رواية حارة الصوفي.. التأريخ بين قبعة الاستعمار وطربوش الهُوية
تاريخ النشر: 20th, May 2025 GMT
في رواية "حارة الصوفي" الصادرة عن دار دون المصرية عام 2024، يقدم الكاتب المصري محمد عبد العال الخطيب (1973) موضوعا تأريخيا شائكا لم يُطرح كثيرا في الرواية العربية، وهو مرحلة ما بعد الثورة المهدية في السودان ووضع السودانيين الذي أُجبروا على الرحيل من السودان والسكن في مصر، وتحديدا في حارة الصوفي، وبذلك يضعنا عنوان العمل قبالة عتبة النص بشكل مباشر.
فعنصر المكان لم يكن مجرد مساحة تحتضن الحدث، بل كان المحرك الأساس له، فحارة الصوفي كانت بؤرة انطلاق وصيحة الديك التي افتتح بها الكاتب روايته لتبدأ قصة "سيرة آخر سلاطين الجنوب" كما يخبرنا العنوان الفرعي للرواية، الذي اكتفى بكلمة "الجنوب" بدلا من "السودان"، إسقاطا مكانيا لوحدانية السودان ومصر.
تطرح الرواية، بدءا من صفحاتها الأولى، قضية التوتر بين المصريين والسودانيين عبر رفض عائلة "قمر" السودانية زواجها بصلاح، أو "سلاطين"، المصري. وبذلك يُسقط الكاتب حقبة سياسية كاملة ظلت عالقة في أذهان السودانيين حتى بعد سنوات من الحرب المصرية، بقيادة بريطانية، على السودان.
هذا التوتر ينتقل لمستويات وشخوص عدة، سواء على الصعيد الاجتماعي، والسياسي، وحتى العاطفي. فنمر السوداني لم ينس ما فعله الدفتردار بجده في السودان، مدفوعا برغبة الانتقام لكل سوداني دُفن عنوة في مقابر الشافعي جوار قاتليهم ليلقي "قنبلته" المزعومة على فندق "شبرد".
إعلانكما أن رغبة "سلاطين" في الانتقام من أحفاد الشافعي، وانتقام عفيفة من قمر، وانتقام الكرداوي من سلاطين، وسلاطين من الكرداوي، لم تكن أقل شراسة، فهي حرب بشرية، ولكل منهم دوافعه، التي لم تكن دائما صائبة.
بعيدا عن صراع الأفراد، أفردت الرواية مساحة غير قليلة عن تأثير الاستعمار البريطاني على الحياة المشتركة بين السودانيين والمصريين، ليس فقط قُبيل وخلال إعلان الحرب العالمية الأولى، بل تعود بنا إلى الوراء لمعالجة الثورة العرابية وتقاطعها مع ثورة المهدي والدور الاستعماري الذي لعبته بريطانيا بتشظي البلدين لضمان سيطرتها على خيرات الشمال والجنوب.
وبالحديث عن شخوص العمل، زخرت الرواية بشخوص حقيقية من التأريخ، كالمهدي وسليمان الحلبي، وأخرى مُتخيَلة كسلاطين وقمر، كذلك تنوعت الشخوص وظيفيا بين النماء والتسطح بشكلٍ دقيق، مما خدم التدفق السلس للأحداث.
واللافت أنه حتى الشخوص غير النامية لعبت دورا جوهريا في دفع الحدث للأمام، كشخصية "عفيفة" التي أججت غيرة سلاطين من الكرداوي، وشخصية "قمر" التي كانت السبب الرئيس في الصراع بين "سلاطين" و"الكرداوي"، وشخصية "خير" الذي كشف حقيقة القلادة لسلاطين.
كانت شخصيتا سلاطين والكرداوي الأكثر نموا في العمل، فشخصية سلاطين تعرضت لكثير من التقلبات وتحديدا بعد معرفة حقيقة أصوله السودانية وأنه ابن المهدي، وليس فقط رجلا مصريا فقيرا يعمل في الوقائع المصرية ويسكن "حارة الصوفي" رفقة والده الترزي.
أما شخصية الكرداوي، وهي شخصية حقيقية، فقد نمت وتغيرت بشكلٍ خاطف ومذهل، فمن طالب علم يود إكمال دراسته في تركيا، إلى شيخ ذي كرامات، فمشارك بعملية اغتيال السلطان… وفي واقع الأمر لم يكن الكرداوي صاحب القرار في أي من الطرق التي قذفته إليها حياته العجيبة.
تُستخدم الرمزية بمهارة في الرواية، ليس فقط على مستوى السرد والحدث، وإنما على الصعيد التأريخي. فثمة قلادة سلاطين التي تحمل صورة مسجد في السودان تجسيدا للهُوية، والنبتة الذهبية التي كانت بوصلة سلاطين لقبر أمه، وورقة "الكوتشينة" الكاشفة لحقيقة أصول سلاطين المهداوية، وحتى كلبة راسيل البريطاني استُعملت كإسقاطٍ أخلاقي على حرية يناضل الاستعمار في منحها حتى لكلابهم، بينما يسرقونها من بشرٍ يحتلون بلدانهم ويستولون على خيراتهم ويقتلون شعوبهم بكل وقاحة.
إعلانمن خلال هذه الرمزيات، يسلط الخطيب الضوء على تأثير الأحداث التأريخية على الأفراد والمجتمعات، ويُظهر كيف أن الاستعمار لم يكن مجرد احتلال للأراضي ونهب للبلاد والعباد، بل كان له تأثير أعمق على الهُويات والثقافات لسنوات طوال سارية حتى اللحظة.
استخدم الكاتب أسلوب التشظي الزمني، أو ما نطلق عليه في النقد الأدبي "السرد غير الخطي"، متنقلا بين أزمنة وشخوص عدة، موزعا السرد والحوار بتوافق انسجم مع الحدث. هذه التقنية خدمت العمل بشكلٍ ممتاز إذ أضافت نوعا من التشويق وعلامات الاستفهام التي بقي بعضها قائما حتى قُبيل نهاية العمل.
اللغة كانت سلسة للغاية تخللتها بعض الأخطاء اللغوية الشائعة كأن يقول الكاتب في الصفحة رقم 37: "أنا من قمت بالرسم"، والصواب " أنا من رسمت"، فاستخدام الفعل "قام" له دلالة غير التي تفيدها الجملة، وغيرها من الأخطاء النحوية التي يمكن أن نتغاضى عنها لقلتها أولا ولثقل العمل، على مستوى اللغة والمضمون، ثانيا.
كما تخللت الرواية بعض المشاكل على صعيد الحبكة وسير الأحداث، فمثلا لم تكن رسالة توفيق صاحب البنسيون الذي نزل فيه الكرداوي لمرسي التُربي مبررة في النص، ولم يكن منطقيا أن تسرد لنا الرواية أن الكرداوي لم يلحق بسفينته المتجهة لتركيا، لأنه لم يملك ثمن ليلة واحدة قبل إبحار السفينة من الإسكندرية في الفندق، لنجده بعد ذلك يسكن في الفندق لأسبوعين ويبتاع ثمن تذكرة أخرى.
كذلك لم تبين الرواية كيف عرف لورانس أن سلاطين يعمل في الوقائع المصرية وهو لم يلتق به إلا مرة واحدة، ولم يدر بينهما أي حديث يخص عمل سلاطين. جميعها هفوات كان على الكاتب أو الدار -في أقل تقدير- اصطيادها قبل نشر هذا الرواية الرائعة والمختلفة شكلا ومضمونا.
إعلانحارة الصوفي رواية تطرح، وتؤرخ، وتعالج مرحلة دقيقة من التأريخ المصري السوداني، تصرخ في وجوهنا لعلنا نتعلم من أخطاء أسلافنا ونُعلم أخلافنا.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
تضامن واسع مع الكاتب "المياحي" عقب أول جلسة محاكمة علنية في جزائية صنعاء
أثارت أول جلسة علنية لمحاكمة الصحفي والكاتب "محمد المياحي" في المحكمة الجزائية المتخصصة في العاصمة صنعاء الخاضعة لسيطرة جماعة الحوثي تفاعلا واسعا بين أوساط الصحفيين والحقوقيين في اليمن وسط مطالبات بالافراج عنه.
وعقدت المحكمة الجزائية المتخصصة بصنعاء، الإثنين، جلسة ثانية لمحاكمة الصحفي المياحي، بعد قرابة أسبوع من عقد الجلسة الأولى التي جرت بغيابه ورفض إحضاره من السجن، بعد ثمانية أشهر من اختطافه.
وقال عضو هيئة الدفاع عن المياحي، عمار الأهدل، إن المياحي أنكر جميع التهم المنسوبة إليه، وتحدَّث عن ظروف احتجازه.
وأكد المياحي، أنه كاتب وأديب ومؤلف، وأنه تم تحريف كلامه، قائلا "كأنكم تتحدثون عن شخص آخر لا علاقة لي به".
وتحدث عضو هيئة الدفاع عن المياحي عن تحامل المحكمة عندما أعدت مذكرتها القانونية التي زعمت فيها أن منشوراته قد تسببت في مشاكل الدولة الاقتصادية والبيئية والاجتماعية والسياسية والأمنية والقانونية، وحتى مشكلاتها الدولية أمام المحافل الدولية.
واختطفت جماعة الحوثي الصحفي المياحي في سبتمبر الماضي، على خلفية كتابات له على منصات التواصل الاجتماعي تنتقد زعيم الحوثيين.
وأثار استمرار احتجاز المياحي استياءً واسعًا في الأوساط الحقوقية والصحفية، حيث اعتُبر اعتقاله من قبل الحوثيين انتهاكًا صارخًا لحرية التعبير والعمل الصحفي، وسط مطالبات متكررة بالإفراج عنه دون قيد أو شرط.
وطالب ناشطون حقوقيون بالإفراج عن المياحي بضمانة حضورية، مؤكدين أن استمرار المحاكمة لا يتطلب بقاءه خلف القضبان، وأنه من حقه الدفاع عن نفسه وهو طليق، كما كفلت له القوانين المحلية والدولية.
وفي السياق جدد الكاتب الصحفي سعيد ثابت سعيد تضامنه الكامل مع المياحي وقال "الحرية للصحفي الحر والشجاع محمد المياحي الذي لم يسرق ولم يقتل ولم يُخرّب، فقط كتب، كتب ما اعتقد وآمن".
وأكد سعيد أن المياحي سيظل رمز الكلمة الصادقة في مواجهة تغوّل الكيانات التي تسبق الدولة وتفتك بها". متابعا "الحرية للكلمة التي لا تموت، الحرية للضمير الحي في زمن الخوف".
الباحث عدنان هاشم كتب "الحرية محمد دبوان، رجل الصدق والمبادئ الوطنية الخالصة".
الكاتب الصحفي جمال حسن، علق بالقول "يواجه الصديق محمد المياحي اتهامات خطيرة ومجحفة بحقه، وفي جلسة اليوم أمام المحكمة الجزائية، انكر كل التهم الموجهة له برباطة جأش".
وأضاف "ظروف احتجاز لا تستند الى أي قاعدة قانونية او انسانية، وتحويل الرأي إلى قضية جسيمة بنظر المحكمة الجزائية".
وتابع "بصورة عامة كان مشهد جلوس الكاتب مكبلا بالقيود في قفص الاتهام، تحمل رمزية تُجرم كل رأي أو صاحب رأي، وترهيب أيضا". مردفا "تضامننا المطلق مع المياحي".
في حين قال عبدالرحمن النويرة، "حضرت اليوم الجلسة العلنية لمحاكمة الصحفي محمد دبوان المياحي في المحكمة الجزائية المتخصصة ورغم الهجوم الحاد والموقف المهول فيه من قبل ممثل النيابة، ولكني رأيت في القاضي صفات القاضي المتزن الذي استمع إلى محمد دبوان بإنصات وحاوره بطريقة راقية متزنة".
وأضاف "نأمل سرعة الإفراج عن المياحي ليعود إلى أهله وأطفاله بأسرع وقت ممكن خاصة وأنه قضى 8 أشهر في السجن إلى اليوم، بالإمكان الإفراج عنه بضمانة واستمرار المحاكمة وفق القانون والدستور وهو مفرج عنه وليس من الضرورة المحاكمة وهو في السجن".
وكانت منظمات حقوقية محلية ودولية قد أدانت استمرار احتجاز المياحي، واعتبرت أن جماعة الحوثي تستخدم الجهاز القضائي أداةً لقمع الصحفيين ومصادرة الحريات العامة، مشيرة إلى أن محاكمته بعد أشهر من الاعتقال التعسفي تعكس غياب أدنى معايير العدالة.
وحملت العديد من المنظمات جماعة الحوثي المسؤولية الكاملة عن حياته وسلامته، وتدعو إلى إنهاء مسلسل استهداف الصحفيين، ووقف المحاكمات السياسية التي تطال كل من يعبّر عن رأي مخالف في مناطق سيطرة الجماعة.
نقابة الصحفيين اليمنيين سبق وأن أدانت قرار الاتهام التعسفي بحقه في جلسة سابقة، وما تضمنته من اتهامات بسبب نشاطه الصحفي.
وقالت النقابة إنها "تدين ما تضمنه هذا القرار من تكييف وتوظيف لحق النشر واستغلال للقضاء لمعاقبة الصحفي بعيدا عن طبيعة عمله والمنظومة التشريعية الخاصة بالصحافة والمطبوعات".
وطالبت النقابة في بيانها، بإسقاط هذه الإجراءات والإفراج عن المياحي، مؤكدة أن قضايا النشر والتعبير مكفولة قانونيا وأن النظر فيها يكون أمام القضاء الطبيعي ووفق المنظومة التشريعية المتعلقة بقضايا النشر والتعبير.
ويُشار إلى أن الصحفي المياحي يقبع في سجون الحوثيين منذ نحو ثمانية أشهر، بعد أن تم اعتقاله في صنعاء دون تهمة واضحة، فيما تواصل الجماعة تجاهل المطالب الحقوقية بالإفراج عنه وتمكينه من العودة لأسرته ومزاولة عمله بحرية.