د. سعيد الدرمكي

في ظل التحديات البيئية المتسارعة كتغير المناخ وشُح الموارد، والضغوط الاجتماعية المتزايدة لتحقيق العدالة والمسؤولية المؤسسية، أضحت المؤسسات مطالبة بإعادة النظر في طريقة عملها ونموذجها الإداري. لم تعد الاستدامة خيارًا هامشيًا أو مسؤوليةً حصريةً على الإدارات البيئية أو المجتمعية، بل أضحت خيارًا استراتيجيًا من خلاله يُعاد تصميم السياسات والعمليات لمواكبة متطلبات المستقبل.

وبهذا التحول يبرز سؤال جوهري: هل إدارة الموارد البشرية مستعدة للعب دور قيادي في تعزيز الاستدامة المؤسسية؟ هل تمتلك الأدوات والوعي الكافي لتقود التغيير في الثقافة التنظيمية وسلوك الموظفين ونظم الحوافز والتطوير؟

فمن خلال تبني ممارسات تسهم في تقليل الأثر البيئي وتعزيز الوعي المجتمعي، أصبحت قيادة الاستدامة في سياق الموارد البشرية شريكًا فاعلًا في تحقيق الأهداف البيئية والاجتماعية للمؤسسة. ويُعرف هذا التوجه بمفهوم "الموارد البشرية الخضراء"، الذي يتمثل في دمج مبادئ الاستدامة ضمن جميع وظائف الموارد البشرية، بدءًا من التوظيف الأخضر الذي يُركز على استقطاب كفاءات ذات وعي بيئي، مرورًا بتصميم برامج تدريبية تعزز الوعي البيئي والسلوك المسؤول، وانتهاءً بإدراج مؤشرات أداء ترتبط بالممارسات المستدامة.

علاوة على ذلك، تسهم الموارد البشرية في ترسيخ ثقافة تنظيمية تشجع على الترشيد، والابتكار، والمسؤولية المجتمعية. وترتبط هذه الأدوار ارتباطًا مباشرًا بأهداف التنمية المستدامة التي أقرتها الأمم المتحدة (SDGs) وتحديدًا: العمل (الهدف 8)، والاستهلاك والإنتاج المسؤولين (الهدف 12)، والعمل المناخي (الهدف 13). ولهذا، فإنَّ إدارة الموارد البشرية أصبحت محورًا استراتيجيًا.

وتشير الممارسات الحديثة إلى تزايد تفاعل إدارات الموارد البشرية مع قضايا الاستدامة، حيث بدأت تلعب دورًا محوريًا في دعم التحول الأخضر داخل المؤسسات. عالميًا، اعتمدت شركات رائدة مثل يونيليفر ومايكروسوفت سياسات توظيف تستند إلى الأهداف البيئية والاجتماعية، وخصصت برامج لبناء كفاءات مستدامة، إضافة إلى ربط الحوافز الوظيفية بمؤشرات أداء بيئية. محليًا، برزت مبادرات نوعية في سلطنة عُمان، مثل جهود شركة "بيئة" في خلق وظائف خضراء، ومبادرة "تنمية نفط عُمان" في دمج الاستدامة ضمن برامج التدريب. كما يبرز دور جيل الشباب من المهنيين، الذين يدفعون نحو سياسات أكثر شفافية ووعيًا بيئيًا. ويعزز هذا التوجه ما أشار إليه تقرير "مستقبل الوظائف 2025" للمنتدى الاقتصادي العالمي، بأن التحول الرقمي والمهارات الخضراء سيُعيدان تشكيل سوق العمل، مما يتطلب تطويرًا مستمرًا للمهارات. تعكس هذه المؤشرات أن الموارد البشرية تخطو بثبات نحو دور قيادي في الاستدامة، رغم الحاجة إلى مزيد من التكامل والتمكين المؤسسي.

ورغم وجود مؤشرات إيجابية تعكس استعداد بعض إدارات الموارد البشرية للانخراط في مسار الاستدامة، إلا أن الواقع يكشف عن تحديات تعيق هذا الدور القيادي. أبرزها ضعف المعرفة والتدريب المتخصص في مفاهيم الاستدامة البيئية والاجتماعية، مما يحدّ من قدرتها على دمجها ضمن العمليات التشغيلية. كما أن غياب المؤشرات البيئية في تقييم الأداء يقلل من ربط إنجازات الموظفين بأهداف المؤسسة البيئية، ما يؤثر سلبًا على التحفيز والممارسة اليومية. إضافة إلى ذلك، لا تزال الاستدامة منفصلة عن استراتيجية الموارد البشرية في العديد من المؤسسات، حيث تُعالج كقضية جانبية تُدار من جهات أخرى، بدلًا من دمجها ضمن التخطيط المؤسسي بعيد المدى.

ولكي تتمكن إدارات الموارد البشرية من أداء دور قيادي حقيقي في دعم الاستدامة، هناك مجموعة من المتطلبات الأساسية التي يجب العمل عليها لتعزيز جاهزيتها. أولًا، من الضروري بناء القدرات البيئية لموظفي الموارد البشرية، وذلك من خلال توفير برامج تدريب متخصصة تُعزز فهمهم لمفاهيم الاستدامة مثل التغير المناخي، الاقتصاد الأخضر، والمسؤولية المجتمعية، إلى جانب مهارات قياس الأثر البيئي. ثانيًا، ينبغي دمج الاستدامة في السياسات الداخلية للمؤسسة، بحيث تصبح جزءًا من أنظمة العمل اليومية، مثل ربط المكافآت بأداء الموظف في المجال البيئي، وتضمين مفاهيم الاستدامة في برامج التهيئة والتدريب المستمر. وأخيرًا، يجب إشراك الموارد البشرية في فرق القيادة الاستراتيجية المسؤولة عن تنفيذ خطط التحول الأخضر داخل المؤسسة، مما يُعزز دورها كشريك فاعل في رسم السياسات وصناعة القرار، بدلًا من أن تكون مجرد جهة تنفيذية. تحقيق هذه المتطلبات يفتح المجال أمام الموارد البشرية لتقود التحول نحو بيئة عمل مستدامة ومتكاملة.

في الختام.. يبرز التساؤل: هل نحن مستعدون فعلًا لتمكين الموارد البشرية من قيادة مسار الاستدامة؟ لم يعد دورها تقليديًا، بل بات محوريًا في تحفيز ثقافة العمل المستدام وصياغة السياسات المواكبة للتغيرات العالمية. وعليه، فإن تمكين الموارد البشرية لم يعد خيارًا، بل ضرورة ملحّة لبناء مستقبل مؤسسي أكثر شمولًا واستدامة.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

انطلاق فعاليات مؤتمر التحول الحكومي والقيادة المستدامة بصلالة

انطلقت اليوم أعمال مؤتمر التحول الحكومي والقيادة المستدامة بمنتجع ميلينيوم صلالة، برعاية معالي الشيخ سالم بن مستهيل المعشني المستشار بديوان البلاط السلطاني، وذلك ضمن فعاليات ملتقى العمل ٢٠٢٥، والذي تنظمه وزارة العمل، ويستمر لثلاثة أيام، بمشاركة واسعة من خبراء ومتخصصين من داخل سلطنة عُمان ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية.

وتضمّن المؤتمر عددًا من الجلسات الحوارية وحلقات العمل التي تركز على أبرز القضايا المرتبطة بتحولات سوق العمل والمهارات المستقبلية.

وجاءت الجلسة الأولى بعنوان "الهياكل التنظيمية الحديثة من البيروقراطية إلى الرشاقة المؤسسية"، واشتملت على أوراق عمل ناقشت: التحديات المؤسسية في الأجهزة الإدارية، وأدوات إعادة الهيكلة التنظيمية، وإعادة هندسة الإجراءات، بالإضافة إلى حالات تطبيقية من بعض الدول.

ويشتمل المؤتمر على عدد من الجلسات حول الهندسة السلوكية، والقيادة الحكومية، والجدارات، وتمكين المواهب، والإدارة الذكية، بالإضافة إلى عدد من التجارب الدولية.

ويهدف المؤتمر إلى تحفيز الابتكار والتنمية المهنية، واستعراض أحدث التقنيات الحديثة والابتكارات في سوق العمل لزيادة الإنتاجية وفتح آفاق جديدة، وتعزيز الحوار الاجتماعي والتواصل المهني، لخلق تعاون بنّاء بين المختصين والمهتمين بسوق العمل، لإيجاد بيئة عمل لائقة، وتحسين السياسات العمالية والتنظيمية لتعزيز الإطار التنظيمي لسوق العمل بما يلبي التطورات الاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية، وتعزيز التعاون الدولي والإقليمي عبر توسيع نطاق التعاون مع الشركاء الدوليين والإقليميين لتبادل الخبرات والتجارب والمعارف.

وقال ناصر بن سالم الحضرمي مدير عام العمل بمحافظة ظفار، في كلمته أثناء المؤتمر: إننا في وزارة العمل، وفي ظل "رؤية عُمان 2040"، نؤمن بأن التغيير يبدأ من الداخل، وقد عملنا على بناء منظومة متكاملة من الابتكار والتمكين، وأطلقنا مبادرات نوعية ليست مجرد برامج، بل هي استثمارات في الإنسان، لبناء جيل من القادة القادرين على قيادة التحول، حيث سعت الوزارة خلال السنوات الأخيرة إلى تطوير العديد من السياسات والمنصات الرقمية، وبرامج القيادة وتنمية القدرات، وأطلقنا مشاريع نوعية تدعم العمل القائم على النتائج، وتعزز من شراكتنا مع القطاعين الخاص والأكاديمي.

وعلى هامش المؤتمر، تم توقيع مذكرة تعاون بين المديرية العامة للعمل بمحافظة ظفار وشركة صلالة لخدمات الموانئ، وذلك سعيًا نحو التعاون والشراكة بين القطاعين العام والخاص، وإيمانًا بالدور الاستراتيجي الذي تقوم به وزارة العمل لتنمية قطاع الموارد البشرية في الجهاز الإداري للدولة ودعم التوظيف في القطاع الخاص، وتأكيدًا على الدور الفاعل لشركة صلالة لخدمات الموانئ لتوظيف الباحثين عن عمل في القطاع الخاص وتنمية الموارد البشرية، وتحقيقًا لمبدأ الشراكة بما يحقق الصالح العام.

مقالات مشابهة

  • تستهدف مختلف الفئات العمرية.. برامج تدريبية شاملة للكوادر البشرية بالقطاع الصحي
  • محافظة بورسعيد تتبنى مشروع "تخطيط الموارد" لتعزيز التحول الرقمي
  • جمعية الرواد الشبابية بجازان تنفذ برنامج "حديث الشباب" بالشراكة مع "الموارد البشرية" و"بيت الثقافة"
  • تحولات سوق العمل محور نقاش "مؤتمر التحول الحكومي" بصلالة
  • جامعة طيبة تفتح التسجيل في دبلوم إدارة الموارد البشرية.. آخر موعد
  • جامعة طيبة تفتح باب التسجيل في دبلوم إدارة الموارد البشرية
  • الابتكارات الزراعية وإسهامها في تحسين الإنتاجية وتعزيز الاستدامة البيئية في سلطنة عُمان
  • مؤسسة مناخنا… نموذج تشاركي لتعزيز الاستدامة البيئية في سوريا
  • وزير “الموارد البشرية” يستقبل المشاركين من “إخاء” في اللقاء الكشفي العالمي بالبرتغال
  • انطلاق فعاليات مؤتمر التحول الحكومي والقيادة المستدامة بصلالة