان ككل، وتقديم العون الممكن لترسيخ أدوارها الوطنية، هو واجب يعكس القدر المشترك والمصير الواحد بين الشعبين المصرى والسودانى، وهو إدراك رشيد لا يغيب عنه وجود تعنت ولا مبالاة من قبل بعض الأطراف السودانية التي تحمل السلاح، وأيضاً قوى مدنية وحزبية لا تبدى اهتماماً مناسباً تجاه أولوية الحلول السلمية ويتماهى بعضها مع سردية الدعم السريع الخبيثة.
وتتصدر قوات الدعم السريع القوى الرافضة لأمن السودان الموحد واستقراره، إذ تصر على استمرار الحرب والقتل والتخريب تحت دعاوى ومزاعم غير شريفة، تتناقض تماماً مع أبسط الحقوق المُعترف بها لوحدة البلاد وأمن العباد، ما يُوجب مواجهتها والحد من تأثيرها وإفشال استراتيجيتها القائمة على الاستمرار العبثى في الحرب والخراب دون أى احتمال لبسط سيطرتها على كامل ربوع السودان، ومستهدفة تحطيم الجيش وهو المؤسسة الوطنية الجامعة، والمنوط بها مسئولية مواجهة تلك القوى الشريرة، وصولاً إلى دحرها كاملاً.
وكما تدل خريطة المواجهات حتى مطلع مايو الجارى، فإن نجاح الجيش في استعادة السيطرة على الخرطوم والمؤسسات السيادية التي كانت تحت سيطرة الدعم السريع منذ أبريل 2023 حيث بدأت المواجهات العسكرية المفتوحة، فإن عملية تطهير الخرطوم من عناصر الدعم السريع المتمردة، وإن تشكل خطوة مهمة على طريق هزيمة قوى التمرد، فإن الأمر يتطلب الكثير من الجهد العسكرى والسياسى والدبلوماسى. كما يتطلب التفاعل مع الدول التي تدعم وحدة السودان وقادرة على العطاء ودعم المؤسسات السيادية، وفى مقدمتها مصر.
هجمات عشوائية وأهداف خبيثة
على الجانب الآخر، تثبت الدعم السريع أنها غير معنية بوحدة السودان واستقراره، ولا تهتم بضرورة استعادة الحياة الطبيعية في ربوع البلاد جميعها، وأن هدفها الأكبر هو الاستمرار في العمليات الحربية ضد القوات المسلحة، والسيطرة على العديد من البلدات والمدن الرئيسية في أم درمان القريبة من العاصمة الخرطوم، وكذلك في ولايات الفاشر وكردفان، وتطبيق منهج الأرض المحروقة وانتهاك حقوق المواطنين في المواقع التي يستطيعون الوصول إليها عبر إعدام المدنيين العزل الذين يشاء القدر أن يقعوا تحت سطوة مسلحى الدعم السريع، وهم الفاقدون للحد الأدنى من احترام الإنسان، حيث يبرعون في سرقة السيارات ونهب الممتلكات والاعتداء على النساء والشيوخ وكبار السن بلا رحمة، وتخريب البنية التحتية المدنية كمحطات الكهرباء والمستشفيات والمبانى الحكومية والإدارية ووحدات الإنتاج العامة والخاصة، والتي تصب جميعها في زيادة حجم معاناة السودانيين المقيمين في تلك المناطق.
وتُبرز هذه الانتهاكات الموثقة صوتاً وصورة، حقيقة الدعم السريع كقوة مسلحة لا تؤمن بمعنى الوطن الواحد وحقوق المواطنين، بل خاضعة لاستراتيجيات قوى خارجية فاقدة للتوافق والقبول مع مجلس السيادة السودانى، حيث ترفع شعارات مراوغة تستهدف الجيش الوطنى والمؤسسات السيادية، وتسعى إلى فصل بعض الولايات غرب السودان لا سيما دارفور وغرب كردفان وشمال كردفان وجنوب كردفان والنيل الازرق، عن باقى ولايات السودان، وتشكيل حكومة موازية تناطح الحكومة المعترف بها دولياً التي يقودها مجلس السيادة.
وتوزعت آخر الهجمات العشوائية بالطائرات الانتحارية المسيرة مطلع مايو الجارى على القصر الجمهورى في الخرطوم ومناطق مدنية في أمدرمان، وقاعدة عسكرية في محيط مطار بورتسودان للمرة الأولى منذ اندلاع الصراع، وذلك بالتوازى مع الاستيلاء على مدينتى الخوى والنهود بولاية غرب كردفان، وحصار الفاشر عاصمة إقليم دارفور، ما يعنى أن عمليات تدمير البنية الأساسية والضرورية للحياة اليومية لجموع المواطنين يتم بصورة مكثفة ومُخططة جيداً بعد الحصول من الأطراف الممولة للحرب على أنواع حديثة من الطائرات الانتحارية المُسيرة عن بعد، وهدفها الرئيسى إحباط الروح المعنوية للمواطنين وللجيش السودانى، والتدليل على أن الدعم السريع ما زالت تملك أسلحة وقدرات عسكرية يمكنها الوصول الى العديد من المناطق والمواقع ذات الأهمية الكبرى للجيش وللناس أنفسهم، ومن بين الأهداف الخبيثة لتلك الهجمات العشوائية، مشروعات الطاقة ومحولات الكهرباء ومراكز إيواء النازحين ومخازن الأغذية والأدوية في المناطق الواقعة تحت سيطرة الجيش، كما يبرز هدف منع السودانيين اللاجئين في دول الجوار من العودة إلى وطنهم، ويظهر ذلك في الهجوم على المطارات، وآخرها مطار بورتسودان في شرق البلاد في الرابع من مايو الجارى، والذى توقف العمل به، ما أفقد السودان نقطة اتصال مهمة مع العالم الخارجي. فضلاً عن الهجوم على مطار كسلا القريب من الحدود مع اريتريا.
وتكشف تلك الهجمات الخبيثة على أصول الدولة وحقوق المواطنين بواسطة طائرات انتحارية حديثة الصنع، قادرة على الوصول الى أهداف تبعد مسافة تتراوح بين 600 كم و700 كم، تكشف حجم الدعم الذى يصل إلى الدعم السريع من أطراف خارجية، فضلاً عن تعرض المؤسسات السيادية لحرب نفسية ودعائية مضادة بهدف التأثير على معنويات السودانيين الداعمين لجيش البلاد ووحدتها، وهى استراتيجية تخريبية بالدرجة الأولى، ولا تستطيع أن تمنح أي انتصار للدعم السريع، بل التشويش وتعطيل أي حل سلمى تنادى به عدد من الدول الرشيدة في الإقليم، وعلى رأسها مصر.
د. حسن أبو طالب – بوابة الأهرام
مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: المؤسسات السیادیة مجلس السیادة الدعم السریع من قبل
إقرأ أيضاً:
أمنستي: الإمارات قدمت أسلحة صينية متطورة لقوات الدعم السريع
قالت منظمة العفو الدولية الخميس إن الإمارات زودت قوات الدعم السريع بأسلحة صينية تستخدمها في الحرب التي تخوضها منذ عامين ضد الجيش السوداني، في انتهاك لحظر الأسلحة المفروض من الأمم المتحدة.
وأورد التقرير أن أسلحة متطورة تشمل قنابل موجهة ومدافع ميدانية أعادت الإمارات تصديرها من الصين "تمت مصادرتها في الخرطوم، إضافة إلى استخدامها في دارفور، في انتهاك فاضح لحظر الأسلحة المفروض من الأمم المتحدة" بحسب المنظمة.
وكشفت أمنستي عن رصد "قنابل صينية موجهة من طراز جي بي 50 ايه وقذائف ايه اتش-4 من عيار 155 ميليمترا"، بالاستناد إلى تحليل صور لمخلفات عثر عليها بعد هجمات في الخرطوم وإقليم دارفور.
والثلاثاء، أعلنت الحكومة السودانية قطع العلاقات مع الإمارات التي تعتبرها "دولة عدوان" وتتهمها بتزويد قوات الدعم السريع بأسلحة متطورة تم استخدامها في الهجمات الأخيرة على بورتسودان.
ورغم نفي أبوظبي مد الدعم السريع بالأسلحة، إلا أن تقارير من خبراء أمميين ومسؤولين سياسيين أمريكيين ومنظمات دولية أفادت بعكس ذلك.
وأفادت "أمنستي" بأن الأسلحة الصينية التي تم رصدها في السودان "تصنعها مجموعة نورينكو (Norinco)" المعروفة باسم "تشاينا نورث إنداستريز غروب كوربورايشن ليميتد" (China North Industries Group Corporation Limited) وهي مجموعة دفاع مملوكة للدولة الصينية.
وأكدت أمنستي بالاستناد إلى بيانات معهد الأبحاث السويدي "ستوكهولم إنترناشونال بيس" أن "البلد الوحيد في العالم الذي استورد من الصين قذائف ايه اتش-4 من 155 ميليمترا هو الإمارات في العام 2019".
وأشارت إلى أن "ذلك يدل على أن الإمارات مستمرة في مساندة قوات الدعم السريع" تماشيا مع ما جاء في تقارير سابقة، أحدها للأمم المتحدة.
وذكرت المنظمة أنه سبق لها توثيق أن الدولة الخليجية مدت الدعم السريع بمسيرات صينية الصنع.
ورجح تحقيق منظمة العفو أن تكون قنابل "جي بي 50 ايه" التي "تستخدم للمرة الأولى استخداما نشطا في نزاع عالمي" في السودان "قد أعيد تصديرها بشكل شبه محتم" إلى السودان عبر الإمارات.
وهذه القنابل يمكن تحميلها على المسيرات الصينية الصنع "وينغ لونغ 2" و"فيهونغ-95" التي "تستخدم فقط في السودان من قبل قوات الدعم السريع.. وتوفر من الإمارات.
واعتبرت المنظمة أنه "من المخزي ألا يتمكن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من تنفيذ الحظر القائم على الأسلحة في دارفور.. فالمدنيون يقتلون ويصابون بسبب التقاعس العالمي"، وفق وصفها.